كـتـاب ألموقع

ثرثرات الحب- الثرثرة 37: ذكرياتُ قُبلةٍ بربريّةٍ// د. سمير محمد أيوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد أيوب

 

عرض صفحة الكاتب

ثرثرات الحب- الثرثرة 37: ذكرياتُ قُبلةٍ بربريّةٍ

الدكتور سمير محمد أيوب

 

البوحُ مشاعرٌ لا يَجرؤُ كثيرون على إتقانه. قيعانُ قلبي وضفافُ الدنيا، مليئةٌ بالكثير مما أحببناه معا. يُثقلني كِتمانها. قررتُ بالأمس، أنْ أعيدَ ترتيبَ حفنةٍ من عَشوائياتها . فتبدَّت ليَ مئاتُ القصص والحكايات. أنصتُّ بشغفٍ لقلبيَ ألمُكتظِّ بها. أنَّى تَلفتُّ أو يمَّمْتُ وجهي، أتعثَّرُ بتلكَ القبلة البَربَرية التي لن تُنْسى. فباغتتني رغبةٌ في قولٍ على قولٍ سبَق:

 

جاءني من أقصى العُمْرِ، حُبٌّ يَسعى. كنتُ وحيدةً ، فلم أجِدْ مَن أُخبره. نسيمٌ هو ابن هذه الأرض. أمه من هنا وأبوه من هناك. ملامحه توحي بالتواضع. أسمر البشرة. نَضِرٌ طازجٌ مُحبٌ للحياة. كَتِفانِ عريضان يمنحانه جاذبيةَ الرجولة. يعلوهما رأسٌ شامخٌ كرأسِ أبي. يُجلله عتمٌ كثيفٌ وَكُشَّةٌ من سبائك الفضة. أحمرُ النواظرِ كالأسد، تغشاهما ابتسامةٌ وادعة آسرة. تدفعك إلى الأمام، حتى لو كان كل ماحولك يسير خلفاً. صنع لي من الحب ابتسامةً، ومن الابتسامة عطرا. أسافر إليها  كلما أوجعتني الحياة.

 

عندما أحببته، لم أفكرْ في طائفتهِ أو مذهبه. لَمْ أنْبُشَ قبْراً لأمَويٍّ أو لِعباسِيٍّ، ولا لأيٍّ من ملوكِ الطَّوائف. لَمْ ادَقِّقْ في خرائط سايكس الأول ولا بيكو الجديد ، بحثاً عن التأصيلِ والعناوينِ والمفاتيح.

 

في عالَمٍ جاهِلِيٍّ، يَقتنصُ الظنونَ بمذهبيةٍ وقَبَليَّةٍ، احتَفَظْتُ بجزءٍ من إيقاعاتِ شخصيته، بعيدا عن العابرين. هو سيِّدُ التفاصيل. بعضه كرأسِ جبل الثلج شاغلٌ للناس، وجُلُّهُ خفيٌّ باقٍ في أصدافي. سَالَتْ شائعاتٌ حولَه وشائعات. وبَقِيَتْ روحُه أكبرَ من كلِّ ما قيل وقال . فلا هُمُ تَيَقنَّوا ، ولا هو استسلَمْ.

 

لِمَ أحْتاج الزمَن؟ ما عادَ يَهمُّني كَمْ منَ العمرِ قد مضى عليه. كبُرَ والزمنُ صديقُه. فلَمْ يُصبح أكثرَ عُمراً. بل ازداد جاذبيةً، وباتَ أكثر قيمة ، وأشد حضورا. بات أغلى. سَألتَهُ مُشاغبةً ذات مرَّةٍ : قُلْ لي بربك ، ما سِرُّكَ؟ أهو حَقّا دعاءُ أمِّكَ ، أم هي مزاميرُ هاروتٍ وماروت؟ فضحكَ مُقهقِهاً ومُطَوَّلاً، إحتضنني بقوة بين ذراعيه ، أمِنْتُ بينهما فَنِمْتْ.

 

ذاتَ يومٍ ربيعي، كانَ معي في السيارة، نهبط تلال المدينة الرَّبداويةِ أمُّ قيسٍ، في الشمال الأردني الجميل، باتجاه سدِّ المخيبة والجولان ونهر الأردن. ومِنْ هناك، تسلَّلْنا بعيدا عن ذاك الواقع الحزين، إلى فرح التاريخ في اليرموك. وألقينا السلام على الغائبين. توقفنا على قارعة الطريق، والخضرة تحتضن المكان، أنصتنا خاشعين لصليل سيوف ابن الوليد وصراخ صحب هرقل. فلا فرحٌ يولد دون توأمِهِ الحزين. على حوافِّ التاريخ وجغرافيا الجولان المُحْتَلِّ على اليمين، وقباب القدس في الأفق، والكرامةُ على اليسار، افترستنا ثنائياتٌ موجعةٌ وحُزْنٌ ثقيلٌ ، بعثرتنا في كل الجهات.

 

كان المغيبُ حضنا هادئا لخطوط أكفِّنا. رتَّبتُ نظراتي نسيما، وفي أعماقي بركانٌ. فضاعت مني الكلمات. وأنا أحِسُّ أنَّ نسائمَ المساءِ المُبكّرِ، تُزْهِرُ غيماً مُثْقَلاً بالشفاه . أطَلْتُ النظرَ في مُحيّاه، إلى تلك الخطوط الناعمة حول عينيه. غازلني بكلِّ ما فيها من إغواء وإغراء. فعاندتُ خجلي. واكتحلت بسحرِ النساء. واستعنت بكل ما أُوتيتُ مِنْ جاذبية وإغواء ، فلم أعُدْ أمتَلِكُ الكثيرَ مِنَ الخيارات . إخترقتني تفاصيلُ شفتيه . إعتصمتُ ببياضِ شعره ، وثقتي فيه . إحتضنتُ وجهَهُ بين كَفيَّ . وقررتُ التصديَ لاكتئابِ الجغرافيا . عانَقتَهُ . وتوغَّلتُ في التفاصيلِ.

 

شارك هذا النسيمُ، ذراعيَّ الممدودتين على اتساعهما. فاستقام فرحي، مع ذاك العناق وتلك القبلة. وسكن الضجر. وتلعثمت شفتاي وأنا أعلو مع روحي عن الأرض. وطرنا من على حواف غور الاردن. كم لبثنا في حياض تلك القبلة؟ ربنا أعلم بما لبثنا.

 

خِفْتُ علينا من الإثم، فتخارَجْنا. وذكرنا الله لنستكين. ولكن، باق معنا منها الكثير ، مما لا نطيق البوح به أو شرحه.

 

الاردن – 9/7/2018