لقاء مع الشاعر والكاتب الفلسطيني مهند ذويب// آمنة وناس

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 آمنة وناس

 

 

لقاء مع الشاعر والكاتب الفلسطيني مهند ذويب

آمنة وناس

تونس

 

السلام عليكم

وعليكم السلام

هو الذي بالتواشيح ضربت خلجاته صمت الورق، وراح يسرد سفر الإحساس، تلفنا ملامحه، والشعور تكلّم فصدق، هو من استجابت له كل الحواس، فهو بالمكنون نطق، حاملا وسط الغياهب نبراس، وفي دواخلنا هرع وحلّق، ليسقينا من نبعه أكواس، فلعطائه عذوبة عليها متّفق، يخيط المعاني فنرتديها لباس، وبكتاباته نتحرر وننعتق، يرافقنا قلمه ليكون لنا الإيناس، وكل صيفات الجمال عليه تنطبق، هو من أكّد أن الحرف خير الجلاّس، ولرفقته نتسارع ونستبق، هو الشاعر والكاتب الفلسطيني "مهند ذويب"."

 

مرحبا بك سيدي

أهلًا بكِ آمنة، وبتونس الخَضراء، التي نتساءَل دومًا على لسانِ شاعِرنا -درويش: كيفَ نشفى مِن حبّها، أشكركُ - رغمَ أنكَ لا تحبينَ الشّكر- على هذا الإطراء الجَميل، والمقدّمة اللّطيفة.

 

س- "أكتب ما أخسره منّي، والآن أنا بقايا، قريبا سيذهب الوقت بهذه البقايا، لأظل هنا فقط"، ما ملامح هذا السفر؟

ج- السّفر يكوّن المَلامح، ولا أظنّ أن له ملامحًا واضِحة، إنّه يتغيّر كالنّهر مع تقدّم الخطوات، وتقدم السّنين، إنّنا نكبر بسرعة، وهذا مدعاة للقلق، نَكبرُ بمرور الأحداث والأشخاص، وليسَ للسّنين علاقة بهذا، فالقلب يشيبُ قبلَ الرأس، والكهولة فكرة أبديّة في الروح لا في الجَسد، كما أنّ التّجاعيد تظهر أولًا في صحراء الفكرة، ونهر الإيمان، واخضرار اليَقين، لأجل هذا كلّه أعتقد أنّ البدايات عدادٌ رمليّ مقلوب للخِتام، أو النّهاية المتخيّلة، وترجّل الروح عن مطيّة الجسد، هذا هو السّفر الحقيقي للمَجهول، إنّني أكتبُني محسوسًا؛ كمحاولة لمزاحَمة الخلود بعد الوُصول -مرغمًا- إلى خطّ النّهاية، الموت -الصّمت، ولكي لا يَكونَ نصيبي من هذا السّفر: التّعب والضّنك فقط.

 

س- نسيت شمائلي في جيوب الصمت، تبحث عن حرف تكسر به حدود البوح، أين أنت بين الصمت و البوح؟

ج- لا أعلم أيّهما أفضل، الصّمت أم البوح، لكلٍ منهما إيجابيّته، لكنّني أفضّل الكِتابة، الصّمت ثقيل جدًا، جبل من الحكايا يُثقل الكتفين، ويحدثُ صخبًا عاليًا في الرأس -المعركة، لذا فالكِتابة محاولة جادّة لرمي أثقالِ الحياة دفعة واحِدة إلى الورق، أو إلى التاريخ، الذي نُحاول أن لا يُكررنا، فلن نُخطأ كطروادة التي بناها أبولو إله الشّعر بيديه الحانيتين مع إله البحر حسب ألياذة هوميروس، ثم دمّرتها عشر سنواتٍ عجاف من الحرب لأجل امرأة، ولم يكتب أحدٌ من شعرائِها وكتابِها مأساتها، ولا تفاصيل جُنونها المحموم، درويش قال: " نحنُ نتكلّم باسم الغائب، باسم شاعِر طروادَة، فإنّ الوحي الشّعري والمشاعر الإنسانيّة تظهر في الهَزيمة أكثر مِنها في النّصر، ونحنُ نكتُبُ ما أرادَ شعراءُ طروادة كِتابته"، وربّما أرادَ أن يقول إنّنا نكتُب لكي نؤرّخ لموتنا بأيدينا، ولكي لا نُصبِح عُرضَة لأساطيرِ الآخرين، نكتُب لكي تنتَصر طروادَة – الوَطن على ترهّل التاريخ، ولكي لا يَفنى أبولو، ولكي تنتَصر الروح على مجازات الفَناء، وعلى الأيدي التي تمتدّ آثمة هُنا؛ لتخطِف الوَطن والإنسان -على حدٍ سواء- إلى الاندثار والنّسيان.

 

س- "أنا أحاول كتابة كل شيء بشكل مشوش جدا"، "الأنا" بحضور الكتابة، هل تعمق هذا التشويش أم تؤكده؟

ج- الأنا هي اللاوعي، واللإرادي في الكِتابة، أفلاطون اعتقدَ أنّ الشّعر شيء يشبه الوَحي، وهو نوع مِن النّشوة التي يغيّب فيها الشاعِر، أنا لا أذهب إلى هذا الحَد وصف الحالة، لكنّني أدّعي أنّ اللاوعي، والقلق الداخِلي هو الذي يرسُم الصورة الحقيقيّة للكلمات، بتعبير أوضح فإنّ هناك كم هائِل من الأفكار والمُفردات تتبعثر في ذِهن الكاتِب -الشاعِر مرّة واحِدة، هذا يُشبه شعور زوجة إبراهيم -عليه السّلام- عندما تفجّر الماء فأخذت تقول: "زِم .. زِم"، لا أدري ما صحّة هذه الرّواية، لكنّ قلقها جعلها تحاول جَمع الماء كلّه في حفرة، الأمران متشابِهان إلى حد فظيع. إذن فالكِتابة أو الشّعر الذي نلمح فيه حالة الاغتراب، والتّشوش، وربّما الترابط غير المنطقي هو في الغالب نتاج شُعور مماثل داخِل الشّخص. داخِله أقصد هُنا وجدانه، وروحه، ونفسه، وعقله، بلا أيّة تفرقة بين هذا الكيان المُعجزة: الإنسان، وبعيدًا عن تقسيمات النّفس، والأنا، والعَقل عند الفلاسِفة.

 

س- إذا ما تسللنا "للأنت"، كيف يحتوينا عمق تبرّجت مشاعره بعذوبة الحرف؟

ج- الأنت هو الآخر، وأنا جيّد جدًا في الكِتابة للآخر، أو عنه، أكونُ أكثر ترتيبًا، ووضوحًا، وعمقًا في رؤية التفاصيل التي أودّ أن أراها، الآخر هو الصّديق، والصّداقة هي الخير الأسمى عند أرسطو، وأنا مقتنع جدًا بهذا، فلا يمكنني تصوّر الأنا بلا هؤلاء الأصدقاء، والآخر هو الحبيب ربّما، وهو العائِلة بكلّ ما تحمله هذه الكَلمة من تجاوزات، ونشازات موجِعة أو محبّبة، وبكل ما تعنيه من مشاعِر موجودة أو مفتقدة، أو مؤجّلة حتّى، والآخر هو الإنسان: الرّجل الذي كانَ يلعن المُدن في يديه وهو يبحث عن شيء يأكله في القمامة، والشابّ الذي فقد يده اليُمنى جرّاء شظيّة، والطّفل الذي لم تَعلكه الحياة بعد، ولم يعرف مِنها سِوى فرحة مقتطعة من مستقبله، والآخر أحيانًا هو أنا، هذا أمر غريب، لكنّني في الحقيقة أجلس أحيانًا أمام نَفسي، أعاتِبني، أنظُر لي (كأنّي واحد غيري) هذا ما خلّفته لعبة الأقنعة بينَ نهارات الضّحك، ومساءات الحقيقة.

 

س- متى يقول الشاعر و الكاتب "مهند ذويب"، سأقطف النبض من نشيدك أيها القلم، حتى يطرب جلباب الحرف؟

ج- بعيدًا عن ادّعاء التّواضع، وهو في الحقيقة أسوأ من التّكبر، دعينا نتّفق أنّ الألقاب أبعد كثيرًا مني، أو عنّي؛ لأنّ الشاعر الحقيقي هو من يتجاوز اختبار الزّمن، وتعاقب الأجيال، ويستطيع بما قدّمه أن يخلد في الذاكرة، ولهذا لا أستطيع أن أستمتع شخصيًا بلقب كهذا يسبق اسمي، لعلّني سأكون فرحًا جدًا به بعد مئاتِ السّنوات، عندما يقرأ مثقّف ما قصيدةً أو نصًا لي، وعلى ما يبدو فإنّني أجبت عن السّؤال في معرضِ الحديث عن اللّقب، إذن وبصياغة أخرى سأقطف فرحتي، ونبضَ النشيد حينَ يتجاوز الحرف، أي حرفي، السّنين إلى أجيال قادَمة، إلى قرّاء أكثر، إلى لغات أخرى ربّما، عندها أكون أديتُ مهمّة الصّراخ الناعم والمُلِح، صراخ النّفس الإنسانيّة في الوجود، ورسمتُ بألوانٍ تلتصق باللّوحات جدًا صورة الإنسان من الداخِل، وساهَمت ولو بكلمة في تَكوين الرّواية الجمعيّة الفلسطينيّة التي نكتبها بمفردياتِنا، أتمنى هذا حقًا.

 

س- إلى أين يصل فينا بحث "فوضى العدم"؟

ج- ربّما ظنّ العدم وفوضاه وُجود، هكذا أعلّل اسم مجموعَتي الشّعريّة الجديدة التي ستصدر قريبًا، إنّني أحاول إخراج أفكار سارتر، ونيتشه، وغيرهم من صخب رأسي إلى الثّنائيّة الضّديّة للحياة، وحينَ كتبتُ: " فوضايَ إيمانٌ بحكمة جدّة كانت تخيطُ الصّبحَ بالصوفِ الخفيف؛ لألبسه، وتقول لي: سَنسير يا ولدَ الرّحيل لموعدٍ، فهناك في جوفِ السّماء حديقة من رحمة ومحبّة، في وجه ربّك نلتقي، ونعاتِب الأحزان نَصرخ في حياةٍ من عدم" أردتُ أن أصدّر هذا بشكل مجازي، أو مباشِر. لا أريد لهذه الفَوضى التي ستقف أمامكم عارية جدًا، وتواجه مصيرها قلقةً، راجِفة من البرد أن تنتقل إلى أذهانِكم، أو نفوسِكم، أريدها في الحقيقة أن تكونَ أجوبةً لا مزيدًا من الأسئِلة، راحة لا مزيدًا من التّعب، أريدُ أن يكونَ العمل القادِم وجوديًا، أكثر إيمانًا بالسّلام، والمحبّة، هذا سينعكس من عيونكم على الأغلب، ومن ثقتي بأنّ الإله الأوحد (الله) هو العَدل المطلق، والرّحمة المُطلقة، وهو الأمان الوَحيد أمام مخاوفِ الفناء، لا أريد أن أقول في المرّة القادِمة: "وتشوّقوا للتارة الأخرى"، أو "فضمّني إنّي مللت".

 

س- سأسكت و أنا أموت، لكن وجهي سيظل يسأل، لماذا؟""

ج- هذا الاقتِباس للشاعِر اللّبناني أنسي الحاج، وقد أشارَ عليّ أحدُ الأصدقاء أن أجعَله مدخلًا للعمل الشّعري الجديد: (فوضى العَدم)، وفعلت؛ لما لهذا الاقتِباس من بعدٍ عميق. سأشرح هذا، أنسي الحاج كانَ معجبًا جدًا بالفيلسوف الروماني إيميل سيوران، وأذكر أنّه قال أصطادُ برقَ الرأس من سيوران، ربّما كان هذا عنوانَ مقالٍ له، سيوران الفيلسوف العَدمي الكارِه للحياة، والذي يعتبر الحُب أكبر كذبة، وما إلى ذلك نالَ إعجاب الحاج، رغمَ أنّ الأخير من دعاة الحُب، والجماليّات، وعلى ما يبدو فإنّ أنسي لم يسلّم نفسه للأسئلة الوجوديّة التي طرحها سيوران والتي تضجّ في رأسه، ففضّل عليها جماليّات الحياة، وأجّل سؤالَه الكبير، أو أسئِلته الكثيرة إلى لحظةِ موته. وفي هذا السّياق نفهم قوله بشكلٍ جيّد، وحول هذا كتب فوزي باكير وغيره بشكل مفصّل.

 

س- يعتقد الفيلسوف و الكاتب الروماني "إميل سيوران" بأن "التواصل بين الكائنات لا يتم إلا عن طريق الحضور الصامت، عن طريق اللاتواصل الظاهر، عن طريق التبادل الملغز و الخالي من الكلام، الشبيه بالصلاة الباطنية"، ما مدى قناعتك بهذه الفكرة؟"

ج- سيوران فيلسوف عَظيم جدًا، لكن وبصورة أصح التّواصل بين الكائِنات قد يتم عن طريق الحُضور الصامِت، فقط قمتُ بإزالة أداة الحَصر، وإضافة قد التّشكيكيّة، إنّها تصبح فكرة جيّدة، مع وجود الاستثناءات، وحتّى هو لم يستطع تطبيق فكرته بالشكل الذي وصفه، وأظنّه أوردها في كتاب مثالب الولادة، فهو كتبها وقالها لتصل إلينا، على اعتِبار أنّنا جميعًا كائِنات، لكنّ التواصل يمكن أن يكونَ بالصّمت والخشوع، هناك لغة العيون، ولغة الجَسد، وإلى أبعد من هذا ذهب أيضا أحد المتصوّفة عندما قال: ربّما تكفي نظرة واحدة إلى السّماء كي يدخل الإنسان الجنّة"، هذه الفِكرة قريبة جدًا للبوذيّة، وللمتصوّفة، ربّما كانَ سيوران ينحرف أحيانًا عن عدميّته، أو يصارعها.

 

س- "لو قدر لي أن أبدأ الحياة من جديد لاخترت "ديوجين" كقدوة جيدة"، أين يترجّل الإنسان "مهند ذويب" بين المدرسة الكلبية و الفيلسوف اليوناني "ديوجين الكلبي"؟

ج- ديوجين أحد أهم فلاسِفة المدرسة الكلبيّة، التي تفرّعت عن السّقراطيّة مع مدرستين أخريين الرواقية، الأبيقورية، واعتقدت هذه المدرسة أنّ الفضيلة الكبرى تكمن في المَقدرة على التّخلي عن كل شيء، وأقول المَدرسة رغم أنّ الكثير من الباحثين اعتبروها طريقة حياة، ولم ترقَ إلى المدرسة الفلسفيّة المنظّمة، واستدلّوا بقوله عندما سئل عن أهميّة الفلسفة: " ما أهميّة أن تعيش، إذا لم تتعلم كيفَ تعيش بشكل جيّد"، الجميل في الأمر أنّ ديوجين استطاع نوعًا ما التوفيق بين النّظرية والتّطبيق، فروى أنّه عاشَ في برميل، وأنّه كانَ يحمل مصباحًا في النّهار ويبحث عن الرّجل الفاضل في مدينته، هذا ما أردته، جسر الهوّة بين النظريّة والتّطبيق في شخص ديوجين، وهو أمر أبعد قليلًا عن أفكار المدرسة الكلبيّة ككل، هنا نترجّل، أو نستطيع الفصل.

 

س- يرى الشاعر الفلسطيني "عبد السلام العطاري" بأن إرادتنا ترمي لاشتعال الجمرة في فكرة الوردة لتضيء ما لا يضاء"، إلى أين تأخذك هذه العاطفة؟

ج- يأخذني ما قاله الصّديق عبد السّلام العطاري إلى أنّ الفلسطينيّ مدينٌ للألم، وللظروف الصّعبة التي تخلق الإبداع، وتعطي كلماتِنا -نحنُ الفلسطينيون- عمقًا آخر، ودلالاتٍ أخرى على الوجع، والفقد، واعتياد الحزن، أذكر هُنا درويش حينَ قال: " شعبٌ يُخَيِّمُ في الأغاني والدخانْ، شعبٌ يفتِّشُ عن مكانْ، بين الشظايا و المطرْ، وجهي على الزهرة، الزهرة / الجمرة"، إنّها وجوهُنا -القصائِد، التي تضيء ولو لم تمسسها النار.

 

س- عندما تحترق الزهرة الجريحة في حقل الماء، كيف يؤبّنها إحساس رافق ضوضاء العمر، و بعضا من ضجيج الحياة ؟

ج- قلتُ في إحدى قصائِدي إنّني أفضّل الموتَ حرقًا في مياه النّهر، هذه الهالات اللامنطقيّة تدخل إلى قصائِدنا؛ لتعبّر عن لامنطقيّة الموت هُنا، حينَ يصبح اشتهاءً مثلًا، وحينَ تجتمعُ عشر نساء على قبرِ رجل جمعه المسعفونَ أشلاءً بلا معالم، أو ملامِح، وتظنّ كل امرأة أنّه زوجها كما قصّ ابراهيم نصر الله في رائِعته أعراس آمنة. لا أعرف عن الزّهرة سوى أنّها الطفلة الفلسطينيّة التي تمنّى الشّهيد ياسر عرفات أن ترفع علم فلسطين مع الشّبل الفلسطيني على أسوار، ومآذن، وكنائِس القدس، لا أعرفُ سوى أنّها هدى غالية، وعهد التّميمي، والمئات المئات، لم تمهِلهم الحياة تجاوزَ مرحلة الحَبو، واللّعب بالدّمى، وتمشيط شعر الصّباح الأصفر، إنّما جاءَ ضجيجُ العمر مبكرًا، ليحرقَ البَتلات في شلالِه -الدّم، والغياب، ونصبحَ جميعًا ثمرًا نضج قبل أوانِه حدّ الذبول.

 

س- "أخطأت، كم أخطأت في عد المقابر داخلي"، متى كنت أنت الذاكرة في المسرّة والوجع، لتعد المقابر فيك وتنخدع؟

ج- اعتادَ الإنسان أن يَخاف من المَقابر، لكنّه لم يعلَم أنّ داخِله مقبرة كبيرة، للذكريات والأشخاص، و الأحداث و الأسرار هذه المقابر تنتشر في الوجدان الداخلي، وتصبح مخيفة أكثر في اللّيل، تمامًا كالمقابر الحقيقيّة، لم أخطِأ في عدَدِها، إنّما أخطأتُ في فكرة أن أقومَ بعدّها، هذه فكرة مرهِقة جدًا، كأن تقرر عدّ النّجوم، سترهق نَفسك فقط بلا فائِدة تذكر، وستنبشُ الذاكرة أكثر مما ينبغي، وتجازى الأرق، والدّوار.

 

من سيدفنني إذا هربت يداي؟""س

ج- هذا سؤال وجودي استنكاري يتعلّق بأحداث داخلية  تراودني عادَة، ربّما عليّ أن أذكر هُنا الجدات الحكيمات: " ما بحك جلدك غير ظُفرك"، إلى هذا المَعنى أذهب تقريبًا، وإلى كمّ من الاعتداد بيديّ الوحيدتين حتّى خيّل إليّ أنهما ستقومان بدفني.

 

س-  أرنو نحو اللامسافة، أحاول قطف الماضي من شجرة الذاكرة، ما صلة الفلسطيني "مهند ذويب" بالأمس؟

ج- إنّه ارتباط وثيق، الأمس هو التاريخ، والتاريخ حمّلنا الكثير من الخيبات والنّكسات، لن نستطيع بسهولة تجاوز مخالبه العالقة في أفكارِنا، ولا حتّى بعض ومضات النّصر التي نشك بها سرًا، وتخر بها جهرًا. ربّما الحياة مضطربة في توقيتاتِها، لا أعترف بوجود ما يسمّى بالحاضِر، نحنُ نلهث بين الماضي والمستقبل، كلّ ثانية تذهب الآن هي ماضي، لهذا لا أجدُ حيّزًا زمانيًا يمكنني أن أطلق عليه الحاضِر، هذا اللّهاث والسّعي الدائِم يجعلنا في ارتباطٍ دائِم بالأمس، وترقّبٍ حذر لمستقبل مجهول جدًا.

 

س- حدّثني، من قطف الحكاية، و استنشق رحيلها إلى اللامكان؟

ج- لا شيء يمكن أن أطلق عليه اللامكان، الحكايات تبقى أطيافًا حول الأرض، ترويها الجدات للصّغار، تبتلعها الذاكرة وتخرجها مرّة واحدة ، والحكايات على ما يبدو تنتهي وحدها، لا أحد يتحمل بشكل كامل وزر قطفها، أو نحنُ لا نستطيع أن نحمّل أحدا ذلك، ربّما لنحافظ على صورته الجميلة في عيوننا.

 

س- إذا ما ترجّلت الذاكرة من على حنين الروح، أي المسارات تسلك؟

ج- الاعتياد، فهو أكثر المسارات مناسَبة، يصحبه فقدانُ الدّهشة، وبهوت المَلامِح، لا شيء سِوى الاعتياد، أن نعتادَ أنفسنا، ونعتادَ الحياة.

 

س- يقول الشاعر العراقي "أبو الطيب المتنبي" "فما أبالي بالرزايا، لأني ما انتفعت بأن أبالي"، هل يرويك نبع هذا المعتقد؟

ج- نعم هذا الاعتيادُ بعينه، إنّ المتنبي يصف هذه الحالة بدقّة، بل ويصوّرها، كما أنّه جمع الرزايا، فالهموم لا تأتي فرادى، وإلى معنى كهذا ذهب الملك الظليل امرأ القيس:" وليلٍ كموجِ البحر أرخى سُدوله، عليّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي"، الهموم تجيء كموج البحر، وليسَ يجدي أمامها إلّا: إن لا نُبالي.

 

س- "مدّ يديك ليشتعل الصباح"، إلى أين يأخذ الاتقاد هذا الصباح؟

ج- إلى الحياة مرّة أخرى، والتّجدد، والرضا، إنّ الخطاب للأب، مجاز الحياة، وحقيقة الأبوّة، هو القادِر أن ينهي فصولًا من غيابٍ، وليلٍ أسود، ويعلنَ عودة النّهار مرّة أخرى.

 

س- "تعودت أن أكتب في الليل"، كيف هو مجلس الليل؟

ج- هو مجلسُ الوحدة، اختصره العراقيّ مظفّر النواب بقوله: " الحزنُ جميلٌ جدًا، واللّيل عديمُ الطّعم بدونِ هموم"، فأكتُب لأنّني لن أستطيع أن أنام أنا والهموم على سرير واحِد، كما أنّ الهدوء المُفتعل في أطراف المدينة الصاخبة يُغري الكتابة.

 

س- متى ينتشي الصدى من وحدة الإنسان "مهند ذويب"؟

ج- عِندما تتكلّم مع نَفسك بصوتٍ داخليّ، وتسمع رجعَ صوتِك -الصَدى في جدران الغرفة صاخبًا جدًا.

 

س- تلعثم الصوت بين أصابعي، يتهجّى أنفاسه المبعثرة، كيف السبيل للم هذا الشتات؟

ج- أن يَكونَ قلبكَ نهرًا، فالأنهار تسحبُ كلّ شيء إلى البَحر -درويشَ قال شيئًا كهذا على ما أذكر-، أو إلى الشّلال الصّغير، وأن تتجدّد مثله أيضًا إلى الأمام، فالنّهر لا يجري إلى الخلف، عندها سَتلم أو تتجاوز هذا الشّتات، وتصبِح الأصوات كلّها خريرًا رقيقًا.

شكرا لك الشاعر و الكاتب مهند ذويب على حسن تواصلك و إلى لقاء آخر ان شاء الله

الشّكر لك على هذا الحِوار اللّطيف، الذي نبَش الأرض -الذاكرة بشكل جيّد، وأضاءَ ليلَ السّهارى الطويل، كي لا أكونَ "عبئًا على ليل المؤرخ".