كـتـاب ألموقع

من حكاوى الرحيل (الحكاية الحادية والخمسين)// د. سمير محمد أيوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

من حكاوى الرحيل (الحكاية الحادية والخمسين)

د. سمير محمد أيوب

الاردن

 

فائض أنوثة

ذات عصر إلتقيتها، في حفل زفاف صديق حميم لي، من المجاهدين اللبنانيين. كان الحفل على بيدر قرية الطَّيْبِة الجنوبية. التي لا يفصلها عن قرية المطلة الفلسطينية إلا شارع. تماما كما يفعل، شارع  آخر من شوارع سايكس بيكو ، بالرمثا الأردنية ودرعا السورية.

 

برفقة العريس، تقدَّمَتْ بإتجاهي سيدةٌ خِلتها في الخمسين من عمرها. أنعم الله عليها بفائض أنوثة. تَعي ملامِحَها بما يكفي، لملاقات الحياة  بلا تنكر لها. ما أن قدَّمَني العريس إليها، إبتسمت عيناها على إتساعها. صافحتني بحرارة وهي تقول لمرافقها: تأكدت الآن مما خمنت به، أول ما رأيته. لا تُكْمِلْ يا شيخ حسين. فلم أهرم بما فيه الكفاية بَعْد. أعرف جيدا هذا الرجل، قبل أن تعرفه أنت. هو هو ، لا يريد أن يهرم.

 

تلبستني حيرة رجراجة وهي تشد على يدي. ووتكمل قولها للعريس : إنه من قدماء المحاربين، وأظنه لا زال. وإلتفت إلي تقول بصوت مشبع بالفرح: أظنك تنبش الآن عني، في ثنايا ذاكرتك المكتنزة. لا ترهقها، فلنا معها جولات بعد قليل. سأريحك  يا رفيقي. فأنا ألِيسارْ ضهور الشوير . إنثالت الذاكرة. وجدت نفسي أحتضنها، وسط دهشة  ثلة من الرجال والنساء، كانوا تباعا قد تجمهروا حولنا. أوتي لنا بكرسيين فخمين لنجلس في بقعة على حافة البيدر.

 

ما أن إحتوتنا الكراسي، أحالني  بريق عينيها ، إلى نهايات 1972 ، حين إلتقيتها  في أبرشية بيروت، بضيافة  مطران الفقراء، المرحوم بإذن الله، الأب غريغوار حداد، للحوار حول مضامين كتابه الرائع: "المسيحية والمرأة".

 

آنذاك، كانت أليسار على عتبات العقد الثالث من عمرها. واحدة من رعايا المطران ومريداته. أللواتي كرَّسنَ أنفسهن للنضال من أجل فلسطين. في محاولة قاصرة للتماثل مع عوالم المناضلين، كانت أليسار متخففة من هموم النساء وأحلامهن. مسترجلة بالفرار من أنوثتها.

 

إلتفتُ إليها، فأمسَكَت بيدي وقالت: أتوقع اين تقف بك ذاكرتك الان. سأكمل مشاهد ما بعد إضطرارك للإبتعاد عن لبنان. أصِبتُ في مواجهة مع عملاء العدو في الجنوب. أرسلنتُ إثرها الى روسيا للعلاج. إنتهزت الفرصة هناك، واستكملت خلال عامين، متطلبات شهادة الدكتوراة.

 

في البداية كنت عاجزة عن الإندماج مع أحد، أو مجاراة أحد. حبيسة مساحات رمادية من صُنعي. فإصْطَنَعت من أوراقي عالما موازيا للواقع. إحتواني وأخذت أبُثه سخطي. وأجد برفقته شيئًا من العزاء.

 

مع عداد الزمن، تتابع إنزلاقي في معارج الحياة ولكن بلا تجارب. كنت أدرك أن خيطان شرانقي وإن حمتني، إلا أنها قد خنقت حياتي. وأحالتني وسط حشود الحياة ، خليطا من سراب أحلام وأوهام، أُطل عبر نوافذها، على تحدياتٍ، لم أكن قد عشت شيئا من جذورها.

 

عدت من موسكو، وانا أدرج على مشارف الخمسين من عمري، أستاذة للإعلام في الجامعة اللبنانية في صيدا. وسط حشود الجامعة، التقت عيناي بأحد الكوادر المتقدمة للمقاومة. إستلطفت كل ما في حمزة. دق قلبي لتعابير وجهه، وبريق عينيه وأنيق لسانه. وازداد خفقانا بتكرار اللقاءات. أحدث حمزة  فرقا إيجابيا  في حياتي. إزدادت مناعتي بمواجهة أثقال الحياة وأحمالها. وإكتشفت أن الحب هو أجمل ما في الدنيا.

 

سرعان ما إحتفل الأصدقاء، بزواجنا في حسينية صور. أعد لي حمزة بعد الزواج، كل الأسباب لأعيش جنة الدنيا. وهيأني للعيش فيها وحدي لو رحل. معه تصالحت كثيرا مع أنوثتي. وبت لا أنفر من الأحاديث النسوية . ولا أحاول الهرب من مزاياها.

 

 ولكن دوام الحال من المحال كما يقولون. تغير كل شئ في لمح البصر. إستشهد زوجي وثلة من رفاقه، في ملحمة مواجهة مع العدو، على أسوار قلعة ألشقيف. رحل حمزة. وترك لي حزنا يكفيني قرنا من الزمن. كيف لا وفي ظله الوارف، كنت قد ملكت المعرفة والوعي. ومعه وطأت قدماي الكثير من أزقةٍ للحرية، لم أكن أدرك لها وجودا.

 

قاطعتُها قلِقاً، وأنا أنظر مباشرة  في عينيها سألت: والآن يا أليسار؟

 

تنهدَتْ بحزن، وهي تنظر إلى فلسطين، وقالت بعد شئ من الصمت: أتبادل منذ عام إستلطافا مع عميد كليتي. حاولت كثيرا أن أقربه  للأشياء كما تبدو بِعَينيَّ. ولكن، بعد كثير من الجدل إرتطامات جدل مستفيض، بقي رافضا لمحاولات التلاقح الفكري بيننا. مُصرا على سلفيته في المرائي. يئسنا من الكلام. بتنا نلوذ بالصمت كلما إلتقينا. فما عاد بيننا شئ يقال. فقررنا التمرد بالتراضي على ما بيننا. إستقال وسافر مذهولا إلى بلاد الحجاز للعمل هناك. وتركني في حالة مشابهة من الذهول.

 

بعد رحيله، خبرَتُ قسوة الصمت ثانية، وبرد الوحدة. وإستحالت حياتي خطوطا مُستقيمة مملة، بعد ان كانت رقصة دافئة على إيقاع الحرية والحب. لا أعلم وأنا في الستين من عمري، إلى أين  ستأخذني خطاي. ولكني بالقطع، لا اريد العودة لواقع يرى في صوتي عورة، ويحصر كل شرفي، في ثنايا جلباب وتلافيف حجاب. وأعرف في المقابل، أن إدراكي وحريتي، قد أفقداني شيئا من السلام.

 

قلت: وإن !!! لا تندمي على علاقة كشفت لكِ صاحبها. كوني حذرة، فالحياة مع قوى الشد العكسي صعبة. لا تصفو مشاربُها لأحد. وتذكري دائما، أن حب البعض، مشروط في التماثل مع صورهم النمطية. فهم لا يهبون شيئا بلا مقابل.

 

وقد إنحسر الكثير من الوهم في دواخلك، لا تنتكسي، لا تصبئي ولا تنطفئي. فلربما كنت لأحداهن سراجا منيرا، وأنت لا تدرين ولا تشعرين. قولي سلاما على من رحلوا، وسلاما على الذين إبتعدوا وما إقتربوا. فلو كانوا حقا محبين، لعلموا أن الحب ككرسي عرش، يسع كل شئ. وكالإيمان يَجًبُّ كلَّ شئ.

الأردن – 14/6/2018