اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

الفخاريون ... // حسين السنيد

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

الفخاريون ...

حسين السنيد

بسم الله الرحمن الرحيم

((خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ))

 

فيما كان الناسك ساجدا في محرابه ,في كوخ بعيد بناه لنفسه,والدموع تملئ محاجره وتنزل على خديه كحبات الؤلؤ, خاشعا لربه الذي ملئ وجوده المكان , ويستنشق من خصب نفحاته , تاركا وراء ظهره كل شيئ له لون وطعم ورائحة الدنيا ,متفرغا لخالقه الجبار,بعيدا عن هموم المدينة وسمومها القاتلة.

تناهى اليه في هذا الوقت بالضبط, صوت ضجيج مفاجئ ومرعب ,نصت الناسك ..اخذت الاصوات تكثر وتعلو , كانت كافية لكي يقطع خلوته ويهرع خارج الكوخ , ادهشه المنظر الذي رآه,احتبست انفاسه في صدره لحظة رأى جرارا نازلة من السماء ..تهبط وتهبط فترتطم بالارض الصلبة ,فتتهشم وتتطاير اوصالها,بأشكال و احجام مختلفة, واحدة تلو الاخرى تنزل من سقف السماء فتقبل الارض قبلة موجعة فتندك في اديمها ولايبقى لها اثر سوى الغبار.

ماتت بسملة على شفاهه المتحيرة .. رأى السماء تمطر جرارا!! و تهز الارض تحت اقدامه. في لحظة اخرى,فقد اتزانه ووجد نفسه معلقا بالسماء ..ارتفع,وفرت قوته من جسمه وبات عاجزا عن التحرك,كان مايزال يرتفع الى السماء, تمدد الموت في خلاياه و انتشر ..صار جامدا كاحدى تلك الجرار.

سقط الناسك مع مطر الجرار .. هبط بسرعة رهيبة,اراد ان يصرخ فتجمد فمه ,حاول تحريك قدميه ويديه فوجدهما من الفخار, ارتطم بالارض ارتطاما مدويا و تهشم . تشضت اشلائه الخزفية , كان يشعر بكل قطعة من قطع جسمه المتناثرة و يرى من خلالها , استقرت قطعه على الارض وانجلى الغبار .لم يستطع الناسك ان يصرخ ابدا.

***

فتح الناسك عيونه مهلوعا وحبيبات العرق الغزير قدملأت وجهه . حوقل مرات عديدة و تعوذ من الشيطان.

-    يا لهذا الكابوس المرعب ...

كان الصباح ينفلق , وبدأت المدينة تتنفس مرة اخرى , جدد الناسك وضوئه و وقف يصلي الفجر في محرابه و مايزال الكابوس المرعب يحوم في رأسه ويتمثل امام عيونه.

رفع الناسك يديه :

-    يا الهى ..يا ربي ..يا خالقي ..يا مولاي .. ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس, كثرت المعاصي وانحسرت بيوتك .كثرالمتوكلين على العباد وقل المتوكلين على ربهم. يا رب ..حتى صرت اناجيك بعيدا عن لوثهم ,بعيدا عن عيونهم .

 

ثم استدرك و انفجرت غصة في حنجرته و بدء صوته يرتجف اثرها:

-    اين عذابك يا الهي ؟؟ عذاب كعذاب قوم عاد وثمود و لوط , لتجتث المفسدين من جذورهم و تبقي فقط الذين يخافوك ,الذين يحلقون في رحابك والذين يذكرون اسمك اناء الليل واطراف النهار. عذابك يا الهي للقوم الذين نسوك فانسيتهم انفسهم.

وهكذا ظل الناسك يناجي ربه باكيا و يطلب من ربه ان ينزل بلاءه على الغافلين و ان يبقي فقط على المؤمنين .بدت له نفسه كالانبياء الذين طلبو هلاك قومهم.واستمربالمناجاة الى ان بزغت الشمس, فنزل الناسك من كوخه البعيد نحو مصنعه الصغير حيث كان يصنع جرارا فخارية و يبيعها. كان في الطريق يفكر بجدوى وجود هؤلاء في الوجود. ما فائدة قطاع الطرق و السراق وتلك النساء الاتي يبعن الحب على الطرقات ؟ ما هم بمؤمنين ,تسائل مع نفسه و تكلم و تمنى لو ازيحو من صفحة الخلق ليحل محلهم عباد مؤمنين.

نزل عبر ممر صخري ابيض الى حافة الجبل , بدا له الجبل تحت اشعة الشمس ,وكأنه مسجد ذوقبة عالية . فتح مصنعه الصغير, كانت الجرار تحتل المكان بمختلف الاشكال والالوان . فتلك قصيرة و اخرى طويلة و هذه لها قبضتين طويلتين. كان الناسك صنعهن واحدة واحدة ,وصرف وقتا وجهدا كبيرين في صناعتهن. تفحص الناسك الجرار بعيون ابوية , و انصرف ليكمل عمله في صناعة جرة طلبتها منه احدى النساء يوم امس.

كان الطين يتلوى بين يدي الناسك ,و هو يحرك يداه بحرفية عالية,وكأنه ينفخ فيه الروح فيعطيه شكلا ولون.  كان غارقا في جمالية ماتصنع انامله حين قاطعه صوت ..

-    السلام عليكم

رفع الناسك رأسه و رأي رجلا يقف على عتبة المصنع , برداء ابيض نظيف ووجه وسيم فيه معاني الايمان و الهدوء, لحيته مشذبة متوسطة الطول وقطعة من قماش تغطي رأسه وتتدلى من اكتافه.

-    عليكم السلام ..تفضل

راح الرجل يتمشي بين الجرار و يتفحصها واحدة تلو الاخرى , بعيون ثاقبة ,يتلمسهن واحدة واحدة .. وبعدما تفحص كل الجرار قال:

-    يا اخي .. هل لي ان اشتري كل الجرار ؟؟

تفاجئ الناسك بطلب الرجل,فنهض من مكانه وقال بدهشة

-    كل الجرار؟؟

-    نعم,كلها .. كم سيكون ثمنها كلها

-    و لكن ... ماذا ستفعل بكل الجرار يا اخي؟

قالها الناسك وبقى فمه مفتوحا من شدة الاندهاش . فابتسم الرجل واردف:

-    اليس الجرار للبيع؟

-    نعم

-    كم ثمنها اذا ؟؟

كان الناسك مايزال في دهشة من طلب الرجل الغريب .وتصور انه ربما تاجرا يحمل الجرار من المدينة الى القرى البعيدة ,او ربما يكون الرجل صاحب بيت كبيرويحتاج الى اوان كثيرة لعمل البيت .استسلم اخيرا و قال بتردد واضح عليه:

-    كلها ب100 دينار  يا اخي

مد الرجل يده بدون تردد و اخرج كيسا يحتوي على 100 دينار ووضعه في يده واتبعها بابتسامة نثرت كالغبار على وجه الناسك. اثار هذا التصرف دهشة الناسك اكثر .

-    هل الان الجرار اصبحت ملكي؟؟

تردد الناسك للحظات ثم استدرك:

-    نعم اخي .. خذهن اذا شئت . رزقك الله و وفقك.

مسك الرجل جرة صغيرة كانت بجنبه ,قلبها بين يديه ثم اوقعها ارضا فتهشمت الجرة .

صاح الناسك : ماذا تفعل يا اخي؟؟ رفقا بها.

ابتسم الرجل و قال : الم تقبض ثمنها؟؟ هي لي الان .

-    نعم ..عذرا ,هن ملكك الان.

رجع الناسك لمكان عمله ليكمل صنع الجرة, وقبل ان تبداء الجرة بالدوران سمع صوت تحطم جرة اخرى, قفز من مكانه فوجد هذه المرة جرة كبيرة محطمة على الارض.

صرخ الناسك :

-    ماذا تفعل يا اخي؟؟ هل تتعمد كسرها؟

لم يجب الرجل ,فقط اكتفى بابتسامة معناها بكل بساطة : انها لي.

رجع الناسك مشوشا ليجلس مكانه وقد شعر ببداية ثورة الغضب تجتاجه تجاه هذا المخلوق الماثل امامه , وقبل ان يجلس سمع صوت تهشم جرة اخرى فلم يستطع التحمل اكثر من هذا , هجم صوب الرجل و جذبه من ردائه بقوة:

-    ماذا تفعل ؟؟ انا تعبت على صنع هذه الجرار, تقوس ظهري و خشنت يدي و بهتت عيوني .. اذا شئت خذهن وبعهن ولكن لا تكسرهن.

رد الرجل فيما كان يفك يدي الناسك من حول رقبته :

-    لا تغضب يااخي ..انتهت علاقتك بهن ,انهن الان لي , و هل تحب الجرار حتى بعد بيعهن ؟ ثم ان الجرار المحطمة لم يكن يعجبنني.

-    افهمني يا اخي ..صرفت وقتا وجهدا لصنعهن , حتى لو لم يكن كلهن بنفس الجمال والاتقان . فهن جراري ..صنع هاتان اليدان .

جن الناسك حين ركل الرجل جرة قريبا عليه و هشمها ,فاخرج الكيس و قذفه نحو الرجل .

-    خذ نقودك يا رجل ..جراري اصنعهن للحياة, لا للتهشيم والكسر.خذ نقودك و ارجع لي جراري.

و ادار وجهه و طفق يكمل عمله .

افترت الجرة النصف مكتملة بين يديه,سال الطين الناعم بين كفيه , جر نفسا عميقا.

ومض في عقله كابوس الجرار الماطرة, ثم دعاؤه في صلاة الفجر, ثم الرجل الغريب ,كلها مرت عليه ومثلت امامه مثل فصول مسرحية ,قفز من مكانه وراح يجري خلف الرجل فلم يجده ,  جرى بعيدا و هويصرخ ( يا رجل ..يا اخي .. )  وهكذا ظل يجري ويصرخ كالمجنون الى ان اجتاز الجبل ووجد نفسه امام الوادي . نظر من بعيد فوجد الرجل واقفا في الافق,وسرعان ما ضاع الرجل وتلاشى خياله.

 

رجع الناسك لمصنعه الصغير وجثى على ركبتيه بين قطع الجرار المهشمة فيماكان يشعر بنوع من من الصقيع يجتاحه  ... تمتم (( ربنا ما خلقت هذا باطلا))!!!

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.