مبدعون وابطال الحرية

وفاءاً للشهيد النصير عباس مهدي محمد شكر (أبو رغد)// كمال يلدو

اقرأ ايضا للكاتب

وفاءاً للشهيد النصير عباس مهدي محمد شكر (أبو رغد)

كمال يلدو

 

يخرجون كل صباح، قاطعين القرى والأرياف والمدن حاملين اعلامهم الملونة وراياتهم الداعية لبناء الأوطان والإنسان، لرعاية الطفولة والمرأة ولضمان الحياة الحرة السعيدة، ولتحقيق العدالة والمساواة في هذا الوطن المثخن بالجراح والملئ بالحالمين والأحلام. اولئك هم جمهرة شهيداتنا وشهدائنا الأعزاء، الذين لا يغيبوا عن بالنا مهما اشتدت الأزمات وصعبت الأوقات. لهم الذكر الطيب دائما ولعوائلهم الكريمة محبتنا وخالص شكرنا وتقديرنا لتضحياتهم.

***

 الشهيد عباس مهدي محمد شكر ( أبو رغد ـ أبو مسار) من مواليد محافظة النجف عام ١٩٥٢، درس في مدارسها، وعندما تخرج كان يحمل شهادة الدبلوم من (معهد الصحة العالي ـ بدرجة مساعد طبيب).كان توظيفه الأول في البصرة (المدَينَة)، ثم نُقل الى (الفاو)، وبعد أن انهى خدمة الأحتياط العسكرية انتقل الى بغداد عام ١٩٧٧. إقترن بالسيدة (نضال مجيد حميد الياس) في مطلع العام ١٩٧٩، ولم يمهله تدهور الوضع السياسي كثيرا، فاضطر لترك العراق عقب زواجه بأيام معدودة في شباط ١٩٧٩ وتوجه الى بيروت وليعاود نشاطه الوطني من هناك. وعندما اعيد تشكيل فصائل الأنصار المسلحة لمقارعة النظام الدكتاتوري في كردستان العراق كان من اوائل الملتحقين عام ١٩٨٠، وسقط شهيدا في آيار ١٩٨٤.

ومن اجل أن تكتمل صورة المشهد كان لابد من الأتصال بالسيدة نضال، زوجته وشريكة حياته فقالت: تعرفت على الشهيد عبر أحد زملائي (عامر جميل) عندما كنت طالبة في الجامعة المستنصرية، وتم الزواج في اوائل ٧٩،  واضطر للمغادرة مباشرة عقب زواجنا وأيام شهر العسل القصيرة في شباط ٧٩ وقصد بيروت، وقد تمكنت من اللحاق به في تموز من ذات العام. ووضعت مولودي الأول (مسار)  في بيروت من نفس العام، وأفترقنا من جديد ، إذ عدتُ لبغداد فيما التحق هو بفصائل الأنصار في كردستان العراق. كنّا نتواصل (شحيحا) وقد تمكنت من الألتقاء به في تركيا عام ٨٣ وفي ايران عام ٨٤ ، وبقيت معه في كردستان لفترات قصيرة، لكني كنت مضطرة للعودة الى بغداد. في عام ١٩٨٤ التقيته لمدة ثلاثة ايام في احدى القرى القريبة من دهوك، إذ كان أخي يملك عيادة بيطرية في مدينة دهوك. عدت بعدها الى بيت أخي، وإذا بي افاجأ بخبر استشهاده في اليوم التالي لفراقنا، فأنتقلت الى بيت أخي الثاني في بغداد، وساهم بأعالتي وتغطية احتياجاتي بعد أن قام بتأجير منزل لي شاركتني به والدتي وشقيقتي وإبنتي مسار ايضا. ولشدما يحزنني أمر كنت اتمنى ان تمنحنا الحياة ولو فرصة قصيرة لتداوله، الا هو خبر حَملي الثاني بأبني (مجد) الذي ولد عام ١٩٨٤، ذات العام الذي رحل فيه عباس. لقد كان الخبر قاسيا جدا عليّ، ليس بسبب مسؤولية الأطفال بل لأن الوضع العام كله كان مربكا، فالحرب مع ايران قائمة، والحرب على القوى الوطنية قائمة، والسجون والأعدامات قائمة، والبلد كله على فوهة بركان، وأنا مع طفلين (٤سنوات وسنة واحدة)، لكني تدبرتها، وإضطررت لمغادرة العراق بحثا عن الأمان وتوفير المناخ الملائم لتربية الأبناء وأعيشُ اليوم بجزيرة (غوتلاند) بالمملكة السويدية. لقد كبرت مسار وكذا  مجد، وقد تزوج كلاهما وغالباً ما نتحدث بسيرة والدهم الشهيد رغم انهما لا يتذكرانه لكنه دائمُ الحضور بيننا، وأقص عليهم عن كردستان والنضال والعمل الوطني والتضحية من اجل المبادئ السامية، ورغم اللوعة التي تداهمني احيانا بسبب افتقادي له، لكني اتجاوزها بالنظر للمستقبل.

اما الفصل الثاني من حكاية الشهيد "عباس" فيرويه زميلهُ عامر جميل ويبدأ القول: تعود بنا الذكريات الى العام ١٩٧١ حينما تعرفت عليه عبر صديق آخر هو ( وسام محمد جواد) وحينها عرفت بأنه من كوادر "اتحاد الطلبة العام". استمرت تلك الصداقة وتوطدت اكثر ، وكنت استضيفه كلما حل في بغداد مجازا. كنت من اسعد الناس وأنا اشارك في بناء عائلته الصغيرة مع زميلتي الغالية (نضال مجيد)، ورغم كل الأوجاع التي تلتها، لكني مصر على استحضار الفرح اكثر من الألم. كان آخر لقائي به في شارع السعدون مقابل سينما النصر في شباط ١٩٧٩، وأفترقنا. أما أشد الصدمات ألما  كان ذلك الخبر الذي نزل عليّ كالصاعقة، حينما استلمنا في ديترويت (بيانا) موقعا من قبل المنظمات العربية العاملة في بيروت عام ١٩٨٤ وهي تنعي الشخصية الوطنية والكادر الشبابي (عباس مهدي ـ ابو مسار)، ولم يهدأ لي بال قبل أن اعرف  تفاصيل استشهاده بدقة، فعلمت عبر الأستاذ د. كاظم حبيب بأن الشهيد كان عضوا في الأعلام المركزي للحزب الشيوعي، وأنه اصبح سكرتيرا ل (اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي) حتى ساعة استشهاده، اما ظروف الأستشهاد ، فهي الأشد غرابة وقسوة على قلبي. فقد قص لي بعض من رفاقه المشهد الذي أودى بحياته حيث قالوا: كان الشهيد عائدا بمفرده في احدى المناطق، وإذا به يلتقي بإثنين من اعضاء (ح د ك) فمشوا معه لفترة، وكانوا في طريقهم لتسليم اسلحتهم بعد قرار (العفو) الذي اصدره النظام آنذاك، ووعد بدفع مبلغ (١٠٠ دينار) لكل من يسلّم بندقيته للنظام، وهكذا عالجوه غدرا بطلق ناري، اودى بحياته وتركوه في العراء حتى اكتشف رفاقه الأمر لاحقا، وعلمت ايضا بأنهم لم يفلتوا من العقاب . كان أمرا محزنا أن ينتهي  هذا الكادر السياسي الوطني، والشخصية الطيبة بهذه الطريقة ، وهو الذي ترك خلفه حياة المدينة والزوجة والأطفال وألاهلوالأصدقاء وتوجه حاملا سلاحه وأيمانه من أجل مقارعة الدكتاتورية، بغية اقامة وطن آمن، وطن يتسع لأحلام الطفولة وأماني العشاق. لقد تحمل الصعاب والوحدة من اجل نصرة قضية الشعب الكردي العادلة ولمواجهة ارهاب البعث المسلط ضد الأكراد، هكذا وبهذا الثمن غابت شمسه وبهاؤه عنّا. انه لأمر احزنني وأخوتي ووالدتي وكل من عرفه صديقا طيبا مخلصا.

اما آخر الكلام فكان من زوجته الصبورة الطيبة ( نضال مجيد ـ أُم مسار) أذ تقول: مع كل أحزان المشهد، والأرباك الذي لازم حياتي لسنين، فأني مازلت على قناعة بأن الأختلاف في الأنتماء السياسي لا يجب ان يكون ثمنه الغربة والعذاب أو الموت. من حق الناس ان تعتنق ماتشاء، ويجب على القانون والدولة أن تحمي المواطن. إن جرائم البعث وصدام والدكتاتورية لاتغتفر، فلولا ارهابهمما كان (عباس) قد غادرنا، ولا تغرّب وتغرّبنا، ولا مات بهذه الطريقة الخسيسة، انهم هم وحدهم يتحملون المأساة التي يعيشها العراق أمس واليوم، ومع كل هذا فأني  أشعر بالفخر والأعتزاز كوني زوجة الشهيد (أبو رغد)، وأفتخر بانتمائه وحبه للوطن، كما وأشكر رفيقاته ورفاقه الذين وقفوا معي على مدى السنين وغمروني وأبنائي بمحبتهم. أتمنى ان يتعافى العراق من جراحه ويعود جميلا للجميع، ويملؤنيالأمل بناسه الطيبين وشبابه المتطلعين للغد الديمقراطي السعيد.

**الذكر الطيب للشهيد  النصيرعباس مهدي محمد شكر (ابو رغد)

**العار لقتلته الأوغاد وللنظام العفلقي الذي اوصل البلد للدمار

**المواساة لزوجته نضال وأبنته مسار وأبنه مجد، ولكل عائلته وأصدقائه وكل من عرفه انسانا رائعا.

 

كمال يلدو

آيار ٢٠١٥

 

 

 

الشهيد عباس مع زوجته نضال مجيد

 

 

 

الشهيد عباس مع زوجته نضال وابنته مسار في بيروت