حوار مع الكاتبة التركيّة اليف شفق// ترجمة قحطان المعموري
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 14 حزيران/يونيو 2024 10:13
- تاريخ آخر تحديث: الجمعة, 14 حزيران/يونيو 2024 10:13
- كتب بواسطة: قحطان المعموري
- الزيارات: 436
حوار مع الكاتبة التركيّة اليف شفق
ترجمة قحطان المعموري
تقول الكاتبة الأمريكية مايا أنجيلو: "إننا نكتب لنفس السبب الذي يجعلنا نسير أو نتحدّث أو نتسلّق الجبال أو نسبح في المحيطات - لأننا نستطيع..." مضيفة أن "... لدينا بعض الدوافع بداخلنا تجعلنا نريد أن نشرح أنفسنا للآخرين. لهذا السبب نرسم، ولهذا السبب نجرؤ على حب شخص ما - لأن لدينا الدافع لشرح من نحن..." غالبًا ما يتجلّى هذا الفعل في سرد القصص، وهو الأمر الذي يشير إليه الكاتب الكندي يان مارتل على أنه "... الغراء الذي يربطنا معًا"، مضيفًا أنه "بدون قصص - شخصية، عائلية، محلية، وطنية، عالمية - نحن لا شيء؛ نحن لا شيء؛ نحن لا شيء". أي أننا حيوانات منعزلة، نعبر السهل بغباء، لا نعرف إلى أين نتجه أو لماذا. القصص تحدّد هويتنا، وتخبرنا من نحن، وتعطينا الاتجاه.."
التقت مجلة ( ثوت ايكونومكس ) بالكاتبة اليف شفق لمعرفة المزيد عن فنها وكتاباتها وكيف يمكن للأدب أن يغيّر العالم.
إليف شفق روائية بريطانية تركية حائزة على العديد من الجوائز، والكاتبة الأكثر قراءة في تركيا. تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، وأصدرت سبعة عشر كتابًا، من ضمنها أحد عشر رواية. تُرجمت أعمالها إلى خمسين لغة. حصلت شفق على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية ، وقامت بالتدريس في جامعات مختلفة في تركيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بما في ذلك كلية سانت آن بجامعة أكسفورد، حيث حصلت على مرتبة زميلة فخرية فيها. وهي عضو في مجلس الأجندة العالمية للاقتصاد الإبداعي وعضو مؤسس في (المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية). تعتبر شفق مدافعة عن حقوق المرأة وحرية التعبير، وهي متحدثة عالمية لمرتين في مؤتمر (تيد كلوبال) ، وتتلقى في كل مرة الإعجاب والتقدير. تساهم شفق في منشورات كبرى حول العالم وقد حصلت على لقب فارس الفنون والآداب. في عام 2017، تم اختيارها من قبل مجلة بوليتيكو كواحدة من اثني عشر شخصًا سيجعلون العالم أفضل. شاركت شفق في العديد من لجان التحكيم الخاصة بمنح الجوائز الأدبية وترأست جائزة ويلكوم عام 2019.
س: كيف دخل الأدب الى حياتك؟
إليف شفق : بدأتُ كتابة القصص في سنٍ مبكّرة. كان عمري حوالي 8 سنوات عندما بدأت بكتابة قصصي القصيرة الأولى. لكن لم يكن ذلك لأنني كنت أحلم بأن أصبح روائية يومًا ما. لم أكن أعلم حتى أن مثل هذا الشيء ممكن! لم يكن هناك مؤلفون من حولي سبق لهم النشر، ولم يكن هناك مثل هؤلاء القدوة. لذلك، كان الأمر بالنسبة لي أشبه بأن يمشي المرء في الظلام، محاولًا العثور على طريقه الخاص، متبعًا غريزته دون معرفة السبب تمامًا. بالنسبة لي، كان الأدب، ولا يزال، حاجة وجودية.
في ذلك الوقت، عندما كنت طفلةً في حيٍ محافظٍ ومتدينٍ في أنقرة، عاصمة تركيا، كنت أعتقد أن الحياةَ مملةٌ للغاية. لم يكن لدي إخوة، وليس لدي الكثير من الأقارب، وبعد حادثة اعتداء جنسي في الحي، لم يُسْمحْ لي مثل العديد من الفتيات الأُخريات، بالخروج واللعب في الشارع. أتذكّر بوضوح تلك الأمسيات الطويلة من الملل. أردت أن أجد بوّابة إلى "مكان آخر"، إلى أرض أخرى، إلى أرض القصص. لقد كانت الكتب والقصص بمثابة البوابة بالنسبة لي.
لهذا السبب أعتقد أنه من العدل أن أقول إنني بدأت كتابة الروايات لأنني كنت وحيدة. كنت طفلة وحيدة، طفلة منعزلة ، ربتني أم عاملة وحيدة، وهو أمر غير معتاد في ذلك الوقت في تركيا. حتى سن العاشرة، كنت مع جدتي، التي كانت شخصيّة استثنائيًة ومفعمًة بالحيوية ورحيمًة بشكل لا يصدق. كانت الجدة (مُعالٍجَة) وكان منزلها مليئًا بالسحر والخرافات والأعشاب وخرز العين الشريرة المتدلية وفناجين القهوة التي تنتظر "القراءة". كنت أشاهد كل هذا بشعور من الدهشة. لقد أظهرت جدتي لي أن الكلمات لها قوّة.
عندما أنظر إلى رحلتي الأدبية، أدرك شيئين. أولاً، كنت دائماً قارئةً نهمةً، وأقرأ من الشرق والغرب على السواء. ثانيًا، كثيرًا ما شعرت بأنني "الآخر". حتى في وطني الأم، لم أكن متأقلمة تمامًا. لم أكن كذلك قط.
ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنني ولدت في فرنسا، ستراسبورغ. بعد انفصال الوالدين، بقي والدي في فرنسا وتزوج مرة أخرى. وفي غضون ذلك، أحضرتني والدتي إلى تركيا. لذلك نشأت مع امرأتين وبدون أب. وكان ذلك أيضًا أمراً غير عادياً بعض الشيء.
بالنسبة لوالدتي، كانت تركيا بالنسبة لها دون شك هي الوطن الأم الذي ننتمي إليه. بالنسبة لي، كان بلدًا جديدًا تمامًا وكان علي أن أكتشفه من الصفر. وهكذا وصلنا إلى منزل الجدة في أنقرة، وهو منزل محافظ للغاية وأبوي ومنغلق على نفسه. هنا شعرت وكأنني غريبة ، متشبّثة بحافة المجتمع، أحاول فهم طرقه، ألاحظ ، والاحظ .
ثم عندما كنت في العاشرة من عمري تقريبًا، أصْبَحتْ والدتي دبلوماسية، حيث سافرنا أنا وهي لفترة طويلة بعد ذلك الى إسبانيا والأردن وألمانيا. ذهبت إلى المدارس الدولية هناك وتعلّمت لغات أخرى.
في أوائل العشرينات من عمري، انتقلتُ إلى إسطنبول بمفردي، معتقدًةً بشغف أن المدينة تناديني ، وككاتبة، فهذا هو المكان الذي يجب أن أكتبَ فيه كتبي وأنشرها. لكن إسطنبول - التي أعتقد أنها مدينة النساء - كانت عاشقًا صعبًا. بعد سنوات عديدة من الكتابة والنشر، انتقلتُ إلى بوسطن، ميشيغان، ثم أريزونا، توكسون. ثم عدتُ مرةً أخرى و بشوقٍ أيضاً إلى إسطنبول ، بعد ذلك تركتها نهائيًا وانتقلتُ إلى لندن. إن حالة المنفى المستمرّة هذه هي حالة أجد صعوبة في شرحها للآخرين ولكنها الواقع الذي كنت عليه. لقد كانت الحياة دائما متجّولة. أنا بدويّة فكريًا وجسديًا وروحيًا. أنا مسافرة، على حد تعبير جيمس بالدوين. لقد منحني الأدب إحساسًا بالاستمرارية والتماسك؛ لقد أبقى أجزائي متلازمة معًا. لقد ساعدني ذلك على التواصل حتى عندما شعرت بعدم الإنتماء. لهذا السبب، عندما أقول أن الكتب يمكن أن تنقذنا؛ الكتب يمكن أن تكون أصدقائنا الأعزاء، معلمينا الرائعين، رفاقنا المخلصين على الطريق، فأني أعني ذلك حقًا، لأنه حدث لي .
س: كيف يمكن للخيال والسرد القصصي أن يوسّعا حياتنا؟
إليف شفق: حسنًا، أريد أن أعطي مثالاً، إذا جاز لي ذلك. كنت طالبًة في المدرسة الثانوية في تركيا (بعد عودتي من إسبانيا) عندما قرأت لأول مرة رواية «جسر فوق نهر درينا» للروائي اليوغوسلافي إيفوأندريك، وفي ذلك الوقت، كانت هناك يوغوسلافيا بالطبع.
حتى ذلك الحين، في المدرسة في تركيا، كنت قد تشبّعت بالنسخة القومية من التاريخ في الكتب المدرسيّة. لقد علمت أن الإمبراطورّية العثمانية كانت إمبراطورّية عظيمة ومجيدة، وقد جلبنا العدالة والحضارة واللطف أينما ذهبنا. وينبغي لشعوب الأراضي التي فتحناها أن تكون ممتنّة لنا لأننا كنا حضارة متفوّقة وقوّة عسكريّة متفوقّة وساعدناهم على تطوير أنفسهم. إنه السرد الكلاسيكي! لكن هذه النسخة الرسميّة من التاريخ كانت الرواية الوحيدة التي سمعتها عندما كنت طالبة. ولكن بينما كنت أقرأ هذه الرواية للكاتب اليوغسلافي إيفوأندريك، لأنني أحببت الروايات، وجدت مشهدًا كان فيه فلّاحان في البلقان يتحدّثان عن الإنكشارية - الجيش العثماني. يقول أحدهم إنه بفضل النظام العثماني، تمكّن الأولاد الفقراء في جميع أنحاء البلقان من الحصول على التعليم، وإذا كانوا أذكياء وناجحين يمكنهم حتى أن يصبحوا وزراء! يمكنهم أن يصعدوا إلى أعلى السلّم الاجتماعي، ويكسبوا الثروات والسلطة والهيبة .
لكن الفلّاح الآخر يقول ، بسبب النظام الإنكشاري ،عانى الناس بشكل كبير. تم أخذ هؤلاء الشبّان من عائلاتهم بالقوّة، وتم تغيير ديانتهم دون موافقتهم ولم يستطيعوا حتى رؤية أمهاتهم مرة أخرى. لقد أُجْبِروا على محوِ هويتِهم، ونسيانِ لغتِهم و ذكرياتِهم…. كيف يمكن أن يكون هذا نظاما عادلاً؟
وبينما أنا أقرأ هذا الحوار، إنفتحت فجاةً نافذة في ذهني. لقد فهمت ما كان يحاول الروائي فعله. لا يوجد شيء اسمه تاريخ واحد. هناك تواريخ وقصص متعددة تنتظر أن تُروى وتُبحث وتُفهم وتُقدر.
تتغيّر "القصة " اعتماداً على مَنْ يَرويها. إن النظام الإنكشاري الذي تعلّمت أن أفتخر به في المدرسة كمواطنة تركيّة قد جلب الألم والبؤس والظلم لكثيرٍ من الناس على مرِ القرون. ولكن كان له أيضًا جوانبه الإيجابيّة، لذا كانت الحقيقة معقّدة ومتعددة الطبقات ولم نتمكّن من فهم هذا التعقيد بطريقة إنسانية دقيقة إلا من خلال الخيال. ما لا تستطيع السياسة أن تقوله وتتركه صامتًا، يمكن للخيال أن يقوله.
وهنا يكمن السبب في أهمية الأدب. إنه يُخرجنا من مناطق راحتنا ويدفعنا لرؤية القضايا من زوايا مختلفة. الخيال هو تمرين فكري. نحن جميعًا نمارس الرياضة – أو على الأقل نريد ذلك – للعناية بأجسامنا. ولكن كيف نعتني بالعقل؟ تساعدنا القصص على تطوير المرونة المعرفيّة، وتقوية عضلاتنا المعرفيّة. إنه نموُ فكري ولكنه نموّ روحي أيضًا. إنه يغيرّنا في أعماقنا. قصص تعيد إنسانية أولئك الذين تم تجريدهم من إنسانيتهم. إنها تساعدنا على فهم أنه لا يوجد "نحن" مقابل "هم"، وأن "الآخر" هو في الواقع أخي وأختي؛ الآخر هو أنا .
س: هل يمكن للخيال والسرد القصصي مواجهة الروايات المتأصلة حول النوع الاجتماعي والجنس والعِرقْ وما إلى ذلك؟
أليف شفق: الكاتب وحيد عندما يكتب، والقارئ وحيد عندما يقرأ. عندما نقرأ رواية، فإننا نتراجع إلى الفضاء الداخلي، ونسافر داخله. على الأقل لبضع ساعات، نحن لسنا جزءاً من الهويّة الجماعيّة. نحن مُجرّد إنسان يقرأ عن إنسان آخر. هذه الرابطة ثمينة جداً.
إن مجتمعات مثل تركيا تنقسم إلى قبائل. الكيانات الجماعية والقبلية تفشل في التعايش. الهويّات الجماعيّة تمحو الفرديّة. وليس من قبيل الصدفة أن الأيديولوجيات الاستبدادية تعتمد على "الحشود" - الجماهير، حيث تهتف الجماعات في انسجام مع الطاقة المتزامنة. هذه هي الطريقة التي نفقد بها الفردية. إن ما تفعله الروايات هو تغيير المسار واستعادة فرديتنا بطريقة تمكّننا من إعادة التواصل مع إخواننا من البشر.
س: ما هو دور التنوّع الثقافي في بناء أمّة قويّة؟
إليف شفق : يحب الديماغوجيون الشعبويون الادّعاء بأن "التشابه" سيجلب "الأمان". وهذا وهمٌ كبير، إن لم يكن كذبة صريحة. سواء أحببنا ذلك أم لا، فإننا جميعاً، في كل مكان في العالم، مترابطون إلى حدٍ كبير بحيث لا يمكننا أن نفترض أنه بمجرد رفع الجدران يمكننا تجنّب مشاكل الآخرين. لا يعمل الأمر بهذه الطريقة، ليس بعد الآن. ولذلك، فإن تشجيع الأمميّة هو النهج الأفضل والأكثر حكمة. العمل معًا كمجتمع دولي متعاون. إننا كبشرية نواجه اليوم تحديات كبيرة - الإرهاب، والأزمة البيئية، ونقص الغذاء، وتشريد اللاجئين.... هذه قضايا ضخمة لا يمكننا حلها إلا إذا عملنا معًا عبر الدول. لكن المد السياسي في الوقت الراهن هو عكس ذلك: القبلية، والعزلة، والانعزالية.
لقد فقدت تركيا تنوّعها، وبفقدان هذا التنوّع، فقدنا الكثير. ليس فقط على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، بل أعتقد أيضاً أن شيئاً ما قد اختفى في ضميرنا. إن الضرر يكون هائلاً عندما يفشل المجتمع في تقدير تنوّعه.
إننا نعيش اليوم في عصر الثنائيات الراسخة. هذا هو أول شيء نحتاج إلى تحديه : المعارضة الثنائية. لماذا يجب أن أقبل أن يكون لدي خياران فقط؟ لماذا لا نبحث عن طريق ثالث أو خامس أو عاشر؟ يقولون لنا: "أمامكم خياران: من جهة، الحدود مفتوحة بالكامل، ولا توجد فحوصات، بحيث يمكن لأي شخص الدخول، أي الفوضى. وعلى الجانب الآخر جدران قوية. الآن اختر جانبك. فإما أن تكون هنا أوأن تكون هناك." حسنًا، آسف، لست مضطرًا لقبول تفكيرك الثنائي. هذه المعارضة الثنائية مصطنعة تمامًا، ومفروضة من أعلى. وبدلاً من ذلك، يمكننا أن ندافع عن سياسة هجرة معقولة من خلال ضوابط أمنية معقولة وأن نكون مؤيدين للهجرة، ومؤيدين للتنوّع، ومؤيدين للتعدديّة الثقافية في نفس الوقت. لا تصدّقوا الثنائيات المصطنعة. إن العصور التاريخية التي تفقد قدرتها على الاختلاف الدقيق في التفكير والجدل ستكون أكثر قتامة من غيرها. لقد عَرِفَ عالِم الإجتماع تيودور أدورنو ذلك وكتب مقاطع مؤثرة بشكل لا يصدق حول أهمية الفروق الدقيقة. إن الاستبداد هو تآكل ومحو للتعددية والكُثْرة.
بشكل عام، أعتقد أننا كبشر نتعلّم من أشخاص مختلفين عنا. ولهذا السبب كانت المُدن تاريخياً مراكِزاً للثقافة والفن والديمقراطية والفلسفة. المدينة، كما قال عالِم الاجتماع ريتشارد سينيت، هي المكان الذي من المرجح أن تلتقي فيه بشخصٍ مختلف عنك، فهي "المستوطنة البشريّة التي من المرجّح أن يلتقي فيها الغرباء". تستفيد المجتمعات من الحركات والهجرات مثلما تستفيد البشريّة من الشمولية والتنوّع. وبينما ندافع عن هذه القيّم الأساسية بكل إخلاص، يجب علينا أيضًا أن نفهم الحاجة إلى الأمن الوطني والدولي والسلام والتعايش.
لذا، لا تصدقوا ماكنة اليمين المتطرف التي تقول إن “التقدميين لا يهتمون حتى بهذه القضايا؛ إنهم يريدون أن تكون لديهم حدود مفتوحة بالكامل لأنهم لا يهتمون بالأمن أو التماسك الاجتماعي”. هذه مجرد دعاية.
س: ماذا يمكن أن نتعلّم من الشعبويين والانعزاليين والقبليين؟
إليف شفق: يمكننا أن نتعلّم الكثير. ويجب علينا ذلك. أحب أن آخذ كلمات جبران خليل جبران وأحوّلها إلى شعار لعصرنا. اعتاد جبران أن يتحدّث كيف تعلّم الصمت من الثرثار، واللطف من الفَظْ... وبالمثل، يمكننا أن نتعلّم قيمة التنوّع من القوميين، وأهمية الديمقراطية الليبرالية التعددية من الشعبويين، وحتى جمال التضامن العالمي من القبليّة.
إن أكبر الصراعات اليوم هي التي تجري في مجال الثقافة. الصدامات الكبرى لا تتعلق بالاقتصاد في حد ذاته، ولا تتعلق بالسياسات الحزبية أيضًا. "ساحة المعركة" الرئيسية اليوم هي الثقافة. إن هذا حقا يكسر قلبي. إن الثقافة، التي تعتبر أقوى جسر بنته البشرية للتواصل مع بعضها البعض عبر جميع الحدود، أصبحت الآن ساحة معركة. ومن دون فهم هذا، لا يمكننا أن نفهم تناقضات اليوم.
يحب الشعبويون تقسيم المجتمع إلى معسكرين: الشعب مقابل النخبة. إنهم يحبون أن يفكروا في الناس كمعسكر متجانس. هذا وهم كبير. وبالمثل، فإنهم يربطون بين "النخبة" و"الليبراليين" وهذا تشويه للواقع. يرى الشعبويون، عدم وجود علاقة لكلمة "النخبة" بالمال أو السلطة أو الامتيازات. الأمر كله يتعلق بالقيّم. لذلك، ووفقًا لهم، فإن مثال "المؤسسة" ليس النخبة، إن النخبة هي الطالب الجامعي الذي لا يستطيع دفع رسومه الدراسية ويتمتع بقيّم ليبرالية. هل هذا صحيح؟ هل يمكننا تصديق ذلك؟ أنا أقول لا. أنظروا إلى اليمينية الفرنسية مارين لوبان واليميني الهولندي خيرت فيلدرز ومساعد ترامب السابق ستيف بانون، أليسوا من النخبة؟ بالطبع هم كذلك.
يمكن أن تنتمي النخبة إلى وجهات نظر سياسية مختلفة: محافظة، وليبرالية، وشعبوية أيضاً. لقد كتب عالم الاقتصاد والإجتماع باريتو عن هذا منذ قرن مضى. وتحدّث عن تحوّل النُخَب ووصَفَهمْ بالأسود والثعالب. يتعيّن علينا أن نفهم أن الشعبويين، على الرغم من كل ادعاءاتهم الفخمة، ليس لديهم مشكلة مع النخبوية على الإطلاق، ما داموا هم النخبة الجديدة.
س: ما هو دور الفلسفة في فهم الحياة؟
إليف شفق: أجد أنه من المهم جدًا أن نفكّر مليًا في الطريقة التي نفكّر بها، والطريقة التي "نَعرِفْ بها". اعتاد الصوفيون الحديث عن أهمية نبذ ما تعلّموه، أي التخلّي عن حقائقك، وقناعاتك ، وأن تقبل وتفهم كونك مشوّشًا بعض الشيء، وضائعًا بعض الشيء، وحائرًا بعض الشيء. هذا جيّد. إنها أفضل من شمولية اليقين. لذا، فأن الارتباك بالنسبة لي ليس بالضرورة أمرًاً سيئًا. لقد نسينا أن نقول "لا أعرف". نحن لا نقول ذلك بعد الآن. إذا كان هناك شيئاً ما لا نعرفه، يمكننا البحث عنه في جوجل! وهذا هو الجهل في عصرنا.
أنا أقوم بالتمييز الثلاثي بين "المعلومات" و"المعرفة" و"الحكمة". هذه أشياء مختلفة تمامًا. إن العصر الذي نعيش فيه مليء بالمعلومات – والمعلومات الخاطئة. نحن نميل إلى الاعتقاد بأنه كلما زادت المعلومات التي لدينا حول قضيّة ما، كلما زادت معرفتنا بها. في الواقع، الأمر عكس ذلك. كلما زادت المعلومات، قلّتْ معرفتنا. ثم الحكمة شيء آخر تماما. الحكمة تتطلب الذكاء العاطفي. تتطلب التعاطف والمعرفة والقصص. أشعر بالقلق بشأن كيفية انقسامنا اليوم إلى قبائل معرفيّة، والفجوة آخذة في الاتساع. إذا لم نتمكن حتى من الاتفاق حول ما يحدث، فكيف يمكننا إيجاد حلول مشتركة. يجب أن تشكّل الفلسفة بالمعنى الوجودي والمعرفي جزءًا كبيرًا من حواراتنا. ولكن مرة أخرى، أنا أتحدث عن نوع الفلسفة التي تُشارِكْ، والتي تُمارَسْ، والتي تتجاوز جدران الأوساط الأكاديمية.
س: ما مدى أهمية حرية التعبير، وكيف يجب أن نستخدمها على أفضل وجه؟
أليف شفق: أتذكّر أن أحدى الباحثات الأمريكيات قالت لي ذات مرّة أنه من المفهوم تمامًا بالنسبة لي أن أكون مناصرة لحقوق المرأة لأنني عشت في تركيا فترة طويلة. قلتُ لها إنني لا أفهم لماذا لم تكن هي ( نسوّية ) لأنها عاشت في الولايات المتحدة. لقد اعتَبَرَتْ سؤالي مُزحة ، لكني كنتُ جادةً في سؤالي.
لم أفهم قط تلك الازدواجية الجغرافية. كان الأمر كما لو كان يُنظرْ إلى بعض أجزاء العالم على أنها "أراضي سائلة"، وفي هذه الأماكن يحتاج المرء إلى النضال من أجل حقوق الإنسان وحرية التعبير. وفي الوقت نفسه، كان يُنظر إلى بعض الأجزاء الأخرى من العالم - وبالتحديد الغرب - على أنها أراضٍ صلبة، وكان يُعتقد أنها بعيدة كل البعد عن مثل هذه الاهتمامات.
في عام 2016 وما بعده، تحطّمت هذه النظرة المزدوجة للعالم إلى أجزاء. الآن نحن نعلم أنه لا يوجد شيء مثل الأراضي الصلبة مقابل الأراضي السائلة، ونحن جميعا نعيش في الأوقات السائلة، كما أخبرنا عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان. لذلك، دخلنا عصرًا نحتاج فيه جميعًا إلى أن نكون مدافعين وناشطين في مجال حقوق المرأة وحرية التعبيروالديمقراطية التعددية.
لقد قمت بالتدريس في جامعات مختلفة، ويقلقني أن أرى مدى صعوبة الدفاع عن حرية التعبير، على جانبي المحيط الأطلسي، وخاصة في حرم الجامعات. لا توجد هناك منصات، إضافة الى التركيز المفرط على "المساحات الآمنة"، واستخدام حق النقض ضد جميع المتحدثين ذوي وجهات النظر المختلفة ... هذه ليست الطريقة الصحيحة للمضي قدمًا.
يمكننا، بل ويجب علينا، أن نتعامل مع متحدثين ذوي وجهات نظر عالمية مختلفة. ونحن في الأوساط الأكاديمية على وجه الخصوص بحاجة إلى تعدّد الأصوات ووجهات النظر. هذه هي الطريقة التي ننمو بها. علينا جميعًا أن نتعلّم ألا نتعرّض للإهانة والإستفزاز بسهولة. قد يبدو هذا قاسيًا، ولكن عندما أسمع الطلاب يقولون إنهم يشعرون بذلك بسبب ما قاله شخص ما، أقول لهم "حاولوا ألا تشعروا بالإهانة". حاولوا تحدّي الحجُة فكريًا – بالحقائق والكلمات والذكاء والعاطفة. هذا أفضل. وكما قال جلال الدين الرومي: "إذا كنت تغضب من كل فركة، فكيف سيتم تلميع مرآتك؟" نحن بحاجة إلى أن نتحدى فكرياً حتى ننمو فكرياً.
ومع ذلك، فمن الصحيح أيضًا أن أمامنا تحديّات جديدة وعاجلة وغير مسبوقة. من المؤلم جدًا أن نرى كيف أصبحت الكلمات سامة، وفي بعض الحالات قاتلة. الراديو في رواندا، والفيسبوك في ميانمار…. مواقع اليمين المتطرف التي تابعها الإرهابي في نيوزيلندا دينياً…. أو المواقع الإسلاموية التي تابعها الإرهابي في سريلانكا... تعمل التكنولوجيا الرقميّة بشكل متزايد على نشر الكراهيّة والعنف. لذا، فإن الخط الأحمر بالنسبة لي هو العنف.
لابد من التعامل مع الكلمات التي تحرّض على العنف المباشر كفئة مختلفة تمامًا. وفي هذه القضيّة، نحن بحاجة إلى العمل بشكل موحّد وعاجل. لا يمكننا أن نكون سلبيين أو ساذجين. تتحمل شركات التكنولوجيا مسؤولية كبيرة، ويجب عليها أن تتوقف عن التظاهر بأنها لا تفعل ذلك.
س: ما هي أكبر مخاوفك بشأن المجتمع اليوم، وما الذي يمنحك الأمل؟
إليف شفق: سوف تتذكّرون أنه كان هناك الكثير من التفاؤل في أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين. في ذلك الوقت، كان أكبر المتفائلين هم الأشخاص الذين يعملون في مجال التكنولوجيا. وبالتقدم السريع حتى يومنا هذا، دخلنا عصر التشاؤم. هذا هو عصر القلق والخوف والغضب والاستياء... بينما أعتقد أننا بحاجة إلى اتباع خُلاصة جرامشي. كان يتحدّث عن تشاؤم العقل وعن العقل وتفاؤل الإرادة والقلب. نحن بحاجة إلى جُرعة صحيّة من التشاؤم لفهم ما هو على المحك. يمكن للديمقراطيات أن تموت، وهي تموت بالفعل. من البيئة إلى الديمقراطية الليبرالية، وإلى حقوق الإنسان، تتعرض الكثير من الأشياء ذات الأهمية الأساسية للخطر اليوم. إن فهم المخاطر سيجعلنا مواطنين أكثر يقظة واستيقاظًا. ومع ذلك، فإننا نحتاج أيضاً إلى جُرعة صحيّة من التفاؤل. وهذا لن يأتي من السياسة أو السياسيين، بل سيأتي من الناس، إخواننا من بني البشر. لقد دخلنا عصرًا نحتاج فيه جميعًا إلى أن نصبح نشطاء في مجال حقوق الإنسان.
أعتقد أن الإيمان مهم جدًا بحيث لا يمكن تركه فقط للمتدينين، وأن الوطنية مهمة للغاية بحيث لا يمكن تركها للقوميين. مثلما إن السياسة مهمة جدًا بحيث لا يمكن تركها للسياسيين المحترفين الذين يخدمون مصالحهم الذاتية. البيئة مهمة جدًا بحيث لا يمكن تركها لأهواء النخبة. والتكنولوجيا مهمة للغاية بحيث لا يمكن تركها لاحتكارات التكنولوجيا التي يحركها الربح. وفي كل هذه المجالات وغيرها الكثير، يجب علينا أن نصبح أكثر انخراطًا كمواطنين في هذا الكوكب المنعزل.