• أنا والأسد -//- عبد الواحد الزفري

عبد الواحد الزفري

أنا والأسد

برأس أصلع لامع، وسروال "جينز " أزرق ممزق حد الركبة اليمنى، على هذه الهيئة رآني جارنا الحاج "بوشعيب " وكنت أجري حافي القدمين من مرآب العمارة نحو الشارع، وقت ذروة الشمس في عز الصيف، وأنا أنوح صائحا:

- " وا! أُمِّي...".

أثناء عدوي رمقت الحاج قبالتي يحدجني باستغراب، ويخبط كفا بكف، ومن خلال حركات شفتيه تبين لي أنه كان يردد: " لا حول ولا قوة إلا بالله... " لكني لم أكن لأعيره أي اهتمام، ما كان يهمني هو أن أجري، وأجري فوق طاقة البشر، بل لأتجاوز سرعة العداء "كارل لويس"؟ وربما - آنذاك - حققت رقما قياسيا لن يتجاوزه أصحاب الألقاب العالمية ولو بعد عقود من الزمن؛ لأن الأمر الذي أوجب ركضي بتلك "الحماسة" كان مهولا كما سيعرف ذلك الحاج "بوشعيب" (لاحقا )؛ لما لقيني ليلا وهو عائد من دكانه المقابل لذاك المرآب النحس؛ إذ أمسك بذراعي وربت على كتفي كأنه سيواسيني على أمر جلل قد حل بي، قال لي:

- "الرجوع لله يا ولدي..."، ماذا جرى لك؟ ما رأيتك كما رأيتك!.

ربت ثانية على كتفي وتابع استغرابه:

- "الرجوع لله...!". بالأمس القريب كنت أضرب المثل بتباتك، واتزانك، ورجاحة فكرك... !".

لكني هذه المرة، بلطف أزحت كفيه عن جسدي، حملقت في عينيه، وقلت له:

- ليس كل ما تراه العين حقيقة يا حاج. أنا مازلت بكامل قواي العقلية.

- إذن، لِمَ كنت تجري وأنت في حالة يرثى لها؟!.

ضحكت ملء شدقي، قلت له:

- ذهبت إلى المرآب حيث ترقد سيارة أبي كي أحضر أغراضا نسيها على لوحة القيادة.

بلهفة كبيرة، وابتسامة عريضة، قاطعني الحاج "بوشعيب":

- وما هي تلك الأغراض التي جعلتك تجري لإحضارها حافي القدمين؟.

ابتسمت في وجهه بمكر، قلت له:

- "الرجوع لله... يا حاج!" هل تريد معرفة نوعية تلك الأغراض؟ أم سبب جريي "الهيستري"؟!.

تعرق خجلا من جراء حب استطلاعه، تنحنح وقال:

- أستغفر الله...! لا عليك... تابع حكايتك يا بني.

- "حاضر، لما ولجت المرآب لاحظت غياب الحارس "بَّا العربي"؛ إذ كان على باب كوخه قفل كبير. قصدت السيارة هممت بفتح بابها لكن أثارتني نحنحة آتيت من الخلف، انتبهت نحو مصدر الصوت غير العادي لأتعرف على "المُنحنحِ" ، فصعقت لرؤية كلب بحجم أسد؛ كلب من فصيلة " Doberman" مكشرا عن أربعة أنياب بحجم أنياب خنزير بري، رفع الكلب المخيف ذيله عاليا كالرادار، جفل وجمح كحصان عربي أسود لم يروض بعد. تنحنح ثانية، سال من على لسانه الطويل المتدلي لعاب التشهي لقضمي، وخضمي، وابتلاعي، فخيل لي أنه سيلتهمني قبل أن يقرع "بافلوف" الجرس. في هذه الأثناء بلا وعي مني؛ شلت أطرافي، تجمدت مكاني، ولم أدر لِمَ لمْ أفر آنئذ بعيدا عنه؟ حبست أنفاسي لأوهمه أني مخلوق من حجر كي يعدل عن التفكير في افتراسي.

انسل خُفي عن قدمي اليمنى وكأنه يروم الفرار خوفا من "Dobermann" لعلمه المسبق ؛أن هذه الفصيلة لا تميز بين عظم ولحم أو أي شيء آخر قد يتحرك في غيبة صاحبه؛ ولو كان قطعة نعل لن تغنيه من جوع. الحركة الوحيدة التي أذكر أني قمت بها - أو هيئ لي ذلك -؛ أني حاولت أن أحرك أصابع قدمي ببطء شديد جدا ( لا ترصده العين المجردة ) في اتجاه خفي كي أخفي عن الكلب لحما كان باديا لعيونه الفارغة، لكن هيهات أن تتوه عن أنفه رائحة اللحم في ذلك الحر، أو تسلو أذناه الحادة، المنتصبة عن التقاط دقات قلبي المتسارعة. انقض "Dobermann" اللعين على ركبتي، وبسرعة خاطفة خطف ما خطفه مني وابتعد كي يلتهمه، وقبل أن يكتشف أنه لم يطل شيئا من عظمي، ولا علقت بأنيابه قطعة من لحمي، ولا حتى سال دم على شدقيه، وأن ما كان بين فكيه الضخمين ليس سوى قطعة من قماش "الجينز"، آنذاك كنت قد طرت ك"الفانطوم"، خارج بوابة المرآب، وأقفلتها خلف ظهري، بعدما تنازلت للكلب عن الفردة الشمال، أما بقية الأحداث يا حاج أنت أدرى بها فقد استمتعت برؤيتها مباشرة.".

وإن لم تكن رأيتني على تلك الحال؛ و صلعتي كانت مذهونة بالزيت، لما شككتَ في سويتي، ولما تشابهت على الأسد (الكلبِ) العظامُ.

عبد الواحد الزفري/ المغرب.