كـتـاب ألموقع

في المرأةِ وفلسفة القهوة (2) - أرْحامُ القهوة// د. سمير محمد ايوب

• 

تقييم المستخدم:  / 0

سيئجيد 

المجموعة: سمير محمد ايوب

تم إنشاءه بتاريخ السبت, 10 حزيران/يونيو 2017 18:47

كتب بواسطة: د. سمير محمد ايوب

الزيارات: 5365

في المرأةِ وفلسفة القهوة (2) - أرْحامُ القهوة

د. سمير محمد ايوب

الأردن

مع طلائع عَتمِ الليل، غادرنا شط العقبة عبر الطريق الملوكي، شمالا بإتجاه وادي القمر في رم. ساعةَ وصولنا الى المخيم السياحي هناك، كان الليل قد أقبل ساريا، وغَشِيَ الوادي بظلامٍ رقيق. تناولنا برفقة كثيرين من السياح، طعام العشاء في الهواء الطلق.

كانت سماء الوادي في تلك الليلة صافيةً. مزينة بمشكاة نور، مرصعة بالخُنَّسِ والجواري الكُنَّس. وكان قمر الوادي يتكور. سرعان ما تجلى في كبد السماء بدراً وهاجا. أبانَ سحر صخور الوادي ورماله الوردية.

لم نتابع السهر في المخيم. آثرنا التمشي الحُرِّ خارِجَه. إغواءاتُ الليل كانت لا تقاوم. إبتعدنا عن مضارب المخيم، مسافة أبقتنا في مدى صوتِ الربابة الحزين، وتقاسيم المهباش القوية.

توقفنا حين داهمت رائحة هيل، خياشيمنا المشرعة لنقاء نسائم الليل. ذَكَّرتُ ضيفي الجليلي، برائعة النواب: مّرِّينا بِيكُمْ حَمَدْ واحنا بقطارِ الليل. واسمعنا دَكِّ إكْهَوه، وشَمِّينا ريحِةْ هِيلْ.

أخذتُ شهيقاً عميقا. تَلَفَّتُ بحثا عن الساحرة. فهذا العطر رفيقها الأخاذ. سرعان ما ألفينا أنفسنا في مواجهة عاشقين في السن الذهبي للعشق. بلباس التَّرَيُّضِ يفترشان الرمل. توقفنا بضع دقائق قبالتهم، نُمَتِّع حواسَّنا صامِتيَنِ بما نرى ونَشُم ونسمع.

كانت مسترخيةً بأرْيَحيةٍ. وهو مستلقٍ على ظهره، ورأسه في حضنها. بحنان أُمٍّ تُحيط خدَّيهِ بكفَّيْها، تارةً تتحسس صلعته، وتارةً تتخلَّلُ ما تبقى على حوافها، من شعرٍ مُطَرَّزٍ بالكثير من الفضة.

إقتربنا منهما. وحين بِتْنا في مرمى حواسِّهِم، تَعَمَّدْنا السعال مِراراً، تأدبا وإستئذانا. وإبتسمنا بحذرٍ ونحن نُلقي السلام. إعتدلَ الرجلُ جالساً. بادَلانا التحيةَ مُرَحِّبَين. على وقع عبق قهوة كانت تتجلى بجانبهما، فوق جمرٍ يتلظى، لم نقاوم دعوتهما لمشاركتهم قهوتهم. إفترشنا الأرض قبالتهم. فقد راق لنا إغواء الساحرة.

ما أن إسترخينا، أكملت السيدة قائلة: ما قولكم بشئ من رفاق القهوة؟ هيا إنتقيا شيئا من الفيروزيات او الكلثوميات. فطقوس القهوة، لا تكتمل الا بشئ منهما او بكليهما.

إسْتَبَقْتُ رفيقي قائلا: الضيفُ سيدتي، أسير المْعَزِّبْ. فاكتسى وجهها الأنيق بكثيرٍ من الرضا الطازج. وقبل أن تقول، لامَسَ أسماعَنا ترتيلٌ فيروزي، يقول: يا رَيْتْ فِيها تِحِمْلَكْ وِتْروحْ، عا بْلاد ما تِقْشَعْ حَدا فيها. وهَوْنيك شو بِدْها بِأشيا إتْبوحْ، وشوعِنْدها حكاياتْ تِحكيها.

بأصابعي اليمنى إلتقطتُ فنجان قهوتي. مُنْتشيا رفعته، وأدنيت شفتي وأنفي ببطئ من حوافه. حتى التقى الجمعان في منتصف الطريق. مع أول شَفَّةٍ، إلتفتُّ إلى صاحِبي  قائلا: أترى كم للقهوة من أمزجة، ضَوابِطَها مَلَكاتٌ ومَهارات.

بعدها روَيْتُ لِمُسْتَضيفَيْنا، ما كان بيني وبين صاحبي، من حوار حول القهوة، قبل ان نغادر شط العقبة الى هنا، إستأذَنَتْ السيدةُ وهي تنظرُ في عَيْنَيِّ رَجِلَها، لِتقولَ بلغةِ الواثق:

وللقهوةِ أيها السادة، أرحامٌ، كأرحامِ أصايل الخيل. لِتَجويدِ ثِمارِها، لا بد من حُسنِ التَّخَيُّرِ، وإستدامةِ الرعايتها بالرفادة والسقاية.

تأفف صاحبي متعجبا: أمعقولٌ ما تتفضلين به؟

بالنيابة عنها أجَبْته: طبعا أيها العجول. إن تَلَفَّتًّ مُتَبَصِّرا. ستجد من لا يشرب القهوة إلا إذا عرف نوع البن وتأكد منه. ومن يشربها، من أيِّ بُنٍّ كان.

تدخل الرجل مُثْنِياً بفرحٍ على قولي: صحيح ٌوالله ، فهذا شئ من طقوسي.

أكملتُ موجها حديثي لثلاثَتِهم: إنتظروا، ولا تنسوا أن هناك من يبحث في البن عن ماركته العالمية، وهناك من لا يهمه من البن إلا نكهته الأصلية.

قال الرجل مُبْتسما لشريكته، وكفه بكفها: نعم، فأنا من عشاق الأرابيكا اليمنية، وأحيانا الروبوستا البرازيلية.

قاطعه صديقي موجها القول لي: يا رجل إلى أين ستوصلنا شطحاتك؟

قلت مُداعبا: ما زلنا نقف، على البوابة الخارجية للقهوة الساحرة. قبل ان ندلف شيئا من عوالمها، عليك ان تعلم، أن هناك من يشتري البن ليحمصه بيده. وهناك من يشتريه مُحَمَّصا مصحونا خالصا.

أكملتُ دون أن أعيرَ تعجبه: وأن تعلم ايضا، أن هناك من يشتري كيس البن مقفلا، وهناك من يشتريه مفتوحا.

كل شئ في السهرة وما حولنا، أَنْسانا أنَّ الليلَ قد عَسْعَسْ وعُيونُ الليلِ يَخْبو نورُها أمام صُبْحٍ باتَ يَتَنَفَّسْ.  شَكَرْنا وإستأذَنَّا وتَواعَدْنا.

وفي طريق العودة، إستوقفني صاحبي، ليقول مُقَهقِهاً وكرشه يتراقص أمامه كقربة شنينه: لِعِلْمك يا اخو الشِّلِنْ، فأنا ممن لا يشترون قهوتَهم إلا مُقفلة.

الأردن – 10/6/2017

• < السابق
• التالي >