علوم وتكنولوجيا

بناء دماغ بشري... هل يصبح حقيقة؟

 

نجاحات علمية في تطوير نماذج مصغّرة من خلايا تبرمج من جديد

الشرق الأوسط

في رداء المخبر الأبيض وقفازات اللاتكس الزرقاء، تحدّق نيدا فيشلاغي الباحثة في مركز إيلي وإيديث للطب التجديدي وأبحاث الخلايا الجذعية بجامعة كاليفورنيا، عبر مجهر خفيف في ست نقاط بيضاء سائلة كالحليب. ويوازي حجم النقطة الواحدة حجم حبّة الحنطة الصغيرة تسبح في وسط مغذّ برتقالي اللون. وتمسك الباحثة ملقطاً في يد، ومقصّا جراحيا في الأخرى، وتقطع النقطة الواحدة إلى قسمين.

 

تنمية أنسجة الدماغ

حين يعمل الباحثون على تطوير دماغ بشري، عليهم أحياناً أن يقوموا ببعض التشذيب. وهذه النقاط البيضاء هي عبارة عن أنسجة عمرها ثمانية أسابيع تحاكي أنسجة الدماغ، وتشبه بصغرها أدمغة الأقزام، إلا أنّ ملامحها الدقيقة والصغيرة تحمل شبهاً كبيراً بالقشرة المخية البشرية المسؤولة عن الذاكرة، واتخاذ القرار، والقدرات الإدراكية المهمّة.

 

طوّرت فيشلاغي هذه «الأدمغة الصغيرة» في مركز «إلي وإيديث»، حيث تعمل، وقد عملت أولاً على غمر مجموعات من الخلايا الجذعية البشرية المحفّزة، والتي يمكنها أن تتحوّل إلى أي نوع من خلايا الجسم المتخصصة، في مزيج مميّز من العناصر الكيميائية.

 

تكاثرت النقاط السابحة في المحيط المغذّي، واندمجت على شكل كريات صغيرة جداً من الأنسجة الدماغية. بعد تغذيتها بجرعات منتظمة من المكونات المحفّزة للنمو، نُقلت نقاط الخلايا أخيراً إلى أطباق بتري تحتوي على مادة مغذّية ممزوجة بالـ«ماتريغيل»، وهي مادة نسيجية من البروتينات تشبه الجيلاتين.

 

في اليوم السادس والخمسين، بدأت مجموعات من الخلايا العصبية تظهر حول النقاط. تحت مجهر بؤري، تكشف شرائح رقيقة جداً من هذه الخلايا طبقات رخوة من خلايا جذعية عصبية متنوعة مقسّمة، إلى جانب الخلايا العصبية والأعصاب التي تغذيها. تبدو هذه الطبقات شبيهة بشكل دماغ جنين بشري في الأسبوع الرابع عشر من الحمل.

 

نماذج دماغية

تعمل بعض المختبرات حول العالم ومنها جامعة كاليفورنيا الذي يرأسه عالم الأعصاب والأحياء بينيت نوفيتش على تنمية الآلاف من هذه التركيبات الدماغية للبحوث. وقبل أقلّ من خمس سنوات، أذهل فريق ضمّ عالمي أحياء من الولايات المتحدة والنمسا واليابان العالم عندما أعلنوا أنهم توصّلوا إلى تطوير أجزاءً أولية من قشرة دماغية بشرية ثلاثية الأبعاد. ومنذ ذلك الحين، يحاول الباحثون بإصرار استخدام التقنيات المختلفة لتطوير هذه النماذج الدماغية الصغيرة، تماماً كما يفعل كالطهاة الذين يسخّرون كلّ جهودهم في تطوير وصفاتهم المفضّلة.

 

يقول نوفيتش، الذي يفضّل استخدام التقنية اليابانية مع بعض التغييرات الطفيفة: «الأمر يشبه صناعة الكعك: إذ لدينا الكثير من الطرق المختلفة للقيام بهذا الأمر. ولدينا أيضاً الكثير من الحيل الصغيرة التي توصّل إليها الباحثون لتجاوز أصعب التحديات».

 

تفتقر كريات الدماغ هذه إلى نظام ذاتي يزوّدها بالدمّ. لهذا السبب، يجب أن تمتصّ كمية كافية من الأكسجين والأغذية من سائل الزرع النسيجي للحفاظ على صحتها. على سبيل المساعدة، تعمل بعض المختبرات على نشر السائل حول التكتلات النسيجية، إلا أنّ باحثي UCLA اختاروا أن ينمّوا التكتلات الخاصة بهم في نسب مرتفعة من الأكسيجين وأن يقطعوا الكريات إلى نصفين في اليوم الخامس والثلاثين، بعد وصول اتساعها إلى ثلاثة ملليمترات، على أن يكرّروا عملية القطع كل أسبوعين. قد يبدو الأمر جذرياً، ولكن تقسيم الكريات على شكل شرائح (تصل بعضها إلى الموت) يساهم في إيصال كميات كبيرة من الأكسجين والأغذية التي تحتاجها. وبعدها، تتابع هذه الشرائح النموّ بشكل منفصل. إذن، لا بأس بتكرار التقطيع، ولكن شرط أن يحصل قبل تضرّر الخلايا الداخلية المتمدّدة.

 

في ظلّ التجارب الكثيرة التي أجروها، خرج الباحثون بالكثير من الابتكارات التي نتج عنها بعض التقدّم المهم الذي أعلن عنه العام الماضي. فقد نجح الباحثون في إعداد نسخ صغيرة من مناطق عدّة في الدماغ كالغدة النخامية hypothalamus، المسؤولة عن تنظيم درجة حرارة الجسم، والعطش، والجوع، إلى العقد القاعدية التي تتحكّم بالحركة. ورصد الباحثون في هذه النسخ تذبذبا كهربائيا سريعا بين الأعصاب، يعكس وجود دوائر كهربائية نشطة فيها. كما بدأت مجموعات البحث أخيراً بربط بعض هذه المناطق المطوّرة ببعضها على طريقة وصل مكعبات الليغو، ليلاحظ العلماء بعدها بعض النمو المبكّر الشبيه بالنمو الذي حصل في كريات الدماغ البشري.

 

فوائد الخلايا الجذعية

يشكّل هذا العمل جزءا من مشروع علمي أكبر يعتمد على تحفيز الخلايا الجذعية لتجتمع وتكوّن كريات أنسجة تشبه الأعضاء، تعرف بالـ«أورغانويد» organoids (نسخة مصغّرة من عضو معيّن، لا يتعدّى حجمها عادة حجم حبّة العدس). صحيح أن الأورغانويد أو النسخة المصغّرة هذه لا تكبر لتصبح نسخة مطابقة للأعضاء البشرية الكاملة، إلا أنها يمكن أن تحاكي البنية الثلاثية الأبعاد لخلايا أي عضو من الأمعاء إلى الرئتين. وهذا الأمر لا يمكن الحصول عليه من خلال دراسة القوارض، لأن تركيبتها البيولوجية مختلفة عن التركيبة البشرية.

 

تعد النماذج المصغرة عن الأعضاء بتقدّم كبير في مجال فهم البيولوجية البشرية الأساسية، والسيطرة على تطوّر الأمراض، إلى جانب توفيرها لاختبارات دقيقة على الأرض لتطوير أو فحص بعض الأدوية. من خلال تطوير نماذج أعضاء مصغّرة بواسطة خلايا المرضى المعاد برمجتها، سيحظى الباحثون بفرصة دراسة المرض بأسلوب فردي، أو حتى استخدام تركيبة العضو المصغّر لاستبدال بعض الخلايا المتضررة كالكبد أو النخاع الشوكي.

 

يقول نوفيتش في حديث نقلته مجلة «ساينس نيوز»: «تتيح الأعضاء المصغرة وصولاً هو الأول من نوعه إلى الوظائف الداخلية في جسم الإنسان»، خاصة أن قطع وفحص الدماغ البشري في الأبحاث العلمية أمر شديد الخطورة. في حال تمكّن الباحثون من دراسة نماذج دقيقة من الدوائر الكهربائية العصبية الموجودة في هذه الأدمغة المصغّرة، قد ينجحون أخيراً في التوصل إلى حلول للحالات المرضية العصبية الصعبة التي يعاني منها البشر كالصرع والفصام والتوحّد، والتي تظهر عندما يتضارب عمل شبكات التواصل في الدماغ.

 

كيف يبنى الدماغ؟

تعتمد وسائل صناعة أنسجة مصغّرة تحاكي أنسجة الدماغ، على الميل الفطري في خلايا الإنسان الجذعية المحفّزة نحو تشكيل نسيج عصبي. فيما يلي، ستطلعون على العملية التي طبقها أحد الفرق البحثية:

 

> اليوم صفر: يتمّ نقل حوالي 9000 خلية جذعية إلى أوعية على شكل V وتوضع في مزيج من الفيتامينات، والأحماض الأمينية، ومادة Y - 27632 الكيميائية (في الأيام الستة الأولى) لتفادي موت الخلايا. خلال أيام قليلة، تتجمّع الخلايا التي تكاثرت على شكل كريات صغيرة من الأنسجة العصبية. يتمّ تجديد مادة الزرع المغذية كلّ يومين أو ثلاثة.

 

> اليوم 18: يتمّ نقل الكريات التي ازداد حجمها، إلى أطباق بتري تحتوي على مادة مغذية ومادة CDLC، وهي عبارة عن مكمّل غذائي يزوّد النسيج بالدهون. تساعد مستويات الأكسجين العالية (40 في المائة من الأكسيجين، خمسة في المائة من ثاني أكسيد الكربون) النسيج على امتصاص ما يكفيه من الأكسجين. تظهر التكتلات التي أصبح شكلها واضحاً، طبقات مبكّرة من أنواع متعدّدة من الخلايا العصبية المتنامية بين الأسبوعين الرابع والخامس.

 

> اليوم 35: عندما يصل اتساعها إلى مليترين أو ثلاثة، يتمّ قطع الأورغانويد أو الأدمغة المصغّرة إلى نصفين لمنح الخلايا الموجودة في داخلها مزيداً من الأكسجين والأغذية. بعدها، يتمّ وضع التكتلات الصغيرة في مادة مغذّية جديدة ممزوجة بمعززات للنمو: مركب يشبه الجيلاتين يحتوي على دعم من البروتينات التي تعرف بـ«ماتريغيل»، ومكمّل الفيتامين بي27، الهيبارين، ومسرّع النمو LIF.

 

> اليوم 56: يتمّ من جديد قطع الأدمغة المصغّرة إلى نصفين ثمّ تنقل إلى أطباق جديدة مصنوعة من مادة البلاستيك تسمح بتسرّب الأكسجين، لزيادة الكمية المطلوبة للنمو الصحي لهذه الأعضاء. بعدها، يصار إلى قطع الأعضاء إلى قسمين كلّ أسبوعين أو أكثر بشكل منتظم حتى اليوم 150.