اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

كمال يلدو: وفاءاً للشهيد النصير رافد اسحق حنونا (حكمت)

 

الموقع الفرعي للكاتب

كمال يلدو: وفاءاً للشهيد النصير رافد اسحق حنونا (حكمت)

 

تنمو السنابل مستقيمة وبإتجاه الشمس لا غير، بإتجاه النور والدفء. وحينما تنضج وتبدأ بالأنحناء، لا تفعل ذلك إلا لأنها امتلئت بالعطاء والخير للناس. هكذا كانت قوافل الشهداء، ابطال ومناضلات، لم ييأسوا من الصعاب او من قسوة الحاكم، بل كانوا (ومازلنا) يحدوهم الأمل بأن غداً مشرقاً حتما سيأتي لهذه البلاد. قبلوا سّر الشهادة بكل صلابة وثقة وشجاعة، وما تبقى من مسيرتهم التي لم ينجزوها ستبقى امانة علينا .

***

 الشهيد "رافد اسحق حنونا" من مواليد مدينة ألقوش التابعة لمحافظة نينوى عام ١٩٥٨ وفي  ـ المحلة التحتانية ـ

درس الأبتدائية في مدرسة العزّة بألقوش، ثم أكمل المتوسطة في بغداد، وتخرج من (ثانوية الجمهورية /المعلمين) بمعدل عال أهلهُ للقبول في كلية الهندسة/ جامعة بغداد ـ قسم الكهرباء، حيث دخلها في السنة الدراسية ٧٦ ـ ٧٧. ولأن الأوضاع السياسية في العراق كانت تسير نحو الأسوأ، فقد قطع دراسته وغادر بغداد يوم ١٢آب عام ١٩٧٩.ثم انضم لاحقا الى  قوات الأنصار التي اعيد تشكيلها في جبال شمال العراق. وقد استشهد أوائل شهر كانون الثاني عام ١٩٨١ في قرية (سينا / شيخ خدر) بعد معركة مع قوات النظام.

 

يتحدث عن الشهيد "رافد" شقيقه السيد جلال حنونا قائلاً: منذ الصغر كانت له خصال طبعت حياته اللاحقة، الأمانة والصدق والذكاء. فقد كان متفوقا في الأبتدائية وهكذا في المتوسطة والثانوية، اما الجانب الثاني فكنت دائما ما اشبهه بالقديسين، لكثرة مساعدته الآخرين وعطائه اللامحدود، اضافة الى خلق رفيع وشخصية هادئة. وبالرغم من كوني ازيده (١٢) عاما ، فقد كنت افخر به حينما كان يناقش الآخرين بالحجة والمعرفة، وهذا كان انعكاسا لشغفه بالعلم وأرتياد المنتديات الثقافية ومنها أماسي اتحاد الأدباء كل أربعاء.

لم أعرف انا ولا اياً من العائلة وجهته الحقيقية حينما قرر مغادرة بغداد تفاديا للوقوع بيد عصابات البعث عشية الهجمة الشرسة اواخر عام ١٩٧٩ التي شنها نظام صدام ضد اليسارين او ممن كان يشك بولائهم للبعث، وكنت اعتقد انه توجه الى احدى الدول الأشتراكية لأكمال دراسته، وقادني هذا التصور لاحقا للسفر الى هنكاريا لغرض لقائه، إلا ان احد اصدقائه قال لي بإن (رافد) قد التحق بالأنصار وأراني رسالة كان قد استلمها منه.

لم تكن اوضاع العراق سهلة في تلك الأيام العجاف، وكانت عيون المخابرات تبحث عن اي زلة او غلطة حتى تنقضّ على الضحية وتنتقم منها، ولكوننا كنا نسكن بغداد فقد انقطعت اخباره بالمرة، ولم نعلم بخبر استشهاده الا بعد مرور عدة أشهر، عبر دليل أوصل لنا الخبر، ومترافقا مع ذلك  ايضا، عبر إبن عمي (نافع) الذي كان قد زارنا في البيت اثناء اجازته العسكرية وكان في غاية الحزن، فسأله والدي عن اسباب حزنه، حينها اجهش بالبكاء وأخبرنا بإستشهاد (رافد) في معركة بالجبل.  وقد علمتُ لاحقا بأن اهالي (القوش) ربما كانوا قد سمعوا بالخبر نتيجة قربهم من الجبل وعلاقاتهم بالأنصار، إلا ان احداً لم يشأ ان يخبرنا في حينها، لأن الأمر ليس هيناً.

لقد حزنتُ كثيراً عليه، وحزنتُ أكثر أن نخسر كعائلة وكوطن مثل هؤلاء الشباب الذين كان ممكنا أن يكونوا مشاريع بناء وعمران، بدلا من أن يصبحوا مشاريعا للموت.هكذا يرحل عنّا أعز الناسنتيجة غباء الحاكم وعنجهيته وعقليته المتخلفة، فكيف كان ممكناً أن تكون صورة العراق لوتوفرت فرصة للشباب أن يعتنقوا الأفكار التي يرغبوها، وماذا كان سيخسر الوطن لوأنهامشاً من الحرية كان مضموناً وعلنية الأحزاب مكفولة بالقانون،فكيف كان سيكون وطننا؟

لم يمض الخبر سهلاً على والدي (رحل عام ١٩٨٦) فقد عاش حزيناً رغم انه لم يُظهرها علناً، علماً اننا لم نَتمكن من إقامة مراسيم العزاء للراحل، ونجهل  حقيقة المكان الذي وري جثمانه فيه.

 اما والدتي، فلم نتجرأ ان نخبرها بالحدث حتى أذنت ساعة رحيلها عام ٢٠١٠، وبقي الأمر طيّ الكتمان، وكانت كلما اتى ذكر أخي (رافد) تقول: لابد لي أن اراهُ قبل أن أرحل من هذه الدنيا! فقد بقت صورته يومالمغادرة عالقة في ذهنها ، وربما كان الأفضل ان لا تسمع بخبر استشهاده، فما كان سيضيفه لها سوى الألم والبكاء، لكنها رحلت وفي نفسها ذلك الشوق للقائه، وحتى وإن لم يتم، فأنه أهون بكثير من الحقيقة المرة.

لقد عانت عائلتنا كثيرا من جراء ملاحقات الأمن وأسئلتهم التي لا نهاية لها، ومضايقاتهم، فيما كنا ننفي معرفتنا بالأمر، فلم نكن نتجرأ القول بأنه ذهب خارج العراق، ولا حتى أن نقول بأنه (قضى) في معركة مع الجيش، فكلتا الحالتين جريمة بنظر القانون البعثي. لقد بقت صورته وذكراه معي، وقد كتبت فيه قصيدة نُشرت في (مجلة بهرا، العدد ١٦٥ عام ٢٠٠١) وقلتُ فيها:

" مثل سنابل القمح

نموت واقفين

لنمنح الحياة للآخرين

وإذا عدنا للحياة ثانية

سوف لا نختار إلا ذلك الطريق

طريق الحرية والأنعتاق"

 

لعل شخصية الشهيد المحببة، وشجاعته ، وطريقة استشهاده قد تركت ذكريات للكثير من الأنصار الذين رافقوه في تلك المسيرة القصيرة، فقد كتب عنه:

النصير مُناف الأعسم (ابو حاتم) مقالة لمناسبة الذكرى الثلاثون لمعركةـ سينا وشيخ خدرـ ضمنها تفصيلاً دقيقاً لتلك اللحظات الحاسمة حينما طوقت مجموعة من الجيش المدرسة التي نزلت فيها مجموعتنا الأنصارية  في قرية (سينا) نتيجة وشاية ابن المختار، وكيف ان دورية الحراسة  الليلية كانت  من حصة الشهيد، حينما سمع بأقتراب مجموعة عسكرية من باب المدرسة بغية ايقاع اكبر عدد من القتلى بين صفوف الأنصار، فما كان منهُ إلا أن فاجئهم بإطلاق قذيفة (آر بي جي ٧) مما تسبب في مصرع وجرح العديد منهم، لكن النتيجة كانت ان عُرف مكانه نتيجة الضوء الذي تسببهُ هذه القذيفة عند الأطلاق، فأمطروهُ  بوابل من الرصاص جُرح على أثرها في بطنه، وحمله رفاقة (أبو رستم، عايد و ابو علي النجار) على دابة، وتمكنا من مغادرة الموقع، إلا انهم وقعوا في كمين آخر سقط فيه الشهيدان (رافد حنوناـ حكمت ـ و هيثم ناصر الصكَر ـ عايد ـ) ولم يُستدل على مكان دفنهما.

أما النصيرة د. كاترين ميخائيل (د.سعاد)، فقد صادف التحاقها بقوات الأنصار بعد فترة قصيرة تلت تلك الحادثة وتقول : حينما وصلت الى مقر (الفوج الثالث في قاطع بهدينان) كان الحزن واضحا على الأنصار هناك، وحينما جاء أخي  النصير باسل الصفار ( سعيد ) لأستقبالي والترحيب بي قال: بقدر فرحي بلقاء شقيقتي في هذا العمل الوطني العظيم، بقدر شعوري بالحزن لفقدان أحد رفاقنا الأنصار. اما الأمر الثاني فكان (والحديث مازال للنصيرة د.سعاد) فقد التقيتُ في تلك الفترة ايضا النصير (سمير توماس)ابن القائد توما توماس والذي كان قد التحق في تلك الفترة، وبعد سماعه الخبر، فقد اختار(حكمت) اسماً حركياً له، لأن هكذا كانت القاعدة في العمل الأنصاري، وقال يومها: إني اختارُ هذا الأسم، حتى لا تغيب عن بالنا ذكرى الشهيد ويبقى اسمه عالياً.

اما النصير نبيل دمان، فقد نشر مقالة في  مجلة "رسالة العراق العدد ٦٢، شباط ٢٠٠٠" تحت عنوان ـ في ذكرى معركة سينا ـ شيخ خدر البطولية ـ ضمنها الحادثة وذكريات عن الشهيد وعن سيرته الشخصية. ولعل واحدة من المفارقات الجميلة التي ذكرها السيد جلال حنونا، شقيق الشهيد، وفي الحديث عن الصديق نبيل دمان، بأنه قد أسمى احد ابنائه (حكمت) تيمنا بالشهيد ومن أجل بقاء ذكراه خالدة دوما، فأية صداقة وأية رفقة وأي اخلاص للمناضلين.

 

كثيرة هي الذكريات، ومازال عطرها نديا، لكن تبقى غصة عالقة في الفم، وألم يضرب الفؤاد عن الدرس الذي نتعلمه من هذه الشهادة وغيرها، عن افواج من خيرة الشباب والشابات الذين رحلوا وهم غصوناُ يافعة فداءا للوطن، نعم، ولكن لماذا؟ فما الذي تغير طوال كل هذه السنين، وأي شئ تعلمنا نحن او تعلم شعبنا من دروب الشهادة، وأي حصاد جنيناه بعد هذه المسيرة الشاقة والمخضبة ؟ لعلي هنا أذكّر بالدرس، وبالحكمة المهمة  لضرورة تلقيح مجتمعنا بمضادات الدكتاتورية والعنف والتخلف وضيق الأفق، وأن لا ننحني لهذه العاصفة الصفراء التي هبت على وطننا حتى بعد مرور(٣٤) عاما على شهادة "حكمت" و رفيقه "عايد"، وأن نُرسي على أرض صلبة صخرية نظاماً مدنياً ديمقراطياً يقوم على حرية الأنسان ومساواته وأحترامه وتوفير كل وسائل الراحة والتقدم والتطور له، نظام ينبذ الأنتقام والقتل ، ومن أجل تجنيب شعبنا المزيد من بحور الدماء والأنطلاق نحو بناء المجتمعات العصرية التي تؤمن بالديمقراطية وتوفر أساس حمايتها من اعدائها.

 

**المجد والخلود للشهيد النصير رافد اسحق حنونا (حكمت) ورفاقه الميامين

**الرحمة لوالديه الكرام، وألمواساة لعائلته الرائعة وأصدقائه وأحبابه

**النصر المؤزر للقضية العادلة التي استشهد من اجلها، لتحقيق (وطن حر وشعب سعيد)

 

كمال يلدو

أيلول ٢٠١٥

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.