كـتـاب ألموقع

رواية السقشخي للروائي علي لفته سعيد// حميد الحريزي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

رواية السقشخي للروائي علي لفته سعيد

معاناة  العراقي بين الديكتاورية  وال(ديمقراطية)

حميد الحريزي

 

((السقشخي))

 الروايةالاخيرة لعلي لفته سعيد والصادرة عن دار ((الفؤاد للنشر والتوزيع )) القاهرة في طبعتها الاولى لعام 2017 وبواقع 248 صفحة من الحجم المتوسط.

يبدو عنوان الرواية غريبا او غير مألوف للقارئ، فلا يجد له  معنى في قاموس اللغة  العربية، فهو اشتقاق مدمج  لنسب من يسكن مدينة سوق الشيوخ، قدح في  مخيلة  وفكر التلميذ اجابة على سؤال معلمه في المدرسة، فكما ((البصري)) و ((البغدادي)) و ((النجفي ))...الخ ، كذلك ((السقشخي)).

وهي دلالة الاصالة وصدق الانتماء لمدينته، المدينة الغافية على ضفاف نهر الفرات، متوسدة اهوارا شاسعة تمتد  على مد البصر، قبل ان يشملها الجفاف، المتعمد من قبل سلطة  البعث في الثمانينات من القرن الماضي اثناء الحرب العراقية الايرانية، ونتيجة حجز مياه الفرات من قبل  دول المنبع  تركيا وسوريا.

مدينة ذات تاريخ  يعتز به اهلها وكل ابناء العراق، لتميزها بالبطولة ومقارعة كل موجات الاحتلال والاستغلال الاستعماري الذي تعرض له العراق، فكان اهالي (سوق الشيوخ )) من المبادرين للمقاومة بالاشتراك مع بقية المدن العراقية، كما ان لأهلها صولات وجولات مشهودة ضد كل انواع التعسف والظلم من قبل السلطات الظالمة سواء اكانت الملكية او الجمهورية الديكتاتورية، يشهد لها بفخر انتفاضة ((1935))، وانتفاضة ((1991)).

مدينة تحب الشعر والجمال، مدينة الكرم والرجولة والسخاء، كانت ولا زالت مميزة بشعرائها سواء من شعراء الفصيح او شعراء العامية العراقية، فلا زال ((ابو معيشي)) حيا في ذاكرة المدينة، وصوت ((داخل حسن)) وبحته المميزة تشنف لسماعه الاذان على مد  عقود من السنين.رغم طغيان الاستعمار وموجاته المتتالية، ورغم عسف الديكتاتوريات الملكية والجمهورية، ورغم ويلات الحصار والحروب سيبقى ((السقشخي)) يعتز ويفتخر بمدينته وببلده، وسيبقى يحمل قيم الوفاء والحب والجمال  في حله وترحاله.

 

((الماجد)) بين مطرقة ((الداخل))  وسندان ((الخارج)):-

العراقي يعاني  طوال عقود من الزمان وهو تحت طائلة  الشك، توجه له اصابع الاتهام من قبل السلطات المتعاقبة، لا يأتمنه حكامه، ولا يأتمنه مستعمريه لا لشيء إلا لكونه يرفض الظلم ولا يرضى ان يذل او ان تمتهن كرامته من قبل كائن من كان، فقد امتزجت في  شخصيته لقاحية البدوي وعشقه للحرية، وبساطة ووداعة الفلاح وعشقه للجمال  كما هي طبيعة بيئته حيث الزرع الاخضر والضرع المعطاء، شاركه القصب  انينه عبر شبابته الراقصة التي اتلفت مع ربابة البدوي العاشق، احب عزف  طيور ((الخضيري)) و ((الحذاف))  والفلمنكو، واكتسب نجابة ((البني)) و((الشبوط )) و((الكطان )).

دربه الفرات اثناء فيضاناته وهدير امواجه على مقاومة كل جبار عنيد  يحاول ان يعكر صفو حياته  ويجرف نباته  وأكسبته  اصوات الطيور المهاجرة التحرز والحذر، فهو ((يريح)) ويشتم رائحة الخطر عن بعد فلا تغريه مظاهر البذخ والخضرة ووفرة الطعام قبل ان يحصل على مواثيق الامن والأمان، كما انه اكتسب الفة الحمام والبلابل  فكان ودودا  وفيا  كريما...

 

((ماجد)) ابن هذه البيئة ((السقشخية )) التي تحمل المتناقضات، ابن العائلة الفقيرة بالمال الغنية بالقيم، الذي عاش طفولة بائسة، ولكنها غنية بروح المرح والبساطة والذكريات الحلوة في مدينته، بين رفاقه وأقرانه من ابناء محلته، وزملائه في المدرسة، يكمل دراسته الجامعية، ويعين  بعنوان ((معلم جامعي)) ليدرس التربية الفنية  في احد مدارس المدينة، على الرغم من كونه  يستحق ان يكون مدرسا في المدارس المتوسطة والثانوية، ولكنه يفتقد للواسطة وكونه ليس من ازلام السلطة، خصوصا وقد قررت السلطة وبأمر من القائد الضرورة تبعيث التعليم، فلا مكان لغير البعثي في سلك التربية والتعليم مهما كانت كفائتة  ومقدرته ومكانته العلمية، فلا صوت يعلو  على صوت الحزب القائد.

نتيجة للفاقة وهزالة الراتب الشهري للموظف الحكومي في زمن الحرب والحصار، وفقدان الدينار لقيمته في السوق، مما اضطر اغلب الموظفين للعمل بعد الدوام الرسمي في مختلف المهن، كباعة  متجولين، او سواق سيارات أجرة ((تاكسي))، او باعة  على الارصفة، وحتى العمل في الاعمال الشاقة كاعمال البناء...الخ .

وقد كان ماجد احد هؤلاء حيث وقف خلف ((جنبر)) صغير ليبيع الشاي في السوق على احد الارصفة !!!

رغم ذلك فانه صار هدفا أحد  اصحاب محلات بيع القمصان ((سلمان))، ابن الحاج حصون ابو الصوف الذي كان يعمل وكيلا للأمن ويرفع التقارير الكيدية ضد من لا يعجبه ولا يسكت على تصرفاته الفجة وغير الانسانية، لان ((ماجد)) رفض ان  ينجز واجبات ولده الذي كان احد طلاب ((ماجد)) في المدرسة، فقرر ان يعاقبه بتلفيق تهمة عدم الرضا عن الحزب والثورة والتعرض للسيد الرئيس بسوء، وكان له ذلك حيث اقتيد ((ماجد)) لمديرية الامن، وتعرض لشتى انواع التعذيب والإهانة والإذلال بتهمة معاداة الحزب والثورة...

هنا يؤشر لنا الروائي التغيرات الخطيرة التي طرأت على المواطن العراقي وتمكن السلطة من تجريف القيم الانسانية الايجابية لديه، مما يجعله مطية بيد السلطة، ومخلوق حقير بلا ضمير، لا تحكمه قيم المواطنة ولا الجيرة ولا الصداقة، وقد كانت السلطات البعثية ذات باع طويلة في ايجاد شرخ كبير في المنظومة القيمية للإنسان عبر الترهيب والترغيب والتجويع حد الموت لتصنع منه الة طيعة توجه حيث تشاء  غيرا صاغرا منفذا  لإرادتها الجهنمية في فرض سطوتها على  كل ابناء العراق، بعد ان حرمت عمل كافة الاحزاب  السياسية العراقية، وخصوصا بعد انفراط عقد الجبهة الوطنية مع الشيوعيين ومع الكرد، ناهيك عن القوى الاسلامية وخصوصا ((الشيعية)) والشيوعية منها، فقد حامل المثلث الشيني عدوها الاول ((شيوعي شيعي شروكي))،وقد كان موضع الشك وعدم الثقة حتى وان كان  كلب صيد  وفي  للحزب  وللقائد...

انه الخوف من الاخر المزروعة في بنية الحاكم في سلطة البعث خصوصا، والناتجة عن ادراكه لعدم شرعية حكمه وسلطته التي شيدها ((على الجماجم والدم))- بعث تشيده الجماجم والدم...  تتهدم الدنيا ولا يتهدم))، خصوصا وقد اختزل الحزب بالعشيرة ومن ثم بالعائلة ومن ثم بالفرد فـ ((لا حياة بلا شمس ولا عراق بلا صدام))...

 

يسهب الكاتب في وصف اساليب همجية وسادية ضباط الامن، وعنف وسادية الجلاديين من قوى الامن والمخابرات، وهو حال لا يكاد عمل روائي عراقي يخلو من  وصفه  وتوثيقه، وتسجيل ما وصلت له الفاشية  الحاكمة من اساليب القتل والتعذيب ضد كل من تشك بعدم ولائه  للحزب والقائد، حتى انه شمل اقرب مقربي  القائد فقد اقدم على تصفية وإعدام رفاقه في ابشع مجزرة جماعية ضمن تهمة ملفقة حتى وصل الامر الى بيته حيث قتل حسين كامل زوج ابنت الرئيس ابشع قتلت على يد علي كيمياوي وزمرته، وسيظل  العراقي  يتذكر لعقود من الزمان جرائم  البعث بحق معارضيه من مختلف الاتجاهات القومية واليسارية والدينية...

 

لا خيار للعراقي فأما قبول المذلة  والموت او الهرب:-

نتيجة لهذا الواقع المر الذي يعيشه المواطن العراقي في بلده، حيث سياط الجوع  والفقر وسياط ارهاب السلطة التي لأترحم، اخذ المواطن العراقي وخصوصا من الشباب ومن المقفيين بالهرب من البلاد حفاظا على حياتهم رغم مرارة هذا الخيار، وهكذا قرر  ((ماجد)) ان يهرب الى الاردن وفق مغامرة خطيرة جدا ربما  تؤدي بحياة كل من يسلكها، وما كان يتحقق له ذلك لولا رائحة الدولارات التي يعطيها  للمهربين المحترفين  لتسهيل مهمته وايصاله بأمان الى الاراضي الاردنية، او التركية او الايرانية والكويتية والسورية، وقد كان خيار ((ماجد)) الاردن، التي  تعرض فيها لرهاب الخوف والقبض عليه  بالتسلل اللا شرعي الى الاردن وتسفيره وتسليمه لقوى الامن العراقي حيث يلاقى حكم الموت المؤكد بدعوى الخيانة، ولولا  ان تنتصر له انسانية صاحب الفندق لكن  في خبر كان  بعد ان قبضت عليه قوى الامن الاردنية...

وقد مر بمفارقات عديدة منها مهربه المدعو ((مؤتمن)) المتدين والمهرب السماوي ((حامد)) المقعد الذي يمشي على عكازيتين احد معوقي الحرب، ومفارقة سكنه فندق ((المهيب)) فندق رخيص هو الاقل اجرة في عمان.

وهنا يؤشر الكاتب مدى ما وصل اليه المجتمع العراقي من الرثاثة  والتناقض، فضحية القتال من اجل ((الوطن)) يعمل مهربا لابنائه للخلاص من  شر  حاكم  الوطن!!

بعد فترة من حياة الخوف والترقب في الاردن يمكنه ((حامد)) من الهروب الى بيروت، حيث فسحة من الحرية والأمان اكبر ولو انه يعلم ان قوى امن السلطة تلاحق العراقي في كل مكان (( وراء كل مواطن مخبر حتى ولو كان في جوف القمر )) ص92.

 

واحة الحب، وأمل  الحرية:-

في بيروت قادته الصدفة للقاء والتعرف باللبنانية العربية الامريكية الجنسية الفتاة الجميلة ((زينب ))، حيث يجد ((ماجد)) في زينب الحلم الذي لا يمكن ان يتخيل تحققه في يوم الايام ضمن حياة الخوف والحرمان، ((زينب)) الجمال والثقافة والرقة والحب حد الذوبان، خلبت لبه وهيمنت على قلبه ، بأنوثتها الباذخة  وعطشها للحب والأمان والجنس والصدق في العلاقة، هذا الذي لم تجده في امريكا وجدته في بيروت في شخصية عذراء  تدعى ((ماجد))، فكانت تلك السفينة او ذلك اليخت الباذخ الرقة والجمال، او تلك الحورية الساحرة التي انقذت غريق تلاقفته امواج بحر الحياة الهائج المليء بأسماك القرش المتلهفة لازدراده  وتقطيعه اربا، الماء الكوثر العذب الذي روى  ضمأ عطشان كادت تقتله ملوحة الماء الاجاج الملوث بكل قاذورات الارض ووساختها...

كان الحب متبادلا، توج بعقد الزواج الشرعي، ومن ثم الانتقال الى بلاد العم سام حيث تمثال الحرية الذي تفتخر به الامبراطورية الامريكية حاملة لواء الديمقراطية وموقدة شعلة الحرية لكل شعوب الارض كما تدعي...

تستقبله ((زينب)) ووالدتها بترحاب كبير ومودة واحترام، أحس  بالأمان فهو الان تحت ظل  تمثال الحرية  وحماية العم سام، ابهرته عمارات وناطحات السحاب، الأسواق والأنوار التي لا تطفأ، المدن التي لا تعرف السبات، الحركة التي لا  تتوقف، مما جعل  ماجد يفكر  في استكشاف هذا البلد العجيب، ناسه، معالمه الكبرى، كيف تعيش الناس، حرية الحركة والتجوال والاستكشاف ليعوض عن كل حياة الكبت والممنوعات في بلاده، وما جاورها، فكما هي القبلة  مسموحة وبلا حرج  وسط شوارع وساحات وحتى في وسائط النقل او المطاعم، تكون كل تطلعات الانسان مسموحة، حبه للإطلاع، وفضوله في الاستكشاف، ورصد حياة الامريكان بمختلف اعراقهم وأديانهم ومعتقداتهم، فأراد ان يشبع هذا الفضول بالإطلاع على  برج التجارة  العالمي الشهير ...

 

طريق البرج ، طريق  السجن:-

في عين الوقت الذي علقت عيون ((ماجد)) و((زينب))، وعدسة كامرتهما بقمة البرج، حدثت الواقعة الكبرى، طائرتان تخترقان خاصرة البرج، فتتناثر  اشلائه وشظاياه حمما وصراخا وركاما مهولا لا تتخيله مخيلة انسان، ولا تبرره  افعال، اصاب الجميع الذهول، فقد فار التنور  وتجسم  يوم الحساب...

لم يهنأ ماجد كثيرا في بيته وفي احضان حبيبته، فقد وقع  المحظور، فلازال المخبر يلاحقه، ولكنه لا يرتدي  البزة الزيتونية، ولكنها  ترتدي بدلة المحرر المخلص

يتعرض ((ماجد)) للاستجواب والارهاب غير المباشر متهما بالمشاركة في جريمة  تفجير ابراج التجارة نتيجة وجوده قرب موقع الجريمة وتصويره لماحدث....

مكث تحت قيد التحقيق لعدة ايام نادبا حظه العاثر، وقدره ان يظل  مطاردا من المخبرين ورجال الامن في كل مكان وكأن هناك  تخادم بين ازلام السلطة في بلاده وبين قوى الامن في امريكا، في كلا الحكومتين ((ماجد)) وأمثاله سيبقون مثار الشكوك وموضع الاتهام، صحيح انه لم يتعرض للتعذيب والضرب المباشر من قبل الامريكان  كما حصل له مع امن البعث، ولكنه عاش رعب التهمة الباطلة والمبنية على الشكوك في كل من المعتقلين الصدامي والامريكي... وقد اصبحت تجربة امن العراق مفيدة له في  سجن الامريكان حيث خبر اساليب الاستجواب والإفلات من في كل مكان، ولم تستكن زينب في بذل جهد كبير من اجل انقاذ حبيبها من تهمة الارهاب الزائفة ضده لا لشيء الا لأنه الصدفة قادته الى موقع الحدث في ذلك الوقت...

اخيرا  ثبتت براءته  وأطلق سراح، مع تكرار شرط السكوت والصمت عما جرى له في المعتقل وكأنه يستعيد  شريط المحقق ((سدخان)) في مديرية امن الناصرية وسوق الشيوخ!!!

شباك المحققين المراد ايقاعه فيها، كما انه لا ينسى توصيات،  وتوصيفات خاله ((يونس)) الشيوعي, هذا الذي نجا من الموت غرقا في لجة بحر العنف البعث في العراق، حول اساليب قوى الامن في كل مكان، ومدى ارتباط النظام القائم مع النظام الرأسمالي الامريكي وتخادمها في تطويع الشعوب واستعبادها وكسر ارادة الانسان

 

رائحة ((الخريط))* لا تفارق  انف  ((السقشخي)):-

بعد أن عاش ((ماجد)) هذه التجربة المريرة في بلد ((الامان))، قرر ان يعود الى ارض الوطن ((المحررة)) من الديكتاتورية، والموعودة بالديمقراطية والحرية والرفاه، رغم ان ((زينب)) حاولت ان تثنيه عن قراره ولكن دون جدوى، حيث يبدو ان  رائحة ((الخريط )) غلبة على رائحة ((زينب))، وان بياض سيقان ((العكيد)) طغت على سيقان الشقراوات في بلاد العم سام، فحاول ان يصفي اغلب اعماله المربحة التي درت عليه  بمال وافر، سيحمل بعضه معه لتنفيذ احلاما معشعشة في مخيلته في بلده وفي بلدته سوق الشيوخ ...

انه الحنين للصفاه والمسنايه، وللنجادة، ولمديره حسين، وأبو رحيم الفراش، والى ام راهي ام سن الذهب، والى الخياط محمد الصباغ و((اذهب وتعال بالعيد))، الى بقايا رائحة الام والى وصاية الاب، الحنين الى الاتربة والمطبات والأزقة المظلمة والى الاستماع الى اوركسترا الضفادع ليلا، والى نداءات بنات اوى، وسماع رفيف اجنحة الخضيري والحذاف والبط المهاجر والى رائحة ((المسموطه)) ووو بعيدا عن  الخضرة والأنوار البراقة، من اجل هذا وذاك قرر العودة الى ارض الوطن.

اليهود يستردون وثائقهم ، عبر الهمرات الامريكية :-

ظاهرة الحربنة، والقردنة، والثعلبة  هي السائدة ما بعد ((التحرير )):-

دخول  ارض الوطن، دخول دائرة الاغتراب، غربة الروح، فالانسان ليس هو، والأرض تملؤها المطبان والحفر، الفضاء مشبع برائحة البارود بدلا من عطر الياسمين وشذى البرتقال ونسيم دجلة والفرات العذب، المدن قلب عاليها سافلها، تبدلت السمات، وتغيرت الصفات، رفعت صور القائد الضرورة واستبدلت بالسماحة المبجل، غابت القيادات وانتشرت الآيات، الجباه معفرة حفر النفاق له  اخاديد على الجباه، والأصابع اثقلت بالخواتم و((المحابس)) الملونة، نائب الضابط حنون البعثي السكير، يتزيا برجل دين  يهابه الناس ويطلبون بركاته ويقتربون منه زلفى، حرم الغناء وحل اللطم والبكاء(( لقد هرب الخوف من النافذة.. فهل هناك خوف آخر عاد من الابواب؟؟)) ص175.

احداث الرواية ومشاهدات ماجد بعد عودته الى بلده، تجيب بنعم على السؤال اعلاه، فقد سادت الفوضى  وعم الخراب وتسيد المشهد السياسي والاجتماعي غوغاء منحرفة ومتزلفه الكثير منها من حثالات النظام السابق الذين سرعان ما خلعوا الزيتوني وارتدوا العمائم ولبسوا التمائم، ويتمسحوا بصور السماحات من كل لون وطراز الاسود والأبيض، من اصحاب العمائم سواء بذيل او بدون ذيل.. ((الشرطة المرتشون وحراس شعبة الحزب والرفاق البعثيون وكتاب التقارير هم الان يقودون المسؤولية بوجوه ملتحيةٍ)) ص188.

كيف ولا وقد سلطة امريكا حثالات على سدة الحكم لتقود العراق بعد ((التحرير))، زمر من الفاسدين والمرتشين، وأدعياء التدين، نماذج وضيعة تتصارع على المناصب والمكاسب، بعيدين كل البعد عما رفعوه من شعارات الحرية والعدالة والديمقراطية، اريد لهم ان يكونوا امعات تحركهم ارادات خارجية امريكية وغير امريكية وتبعا لذلك تنكر العديد من الناس لألوانهم ومعتقداتهم وحتى اسمائهم السابقة ليركبوا موجة التدين المزيفه في كل شيء ((الناس على دين ملوكهم)) 194

 

الانتقال من ارهاب السلطة الى ارهاب  المجتمع :-

ففي الوقت الذي كان الانسان العراقي الحر والمعتز بذاته، الانسان الذي لم تتمكن السلطة الديكتاتورية من تدجينه وضمه الى مرتزقتها وغوغائيها، كان شديد الحذر والاحتراس والتحرز من السلطة ورموزها وشرطتها العلنية والسرية، وكان يتعرفهم بتجربته الخاصة وبحسه الشعبي وفطنته  المتوارثة، ومعاناته  هو وآبائه وأجداده  من بطش وقسوة السلطات المتعاقبة على حكم العراق...

لكنه بعد اختفاء لديكتاتور ورموزه وتفكك سلطته والفوضى ((الخلاقة)) القادمة على ظهر الدبابة الامريكية اخذ يخشى جل مايخشى من المجتمع، حيث العصابات والمليشيات من كل لون وشكل، فـ ((العقيد سدخان)) تحول الان الى ((سماحة الحاج سلمان))، سبحته السوداء الطويلة، افعى سامة  تتلوى على رقاب  كل من يعشق الجمال والحرية الحقيقية، ولا يغرق في رائحة البخور والخرافة، ولا يتطين بطين القداسة... فقد انقلبت كل المفاهيم والقيم ((الكثير من مروجي العفة هم فاسدون والكثير من مروجي الحرية هم اكثر التزاما)) ص12.

 

رغم ان سوق الشيوخ لم تكن مركزا للسلطة الديكتاتورية ولا تشكل نقطة استراتيجة بالنسبة للمفهوم الحربي الامريكي ولكن القوات الامريكية دخلتها في 30 اذار 2003؟؟، مما يثير التساؤل لمن يتابع مجريات الحرب وهكذا كان ((ماجد)) يرى ان هناك امر غير اسقاط النظام وراء دخول قوات التحالف الامريكية خصوصا  لسوق الشيوخ، وقد كان يرى وحسب متابعته  لتحرك القوات انها موجهة من قبل  الصهيونية العالمية من اجل الاستيلاء على وثائق وأسرار يهودية خلفها يهود سوق الشيوخ في دير لهم اسس عام ((1813)) في السوق، اودعها في مكان سري اليهودي العراقي ((الياهو يعقوب)) قبل هدرته او تهجيره الى اسرائيل، حيث كان  اكثر من 300 نسمة من اليهود في سوق الشيوخ  عام 1869 في السوق، فقد قصدت همرات خاصة  الدير وحملت ما حملت من الدير بعد ان اغلقت القوات الطرق المؤدية للدير ومنعت الاهالي من مشاهدة ما يجري في الدير وما حوله

وقد اثبتت الاحداث ان اليهود كان وراء سرقة الكثير من الاثار والوثائق الهامة التي  تؤرخ للعراق ولتاريخ اليهود في العراق، وسرقة الكثير من الشواهد التراثية والحضارية والاثرية  التي  تدل على رقي  وعراقة تاريخ الشعب العراقي  منذ آلاف السنين.

 

المنحى الفكري ، وأسلوب السرد وضبط ايقاع الحبكة :-

الروائي علي لفته سعيد محب حد العشق لبلده ولمدينته ((سوق الشيوخ ))، وهكذا كان عنوان روايته ((السقشخي)) التي نرى انها تنتمي للرواية للواقعية الاجتماعية الانتقادية وكانه يقول انا سقشخيا عراقيا حتى النخاع، فعلي قد تأمل وتفكر كثيرا قبل ان يمتطي صهوة روايته، لذلك كانت ممتعة للقاريء كاشفة عن واقع حال بلدته وبلده في زمن الديكتاتورية وزمن الاحتلال وكما قال رسول حمزاتوف

 ((قبل ان اقفز وامتطي صهوة كتابي ، سأمضي في تفكيري ودون عجلة  من امري ، اقود حصاني من لجامه واتامل)) ص20.

وقد كان  مصورا للواقع بكل تناقضاته ومتعرج وتلونه، مؤشرا امرا هاما وان كان  من خلف ستار طييعة المجتمع  العراقي ان صح لنا توصيفه بالمجتمع وهو الاقرب الى كتلة بشرية يتداخل بعضها ببعض دون رؤية علامات فارقة، فالحراك الاجتماعي لايؤشر لنا حراك دال على صراع طبقي واضح المعالم كما هو حال المجتمعات في العالم الاول، فقد  تحولت اغلب المجتمعات في العالم الثالث عموما وفي  العراق خصوصا الى مجتمعات مستهلكة غير منتجة وبالأخص الدول البترولية ذات الريع النفطي، كتلها البشرية  كالكثبان الرملية المتحركة تذروها رياح العالم الاول كما تذروها رياح الخريف المغبرة،  حيث لا صناعة ولا زراعة متطورة، حيث نلحظ  التحول المدهش للفرد العراقي من موقع الى اخر ومن طبقة الى اخرى ومن مبدأ الى نقيضه بكل بيسر وسهولة تبعا للتحولات الحاصلة في هرم السلطة الحاكمة، فمرة عامل ومرة مهندس ومرة اخرى سمسار عقار وأخرى صحفي او شرطي الخ، ومرة يساري متطرف او قوماني متخلف او لبرالي حد الفوضى ومحافظ حد التزمت، او رافضا للدين حد الالحاد، غاطسا في خرافة  التقديس للشخص والنص حد التلاشي دون تفكر:

((ان كل ما حولي هش ويحمل ظنونه فلا نفع لمضاعفة أليقين لان الوقائع اليومية تضطر المرء الى ان يكون متقلبا حتى في افكاره...)) ر ص73

فلذلك كانت احداث رواية ((السقشخي)) معبرة بصدق عن هذا الواقع المائع المتحول مما يدل على وعي الكاتب وفطنته لما يجري في بلده...

كان ممسكا بلجام السرد ومجرياته دون ان يفلت منه زمام الشخصيات وتحولاتها  وتحركاته، تشعر دابته بقوة فارسها وقوة ارادته وسعة افقه وخبرته وهو يوجهها نحو الطريق الافضل والأسلم والأجمل للوصول الى حضيرة الهدف دون خوف او تلكوء فسلمته قيادها راضية مرضية.

كذلك فان الكاتب كان موفقا تماما في اختيار شخصيات روايته، مما مكنه من استيلاد صور وتصورات حيه عميقة صادقة  لدى المتلقي القارئ نتيجة واقعية الشخصيات وقربها من القارئ، نماذج حية مألوفة معاشة وليست دمى مزيفة اختارا الكاتب من بنات خياله الجامح وكما يقول  رسول حمزاتوف:-

((لا يولد اطفال  من تزويج الدمى))  رواية بلدي – رسول حمزاتوف  ص 67.

 كان الكاتب موفقا في اختيار الشخصيات وأسماءها ودلالاتها، حتى انه ابان عن معنى زينب خارج المدلول المقدس لغاية، وكذا اسم  خاله ((يونس)) الشيوعي كالنبي الذي بقى حيا  في بطن الحوت ولم تتمكن منه قوى الطغيان، و((سدخان)) الاسم البدوي الفج غليظ الطباع غير المحبب لضابط الامن، والشاعر افضل، وشقيقه الجواد الهمام...الخ

اختياره لماجد المعلم دلالة حال الطبقة الوسطى الطبقة المثقفة في المجتمع الشمولي البترولي كالعراق، المصنع من قبل  الطبقات ((الاقطاوازية)) على تصنيعه وربط مصيره بمصيرها، خانقا  كل تطلعات هذه الطبقة نحو الحرية والتقدم كما هي في البلدان المتقدمة، وذلك لضعف موضوعها وهشاشة البنية الطبقية للمجتمع العراقي، وموقعها بين طبقة برجوازية طفيلية غير منتجة وطبقة عاملة رثة، في مجتمع مستهلك غير منتج وبذلك فهو غير مؤهل لحمل افكار التنوير والتقدم والحرية، مجتمعا ساكنا غير متسائل، يسبح في الغيب وتسوقه الخرافة...

هذا الواقع يضع الروائي في متاهة توصيف دون تعريف تحولات مجتمعة خصوصا اذا سلمنا ان الرواية هي ملحمة البرجوازية المنتجة  الصاعدة.فيكون هذا العقل من الطبقة الوسطى والذي يحاول ان يعي لا وعيه ويترفع على واقعه المتردي، ليكون منتجا ومتحررا وتواقا نحو العدل والمساواة، غالبا ما يفشل في تبني احدى   سلوكين او حالتين حالة السكون والإذعان والرضوخ، وأخرى  تريد له ان يكون قويا ثابتا واضحا فيحاول ان يتمرد عليهما معا ليكون معلقا في الهواء لا يجد له مستقرا:

 (( لا اسمع الا صوت ابي وخالي... صوتان من التناقض والثقافة  والوعي... كن مؤدبا  وامش قرب الحائط ،  وكن كما انت  قويا لكي يهابك الاخرون...)) الرواية ص 72.

 

تتوالى الاحداث عبر سرد رشيق وكلمة معبرة، بين سجن ورحيل  وهجرة، بين حب وعنف، بين فرح وألم  وخوف وتشرد، بين جهنم البلد وبين عالم امريكا المذهل، يحاول الكاتب ان يخفف قتام الاحداث على القارئ فيطعمها بمشاهد الحب والعشق والايروسية المحببة، فتكون كقطرات المطر التي تسقي عطش ارض  عطشى بالنسبة للبطل والمتلقي في عالم الكبت والحرمان.

كشف الكاتب زيف النظام الرأسمالي ودعواه الديمقراطية حيث يتعرض للسجن التعسفي والترهيب القاسي من قبل قوات الامن الامريكية لا  لشيء إلا ان حب الفضول والإطلاع ادت به ان يكون قرب برج التجارة العالمي ساعة تعرضه للتفجير الارهابي....مما عرضه الى موت الاحلام وقسوة الواقع وملاحقة النحس له في  كل مكان إلا حب ((زينب )) جنته وفردوسه  الوحيد:

((الان لاترى سوى الخواء)) ص 235. هكذا راى واقع مدينته وبلده بعد عودته بعد ((التحرير)) المزعوم.

حيث تمكن من وضع يده بنظرة الوطني الصادق على واقع ما بعد ((التحرير)) في كل العراق وقد كان واضحا هذا الحال كما وصفه  صديقه الشاعر افضل وهو اسم على مسمى حيث يقول:

 ((صدام وضع يديه على افواهنا والجماعة وضعو ايديهم على اذانهم)) ص25.

فمن يتصدى للواقع الفاسد وتدهور حال البلاد اقتصاديا وسياسيا  وثقافيا تساق له تهم جاهزة كما وردت على لسان شقيقه  ((جواد)):-

((هنا الاتهمة جاهزة  ياماجد ... اذا ما ارادوا التخلص منك ، اما  كافر او بعثي وفي الحالتين  هناك مبرر للتخلص منك )) ر ص236.

تمكن الكاتب من ان يدير حوارا بين مختلف الشخصيات والمواقف المتناقضة، لينتج حوارية ((باختينية)) وليظهر الراوي العليم محايدا فاسحا المجال امام مختلف التوجهات الفكرية والسياسية المتصارعة على الساحة  كما هي على ارض الواقع مؤشرا واقع هيمنة القوى المرتدية لباس الدين ومدى تطرفها وضيق افقها ونزعتها نحو قمع واجتثاث المخالف والمختلف بقوة السلاح، حيث الاغتيالات والقتل جهرا وسرا ودون حساب، وقد ادخلت البلد) في حرب طائفية مدمرة  برضا وتخطيط  امريكا المال والاستغلال والاحتلال.

يختم الكاتب روايته حيث يصل الى واقع تطابق تهمة المحقق الامريكي الذي يتهمه بعداء امريكا ((باني اقف ضد امريكا لاني اكره الصليبين)) وبين موقف مدعي الدين والتدين الموتور ناصر صاحب اليشماغ الاخضر   الذي يؤشر انه من نسل علوي (( انه يحمل افكارا امريكية معادية للإسلام )) ص245 ...

وهنا كليهما  يسعى للخلاص منه وابعاده الى حد التصفية الجسدية...

معلنا في الختام ((انا سأحمل هروبي معي... واكتب على رقيم لي ... ان الاستقرار لايشبه الاناشيد)) ص246.

فالرواية في النهاية تشير الى ما افرزته الحكومات الديكتاتورية من خوف وتخلف وتقردن وثعلبة الانسان في هذه البلدان، لم ولن تتمكن قوى الاحتلال والاستغلال ان تزيله لا بل ستزيد حالة الفوضى والاختلال في كل الموازين الوطنية والإنسانية لهذه الشعوب، وواد كل طموحاتها في الاستقلال والحرية والديمقراطية والعيش الرغيد، وتكريس الفكر الغيبي الطائفي العرقي التسلطي ليكون هو الحاكم والممسك بصولجان السلطة  بما يخدم مصالحها وكما يقول الاستاذ محمد برادة

((حرب الاضطهاد والقمع التي اعلنتها الانظمة العربية على النخب المثقفة والمناضلين منذ ألخمسينات قد فتحت الطريق امام انبثاق واتساع الفكر الغيبي والأصولي، وأمام توظيف الدين لإغراض سياسية  يحرف الصراع الديمقراطي عن اغراضه الحقيقية، ومن ثم فان انتاج الفكر التنويري والإبداع الفني والأدبي المتحرر من وصاية الايدولوجيا وإغراءات التدجين، يعيشان محاصرين وسط رجعية الدولة وسطوة الاصولية الدينية المصادرة لحرية الناس)) الرواية العربية ورهان التجديد د. محمد براده مايو 2011

*الخريط  - زهرة البردي  صفراء اللون ، يطبخ بطريقة خاصة ويؤكل   وهو حلو المذاق.

* المسموطه- مرقة السمك المجفف.

*العگيد-  جذر نبات البردي  طرية بيضاء  تؤكل  ايضا .