حوار مع الشاعر والروائي الفلسطيني أنور الخطيب// آمنة وناس

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

حوار مع الشاعر والروائي الفلسطيني أنور الخطيب

آمنة وناس

تونس

 

السلام عليكم

وعليكم السلام ورحمة الله

يقول آه يا وطن،  تبعثرت ملامحك عبر تقاسيم نشيدي الراحل لهناك، تملأ دماؤك شراييني، ووشاح الوجع يسكنني بلا جسد. يرافقه الحرف في التهلل والشجن، ويخاطبه عبر حكاية قصيدة تسأل أن تكتمل، في رحاب إحساس به مستمر. يأخذنا لفظه لصمته المتألم، أمام عناد واقع، وحلم بميلاد محتمل. تصافحه رياح المكان، لتجلسه على مقاعد الترحال، فنستنشق من وجدانه الآمال. يكتب لأوراق الشجر، وبنبضه الحزين يناشدها أن لا تصفر، إيمانا منه بأن العودة لابد أن يبتسم لها القدر، هو الشاعر و الروائي الفلسطيني "أنور الخطيب"

 

مرحبا بك سيدي

مرحبا بك سيدتي وشكرا لهذه المقدمة الجميلة

 

س "أن تكون شاعرا، أن تبني وطنا من ضجر الجمر، وحمى الكلمات"، بماذا يوشوش لك الشاعر عن الوطن؟

ج الشاعر يوشوش لي بوطن كالحلم، أتمسك به ساعة، ويتمسك بي أخرى، وبما أنني ولدت خارج الوطن ولم تُكتب لي زيارته بعد، فإنني أبنيه من ضجر الكلمات، ويجعلني أرمي اسمي من الطابق العشرين وأتبعه، كما جاء في قصيدتي، كناية عن تمسكي بالهوية رغم الإغراءات الكثيرة، يقول لي الشاعر ويدفعني أن أتمسك بحلمي رغم صعوبته، وأن أحافظ عليه بعيدا عن التلوث الذي يقوم به السياسيون خضوعا لفلسفة الأمر الواقع، وأنا في ذلك كمن يقبض على الجمر.

 

س "أنا المؤقّت أحتسي أحشاء أرض وسقم"، متى تكون أنت المؤبّد يكتسي تراتيل فرض و حلم؟

ج أنا الآن أكتسي الحلم، وكل ما أفعله هو أنني أدرب روحي على مواصلة الحلم، وأنقذها من الركون إلى الغياب، الشاعر يدفع الغياب بشرايينه وحروفه ومواقفه ليبقى حاضرا في الحلم، وحتى لو تحقق هذا الحلم، سأرسم حلما آخر قد يكون أجمل، الشاعر والحلم توأمان.

 

س متى يقول الحالم "أنور الخطيب أمتطيك أيها الحلم، فلا تدع ضجيج الوجع يكسر صهيلك؟

 

ج أقوله دائما هذه العبارة، وأكافح كل ما يعكر صفو الصهيل، ليس أمام الفلسطيني الآن إلا التمسك بالحلم، ليس بأمل العودة، بل بالحلم الذي يأتي برجال أنقياء يقودون هذا الشعب إلى نصره المقدس، بإعادة الانتماء الحقيقي إلى أرواح وعقول الفلسطينيين، بترسيخ الوحدة التي لم تتحقق يوما ما، مسيرتنا يا سيدتي مليئة بالضجيج والكبوات والانكسارات والعثرات، ليس لأننا شعب مجبول على الهزيمة ومفطور على تلقي الضربات والخضوع للانتهاكات والمذابح، بل لأن التاريخ لم يقيض لنا قيادات مخلصة ووطنية/ إن أردأ ما تعرض له الفلسطيني في رحلته نحو تحقيق الحلم هو ضبابية الحلم والتلاعب بالحلم، ولهذا، فإن حلمي ليس عاطفيا ورومانسيا وخياليا، فتحقيق الأحلام يجب أن يكون بالدم النقي المقدس، وليس بالمتاجرة والتنازلات والركون إلى الأعداء وحلفائهم، على الفلسطيني أن لا يشرك بحلمه أحدا، رغم الامتداد العروبي والإسلامي والمسيحي، فقد أثبتت سبعون سنة من الموت والتهجير أن على الفلسطيني أن يكون وحيدا، فالجميع الآن منهمكون في ضمه لمتاهة تقضي على ملامحه.

 

س "أبطالي بلا وطن، مثلي أنا"، إلى أين يأخذنا هذا الألم؟

ج قد يأخذنا الألم السلبي إلى التلاشي لو خضعنا لأوجاعه، وقد يأخذنا إلى نهاية إنسانية، أي أن يعود أبطالي إلى الوطن، ولكن الشخوص الذين بلا وطن ليسوا أبطالا وإنما شخوص رئيسيين فقط، أي في الواجهة/ ووجودنا في الواجهة لا يعني أننا حققنا مكتسبات، قد نكون حاجة لآخرين، يتاجرون بنا، يزاودون علينا، يدخلون الجنة عن طريقنا، وهكذا، لا نريد هذه البطولة، ولا أريد شخصيا أن أكون في الواجهة وتحت الأضواء حتى أكون بطلا، البطولة هو أن يكون لي وطن، عندها يصبح كل موطن بطلا، وكل مواطن شخصية رئيسة/ مللنا من الفاترينات، ومللنا كوننا تحولنا إلى مهرجان، وتحولت قضيتنا إلى معرض للتراث ومسرحا للدبكة والأغنيات، ومنصة للقصيدة، ولافتة للمهرجانات والمؤتمرات، هذه المظاهر لن تعيد الوطن إلى أبطاله، إنها تمعن في تخريب الحلم، إن لم تقرن بالفعل المادي الجريء والمواجهة الأسطورية.

 

س" هل هناك خيبة أمل أكبر من أن أكون غريبا، وأشعر بطوابير نمل هذه الغربة ينهشني كل يوم؟""س

ج هنالك خيبة أكبر من أن أكون غريبا، هي الخيبة الكبرى المتمثلة في عدم العمل على التخلص من الغربة/ نعم تنهشنا الغربة كل يوم وكل لحظة، لكن يمكن تحملها لو صاحبها بصيص أمل، وللأسف، لا بصيص الآن إلا بحدوث معجزة، لكن ما يحدث من فوضى ونضالات غير مدروسة وعشوائية، تقدم الشهداء بشكل مجاني، لن يقدم الأمل خطوة إلى الأمام، أنا خائف من هذا النمل كثيرا، أرقبه بإحساس مرعب، وأكاد اشعر بلسعاته يوميا وكيفما تكلمت أو تحركت، إنه يفسد أي لحظة روحانية..الخيبات كثيرة يا سيدتي ومن بينها خيبة أن نبقى غرباء، إنه إحساس مزلزل.

 

س تشعر الفنانة التشكيلية الفلسطينية المغتربة"منال ديب" بأنه"ربما في بداية غربتي عن وطني كنت أتساءل بأي حق تعبث بنا الحياة وتنثرنا رمادا وشتات، ولكن الآن وبعد الظلم الذي أراه يعم البلاد ألوذ بوطن داخل نفسي، أهدهده ويهدهدني، إلى حين"، كيف يتواصل إحساس المغترب "أنور الخطيب" مع هذه الروح؟

ج لمنال ديب روح فنانة مبدعة، ورؤيتها فلسفية وفنية، نعم، هذه لحظة الاضطرار، أن نشكل وطنا في داخلنا ونهدهده، ونمضي في حياتنا باعتيادية كبيرة، وقد تكتفي القصيدة بهذه المشاعر، وتكتفي اللوحة بهذا الإحساس، ولكن هل يكتفي الإنسان المعذب، المهجر النازح، الذي لا يحمل أوراق ثبوتية تدل على مكان انتمائه، والذي يجحظ به العيون في المطارات ويشكك به رجال الأمن والحدود، هل يستطيع أن يبني له وطنا داخل نفسه ويهدهده/ أنا يا سيدتي لست رومانسيا بما يكفي كي أحضن فكرة الوطن وأعيش، الوطن ليس فكرة، الوطن كيان، واقع، صباحات ومساءات وجيران وباعة وأصدقاء وتراب ومبان وتراث، الوطن رائحة يومية، الوطن حرية ولقمة خبز في باحة الدار غير مغمسة بالمؤقت/ أنا أحيا وطني في حروفي، في أشعاري ورواياتي، ومتبعتي السياسية ومشاركتي قدر الإمكان في إعادة الوعي ونشر الحب بين الفلسطينيين المتشرذمين/ لست رومانسيا بما يكفي أن أكون مغتربا سائحا.

 

س يرى الكاتب الروماني "إميل سيوران" بأنه "توجد كآبتان، الأولى يعالجها الدواء، و الثانية تلازمنا، إنها الأنا في مواجهة ذاتها إلى الأبد"، متى يتواصل الإنسان "أنور الخطيب" مع "الأنا"، وكيف يطرح ذلك الشاعر والروائي "أنور الخطيب"؟

ج ربما كأن الكاتب الروماني يعني أمرا آخر غير الكآبة، ربما يتحدث عن القلق الوجودي، إذ الكآبة التي يعالجها الدواء مرض قد يعود، والكآبة التي تتجسد في الأنا في مواجهة ذاتها إلى الأبد هي قلق وجودي لا يتمتع به سوى المفكرين والمبدعين والفلاسفة القلقين، هي حكاية الإنسان مع الله، وأنا لا أعاني من كآبة مرضية مطلقا، ومن الناحية الأخرى للحياة، لدي قلق شأني شأن كثيرين ممن يبحثون عن إجابات كونية ووجودية، ولكنها لا تنتهي إلى مواجهة مع الإله. الإنسان صغير جدا ويعبث كل العبث حين يجادل الإله، وينتهي إلى لا شيء، وقد يكون اللاشيء فلسفة مريحة لكثيرين، ولي أحيانا/ ولكن في حالتي كمهجر ومغترب ونازح لدي قلق فكري وسياسي ووطني، ولن أدع الكآبة تزحف نحوي جراء مواقف الخونة والانتهازيين، وأواجهها بقصيدة أو برواية، بحكاية تسلط الضوء على شخوص مهمشين أجعل منهم أبطالا مميزين لهم مواصفات خارقة، وأناقش أفكارا لصيقة بقضيتي كما فعلت في رواية فتنة كارنيليان ورواية وردة عيسى، وحشدت كل غربتي مؤخرا في رواية شوق مزمن، أما الشعر فهو لحظة المكاشفة الحقيقية عاطفيا وفكريا وتأمليا/ ألجأ إليه كما يلجأ نهر ممتلئ للضفاف، أفيض عليّ وأنا أكتب الشعر، ولا يعنيني الوزن والقافية ولا البحور ولا أي نظام هندسي، أنا غير منشغل بالأنظمة بكل أشكالها، حتى في النص الشعري، وغير منشغل بالتسميات، وهنا لست مهتما بتوصيف حالتي بالكآبة أو القلق، فالتنظير يقتل القضية الإنسانية خاصة إذا تمادى في التجريد، قد نلجأ إلى الرمز كما فعلت في روايتي (الكبش)، وكما أفعل في الكثير من أشعاري، لكنني لا ألجأ إلى الغموض، الغموض يعكس غموض ذات الشاعر والروائي ولا يعكس مقدرة إبداعية، لهذا، أنا بسيط مع نفسي ومع الآخرين، أتواصل مع أناي وفق حجمها الطبيعي بأدوات أحرص أن توصلني للآخر، فأناي لا تعني شيئا بدون الآخر الشبيه أو غير الشبيه، وسأواصل كتابة الأنا حتى أستنفذها أو تستنفذني، المهم أن أكون مخلصا لها في رحلتي نحو الغايات.

 

س "وجود الشاعر داخل النص الروائي مثل ضرورة وجود العاطفة في الإنسان، بدون اللغة الشعرية تتحول الرواية إلى جسد معتل"، كيف تتنفّسك القصيدة في جلباب الحكاية؟

ج صحيح أن الرواية بناء هندسي ومنهج علمي أحيانا، لكنها محمولة على حيوات شخوص مأزومين عاطفيا أو منبوذين اجتماعيا أو متقدين فكريا، ولهم علاقات طبيعية مع الآخر، وعلى الروائي أن يستعير رئات الشخوص ليتنفس، وهذا ما أدعوه شخصيا اللغة الشعرية، وهي موجودة منذ وجدت الرواية، ولا نعني بالشعر اللغة البيانية والمحسنات اللفظية، وإنما الولوج إلى العالم الجواني للشخصية على محمل العاطفة، وهي متنوعة كتنوع الأفكار، روايتي شوق مزمن مليئة بالشعر، لأنها تتحدث عن الغربة، وروايتي فتنة كارنيليان كذلك، لأنها تتحدث عن علاقة عاطفية بين فلسطيني ويهودية، واللغة الشاعرة ليست هي اللغة العاطفية كما يبدو للبعض، إنها اللغة الما فوق سردية، اللغة النابضة بالحياة، والسرد الجامد يحول الرواية إلى تقرير مقيت وأشبه بتقارير رجال المباحث، وأنا لا أتعمد أو أتقصد اللغة الشعرية في الرواية، كما لا أتعمد المشهدية في النص الشعري، وإنما تأتي اللغة كانفجار طاقة مكبوتة أتنفس من خلالها وتحقق لي الراحة الروحية/ وكذلك في الشعر/ القصيدة ليست مبنى وعجز وصدر وهندسة، القصيدة عاطفة وإن اعتراها فكر وموقف/ والقصيدة التي تخلو من العاطفة تكون بعيدة عن الشعر، وهكذا، أزعم أن الأدب عاطفة، أي لغة شعرية، مع الحرص على عدم طغيان التجليات اللغوية والعاطفية على السرد والحبكة القصصية والروائية/ ما أحوجنا إلى إعادة الاعتبار للعاطفة في هذا الزمن الخشن.

 

س إذا ما همست لك القصيدة، كيف يسرّ لها جنانك، بين الوصال والانفصال؟

ج قبل قليل كنت أتهيأ للحوار معك، لكنني كتبت نصا شعريا هطل عليّ فجأة ففردت له أجنحتي وعريت صدري وسمحت لرذاذه بسكناي/ القصيدة تخاطبني فعلا، وغالبا ما أستجيب لها، لأنها تكون ثمرة استغراق بحالة شعورية لأيام، ولا أدري كيف ومتى تتسلل إلى حروفي ولغتي، وهناك قصائد خاصة جدا أحتفظ بها لنفسي وأخرى أفرج عنها، النص الشعري الذي كتبته قبل قليل، حتى تكوني في الصورة، تتحدث عن قلبي الذي يعتقد البعض أنه مستباح، ويمكن إغواؤه بسهولة، وهكذا.. القصيدة تهبط كالوحي فنمنحها حريتها، ثم نبدأ بتدجينها بكل الحب.

قلبي، مزهرية الليل

 تأوي إليها الفراشات المعنفات

 قصيدة تمردت على المعلقات

 ونازح يبيع الورد للثملين على الطرقات

 وآوي إليها كلما ناديتني ولم أجدني

 

س في كفّك، ماذا تغني هذه القصيدة وحروفها تهرول تارة نحو الأحزان وأخرى نحو المسرات؟

ج قصائد المسرات الصافية والخالية من كل شوائب الحزن نادرة، وكذلك قصائد الأحزان/ خاصة في عصرنا الحديث، فالفرح قادم من نهاية الحزن، والحزن قد يأتي بعد قصة فرح، والقصيد حياة قصيرة مليئة بالمشاعر الخاطفة.

 

س يطلب الشاعر الانجليزي "وليام وردزورث" بأن "أملأ ورقتك بزفير قلبك"، كيف يشهق الورق زفير الشاعر "أنور الخطيب"؟

ج الشاعر الإنجليزي "وليام وردزورث" من شعراء الرومانسية الكبار الذين تأثرت بهم، والذي اهتم بالعودة إلى الطبيعة والبراءة وعذرية الأمكنة وفروسية الإنسان، في المحصلة، يدعو إلى تبادل قيمة الصدق مع الطبيعة، فحين تعطينا الزهور علينا إعطاءها الحماية، والمعنى الأكبر سيادة الصدق بين العناصر والكائنات، وحين يدعونا أن نملأ الورق بزفير قلوبنا فإنه يدعونا إلى ممارسة الصدق في أرقى تجلياته، وأن نكتب ذواتنا وذوات الأحبة والطبيعة لغايات إنسانية صافية وبريئة، وهذا ما قلته في السابق، فأنا لا ألجأ إلى الكتابة إلا حين أكون ممتلئا بالفكرة والعاطفة، وهذا الامتلاء هو الذي يحقق معادلة الإبداع وغاياته مقرونا بالمقدرة اللغوية والالتزام بالقضايا الإنسانية/ أنا أمارس هذا الأمر حتى في الكتابة الروائية، أختار شخوصا لهم مرجعية إنسانية لدي، فأستحضرهم وأوسع آفاقهم أو أضيقها وفق المقام/ الكتابة في العموم هي زفير القلوب، ونبض الصدور وراحة الأرواح، هي ليست فبركة كما نرى في الكثير من النتاجات القصصية والروائية والشعرية، بل هي استغراق في الذات العليا والأنا الخاصة والعامة ونقلها إلى الورق، وتهيئة المكان الذي ستنقل إليه ليلائم جنسها ونوعها وهواجسها، الكتابة أكثر من معاناة، ولهذا لا يمكن أن تتم إلا في إطار توحد الكاتب مع ذاته ومجتمعه وقضاياه الفكرية والوطنية والوجودية والإنسانية.

 

س "انتظريني.. كأن قدومي أشبه بالمستحيل، واحمليني، فكرة عصية على التأويل، واحضنيني، بين وردة على نهد فجر، وبين ثغر مبلل بالهديل"، أي انطلاق يعبرنا مع هذا النشيد؟

ج الشاعر الغريب باحث أبدي عن امرأة قادمة من المستحيل، لأن حضوره نفسه أشبه بالمستحيل، هو يسير على الماء أو أرض متحركة فلا يعلم جغرافيا وكنه محطته الثانية، لكنه يحتاج هذه المرأة، يحتاج انتظارها كأمه البعيدة، ويدعوها أن تتقبل صعلكته وانتقاله بكل ما فيه من أورام الغربة، كفكرة عصية على التأويل، وهنا يمنح فكرته قداسة معينة طالما ربطها بالتأويل، ويرجو أن تصنع له مشهدا ساحرا كوردة على نهد فجر وثغر مبلل بالهديل، علاقة الغريب مع النساء علاقة ملتبسة، فيها من الإقدام والإحجام ما يربك قلب الحبيبة، فهو قلق، فكيف إذا كان شاعرا ممتلئا بالغربة والخيانات والانتكاسات، سينطلق نحو امرأة المستحيل لترضي غروره وتملأ ثغراته بمزيد من الارتباك.

 

س ميلادي بين أمس و غد، سفره، رحلة في اللازمكان، كيف تنظر لهذا المعتقد؟

ج هذا معتقد لا يناسب رغبتي في أن يكون لي وطن بجغرافيا واضحة أعيش فيه زماني الأوضح، وتحديدا فلسطين، وأكثر تحديدا، قريتي في قضاء عكاء، في الواقع نستطيع التنظير في اللازمكان والتيه والضياع من منطلق فلسفي، لكن قضيتي ليست فلسفية، قضيتي كما يقول مظفر النواب بكل بساطة:( لي وطن كما للناس أوطان) ، ورحلتي ليست ضبابية بل واضحة جدا كإنسان مهجر وغريب، أما رحلتي الوجودية فأمر آخر.

 

س "الليل لملم لوعتي، علّ اللواعج تلتئم"، ما علاقتك بالليل؟

ج الليل رفيقي السرمدي، أكتب ذاتي بريشته على جدرانه، مكان شايع للبوح، وزمان يحضنني بنقاء وصفاء وهدوء، لا أعلم كيف سأكون مع الليل لو كنت مواطنا عاديا في وطن عادي، لم أجرب هذا العيش حتى الآن، ولهذا، يبقى الليل بالنسبة لي هو الآخر الذي يستمع باهتمام بالغ. لكنني أمقته إذا كان ظلاما بلا نور، النحت في الليل هو بحث عن الأمل وتغذيته بالوصايا النهارية، لهذا فهو يلملم لوعتي ويشفيني شفاء مؤقت.

 

س "اكتفيت باللقب، أن أكون طفلا"، كيف تصافحك هذه الأنفاس؟

ج أسعى قدر استطاعتي ألا أفقد الإحساس بالطفولة/ أحرص على براءتها كما فعل الشاعر الإنجليزي "وردزورث" وصديقه "صموئيل كولوريدج"، حين حاولا الكتابة بقلب طفل ولغة طفل ورؤية طفل، وفشلا، أنا لا أحاول الكتابة كطفل، ولكن أن أعبث كطفل في القصيدة وأحيانا في الرواية، الكتابة هي ممارسة للطفولة الواعية واللاواعية، ولعلك تلاحظين، الطفل يحب دائما أن يبني بيتا، وأن يركض خلف العصافير في البرية، وأنا أعمر لي بيتا مؤقتا في الكتابة كما يفعل الطفل تماما، ولهذا لا يشغلني التنظير الشعري، يموت الشعر في التأويل والتنظير ويفقد براءته، يجب أن نحافظ على طفولتنا لو أردنا المحافظة على ثوريتنا.

لماذا وعدتكَ أن أكتبَ لك؟""س

ج هذه قصيدة موجهة لصديق يشبهني في تفاصيل منفاي رغم أنه يتمتع بالمواطنة، ولهذا كتبت له.

وعدتكَ أن أكتبَ لكْ

وفي لغةِ الشعرِ أن أكتبكْ

وفي تحاليلِ البراءةِ:

أن يُسكّنَ ألمي ألمَكْ،

وفي بوح الأصدقاء المغرّبين:

أن أسكبَ قلبي بقلبِكْ،

وفي تجليّات الأخوّة:

أسكنُ في رحمِ أمّي معكْ،

س "قلب الصديق، يعرف من أين يسرق النبض أو قشة الغريق"، كيف هو الصديق في دواخل الإنسان "أنور الخطيب"؟

ج  مباشرة وبصراحة، هناك معارف بالعشرات، أما الصديق الحقيقي فهو أشبه بامرأة الحلم، لهذا، ليس لدي الكثير من الأوهام كي أصف الصداقة، وسأتحدث كما العامة/ الصداقة الحقيقية، التي تشبه الأخوة الحقيقية/ المبنية على التضحية والنجدة والعطاء والتسامح والمؤازرة، من دون مقابل، لم تعد موجودة، الصداقة كالحب بدون غايات إلا الحب، يعني الحب لوجه الله ولوجه الحبيبة، الحب المنزه، للأسف صداقات كثيرة تحولت إلى عداوات، وصداقات تلاشت مع تغيير الأمكنة/ وصداقات انتهت بعد الزواج/ إلى آخره، لا أوهام لدي، لا في العشق ولا في الصداقة في وطننا العربي الآيل إلى الذبول والفوضى القيمية..للأسف.

 

س أين يترجّل الإنسان "أنور الخطيب" بين المحبة، الصداقة والعداوة؟

ج أحرص ألا يكون لي أعداء، أؤمن بالمحبة ليسود السلام بين الناس، ففيها احترام الآخر، واحتواؤه وتقديره، والاستماع إليه بإنسانية عالية.

 

س هل نفهم من قناعتك هذه مسالمة لرأي الفيلسوف و المؤرّخ اليوناني "فلوطرخس" حيث يقول "تعلم كيف تستمع و تستفيد حتى ممن لا يحسنون الكلام"؟

ج هذه فلسفة جميلة ويمكن إتباعها في السعي نحو النفعية، نحن في أدبيات الحوار نفتقد لفن الاستماع/ لو تابعت البرامج الحوارية التي تجمع سياسيين ومفكرين ومثقفين كيف تتحول إلى مشادات واشتباكات بالأيدي ومهاترات وادعاءات واتهامات، ومن المؤكد أنك تابعت بعدها، ستكتشفين كم ينقصنا أدب الحوار، وهذا ناتج عن التربية المنزلية والمدرسية، في البيت أوامر ناهية وطاعة عمياء، وفي المدرسة تلقين مخيف يلغي العقل، ولهذا فإن وصية المؤرخ اليوناني صحيحة. الربيع العربي أفسد لأننا مجتمعات لا تقبل الحوار لأنها لا تجيد الاستماع، ولا تعتقد أنها في حاجة للاستفادة من أي مخلوق آخر.. أليست هذه معضلة..

 

شكرا لك الشاعر والروائي الفلسطيني أنور الخطيب على حسن تواصلك وإلى لقاء آخر إن شاء الله

شكرا لك سيدتي على هذا الحوار الجميل