د. سمير محمد أيوب
عشوائيات في الحب – 16: هالات التقديس في الحب
د. سمير محمد أيوب
الأردن
كان ضوء الشمس قد تبعثر مُنْسحِباً ، أمام شفقٍ أحمرٍمشوبٍ ببياض ، حين دعتنا مُضيفتنا ، إلى تناول العشاء داخل البيت .
رافقتنا في جولةٍ مُتمهِّلَةٍ ، عبر ممراتٍ بديعة التنسيق . يغمرها بوحُ الياسمين . وَطِئْنا عتباتَ البيت ، والشفقُ يُخلي السبيلَ أمام تَسَلُّلٍ سلسٍ لِطلائع الغَسَق .
صالة الطعام بغدادية بإمتياز . تشي بالكثير من حضارة الرافدين . أناقتها جذبت أبصارنا . نافس عبق الأطباق فوق المائدة ، أناقة الصالة . ما أبصرناه منسقا أمامنا ، ذكَّرنا بأن ثراء عراقنا الحبيب وتميزه ، لا يتوقف على تنوع ثقافاته التاريخية والإيمانية والإجتماعية ، بل ممتدا في كل الآفاق الحياتية ، منها أناقة البيوت وفنون المطبخ .
إتسع كرم مُضيفتنا ، للكثير مما إشتهر به العراق من أكلات تقليدية شهية المذاق . إختارت أصنافا تقاس بها مهارة المراة في مطبخها : الدولمة ، الدليمة ، الباجه ( بالجيم المضخمة ) ، العروق والكبة الموصلية ، تشريب اللحم وكص اللحم ، تبسي الباذنجان .بالإضافة لباقة من المقبلات والسلاطات .
أُجْلِسْتُ على رأس الطاولة ، وعن يمينها جلس الطبيبان ، وعن يسارها الشاعران السودانيان . قبل أن تأخذ ربة البيت مقعدها قبالتي ، لامس أسماعنا صوت الربابة والمقامات العراقية .
ضاعف لذة الطعام ، ما رافقه من تقاسيم ناظم الغزالي : قل لي يا حلو منين الله جابك ، خايف عليها ، تلفان بيها . وتناهيد لميعة توفيق ، ومواويل حاتم العراقي والقيصر ، وأحلام وهبي .
حماية لنا من الَّلسعِ الناعم لنسائم أوَّل الليل ، إنتقلت بنا مضيفتنا بعد العشاء مباشرة ، إلى صالة داخلية تُطل على أنوار ممتدة من البحر الميت ، الى مشارف القدس . أفاضت علينا هناك ، بالكثير من بدررالحلويات العراقية ، مَنُّ السماء والزلابية والتمور المحشية باللوز .
مع إطلالة إستكانات الشاي ، إقتَرَحَتْ مُضيفتنا أن نُتابع ثرثرتنا . فسألت وهي تُناول الشاي لضيوفها : هل الحب يا شيخنا حقلُ ألغام ، فيه مناطق محظورة ، يُمنَع على أهله ، ألإقتراب منها بالنقد ؟ ثابتٌ كالقدر ، غير قابلٍ للتغيير أوللتعديل ؟
قلتُ بعد أن امسكتُ بكلتي كفيَّ إستكانة الشاي : الظَّنُ يا سادة ، بأن المحبين ملائكةٌ ، إثمٌ أكبر من الكذب . المحبون بشرٌ . منهم السويُّ ومنهم الأقلّ سَوِيَّةً . لتهتدوا ، لا ترفعوا بعضكم إلى مراتب المقدَّسِ ، حيث لا شوائب أو نقائص أو إعوجاج بحاجة إلى تقويم .
حين يحب القلبُ قلبا آخر ، تنمو في الصدر مدينة صغيرة . ألشريك مشكاتها . وتَضعفُ قدرةُ العين وملكات العقل ، على إبصار العيوب . ويغدو القلب هوالمبصر الوحيد . يرى ويحسن الظن ويثق .
كي لا تُلْغوا قدرتكم وحقكم في التفكير وفي الفهم ، لا تحبسوا قلوبكم وعقولكم ، في صناديق الحب . ولا تعتقلوا أنفسكم في مستويات لا يحق لكم فيها ، إبداء ملاحظة مُصَحِّحَةٍ أو ناقدَةٍ أو مُعْتَرِضَةٍ . ولا تكبِّلوا أرواحكم بالتَّهَيُّبِ المُلغي للتدبر .
وإن شعرتُم بأنَّ التساؤُلَ محظور عليكم في كلِّ مجال ، فاعلموا أنكم في دوائر الخطأ والجمود ، لأنكم تكونون ساعتها ، في طرق يختطها لكم غيركم ، ماضون بخياراتهم هُمْ لا بخياراتكم .
سألَتِ الشاعرة السودانية مبتسمة :ما السبيل كي لا تصل الأمور، بين الشركاء المتعارضين ، إلى الإستعصاء ؟
قلت وأنا أُلْقي بصري على الجميع : إن تناقشتم ، فلا مانع أن يخسر أحدكم نِقاشه ليكسب ضحكات . فلستم دائما على حق . ولستم دائما بحاجة لنصر . إنها حياة مشتركة . وليست حربا تلد حربا . إن إنكسر أحدكم في نقاش ، فَلْيَعُد للمشترك . فالمشترك وطنه ، والحصيف لا يشعل بوطنه نارا .
الحب الحق ، كنز لا يُفَرَّطُ به عند أوَّلِ مُنعطف . ألعيش في ثناياه أجمل من حزن عابر ، وأصدق من خيبة غير متوقعة ، وأعظم من خذلان لا نستحقه . تذكَّروا أن التسامح ، كالعشق كالصبر وكالمغفرة ، رضا بذاته . تستقيم زواياه ويتم تدويرها ، بنبعٍ من مهارات الفن والمعرفة المستدامة والخبرة المتراكمة .
سألتِ الطبيبةُ وكفها الأيسريسند ذقنها : وإن إستعصت الأمور ؟
قلت : شخصيا ، أغبط كل من ألقت الدنيا في طريقه أشواكا ، فعبر من فوقها بنضجٍ وهو يتمتم : لعل في نهاية هذا الطريق أبوابا ، تُفضي إلى بساتين مزهرة أو مثمرة .
وهنا تدخل الطبيب الجراح مُتسائلا : وإن غُلِّقَتِ ألأبواب يا سيدي ؟
قلت مبتسما : لِتُحسِنَ التعامل في كل مرة تلتقي فيها من تحب ، إستقبالا أوتوديعا أورحيلا ، كُن مع نفسك لا عليها . دلِّلْها بإبتسامة من قلبك ، وعطرها بروحك . ففي ملكوت البسمات ، ورود المشاعر المشتركة ، لا تذبل وإن تألم أطرافها . كلُّ شيءٍ يمكن إخفاؤه ، إلا ملامح الفرح من أنى جاء .
وهنا بشيءٍ من الحيرة ، أضاف شاعرنا السوداني سؤالا : وإن مَسَّكَ الحب بِضُرٍّ يا شيخنا ، وبقسوةٍ لا مُبالية هشَّمَ قلبك ؟
قلت بحزن وأنا أستزيد من الشاي بطعم اللومي : إن لم تستمتع ، فيما تُحب ومع مَنْ تُحِب ، فأنت تضيِّعُ وقتَك سُدى . توقَّف بمعروف . ودَعِ المشترك ذكرى ، تنطفئ كرعد في أمسية مثقلة بغيم غير مُمْطِر . بمرور الأيام ستتعلم التجاوز . وسَتُتْقِنِ المرور بجانب ألَمِكَ ، وأنت تَمضي ساخرا من جراحك المفتوحة ، لأنها لم تَعُدْ تُؤلمُك .
كنا نقترب حثيثا من منتصف الليل ، دون أن ندري . تضاحكنا ونحن نَهُمُّ بالعودة إلى عمان . تواعدنا على أن نلتقي عما قريب ، في ليلة سودانية ،لا تقل جمالا عن ليلتنا العراقية هذه .
الأردن
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.