اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

عشوائيات في الحب–30: المراجعة والتراجع والرجوع في الحب// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب 

عشوائيات في الحب– العشوائية 30

         المراجعة والتراجع والرجوع في الحب

د. سمير محمد ايوب

الاردن

 

في السنة الخامسة من زواجنا، رزقنا بأول اطفالنا الخمس. مع القادم الاول، تناسلت ظروفٌ داخليّة بيني وزوجتي. بين التلاقي والتباعد تآكل الكثير من الوئام. وانتزع الخصام مكانا له بيننا. رغم العديد من الاجراس، احتفر دهاليزه وامتدّ عقوقه، إلى نّواح متشعبة في حياتنا.

 

بتنا مع كل مولود جديد، في ظروف تبتكر اشياء متعددة. ابعادها تثير تأويلات مكتنزة بالإيذاء دون أن تقوُلُ شيئا. إيذاء أعاد تشكيل ملامح علاقاتنا الحسية والعاطفية والنّفْسيّة والذهنيّة. حتى غدا السلام الايجابي بيننا، لَحظاتا مارقة متباعدة، جف وجدانها وقلت حيلها.

 

لم تَعُدْ المكونات المجهرية للعاصفة، لَيَنةَ الأظافر ولا حتى ناعمة. اشْتَدَّ عودها وبانت ملامحُها. اتخذت زوجتي من التلهي بالاولاد، متكأ لاهمالها بنفسها وبي وبعلاقاتنا. مع كل وليد، باتت لُغة اهمالها شّديدة التحديد، دلالات رُموزِها مثقلة بوجع متوهج وكثيف. تجامَحَت خُطى زوجتي فيما أسمته واجبات الأمومة. أثْخَنت في ايذاء ذاتها بالاهمال العفوي والمتعمد. رجمت علاقاتنا الزوجية والعاطفية بِوابِل عدم الاهتمام. وشكّكت حتى بجدوى الاهتمامات المتوازية.

 

لم يعد بمقدوري ان اصعر قلبي عما أتذوق من مرارات. فلاح في خاطري الاحتياج للتبرأ والخلاص منها. لم تعد مَعْصيةِ التجاهل الصمت هي الحل الامثل. فإمّا البقاء خارجَ زّمن الاهتمام، أو الارتقاء لِمواجهتِه. قلَّبْتُ وجهيَ في كلِّ اتجاه. ملتمسا ما يُسْعِفُني مِنْ وسائل التّخَطّي. بِصبرٍ جميلٍ بحثتُ عن زمنٍ مَفْقودٍ، سَليلاً للفائتِ أو مُراوغا له. ونبَّشتُ عن زمنٍ آخر، مُبْتَكَرا مُنقطعاً عمّا أعيش.

 

هاجَت مواجِعي وماجَت. وتعالَت أصواتُها بصريح القول، تُؤكدُ أنّ الترميم لن يعيد ما سَبَق، وتنكِر سُلْطةَ الواقع وعصمتَه، بعد ان حَطِّمَ القديمَ  تَعمُّداً وعن جهل. وانصرف من الشّبيه إلى المُخْتلِف. وخَلَصْت إلى أنّ الاهتمام الزائد الخاطئ بالاولاد، هو آفةُ الخلل.

 

لم تكن زوجتي لقيطة في حياتي، فهي ام اولادي ورفيقتي لثلاثين عاما. فقررت الإيلاف بينها وبيني. بانفصال منصف لا ينكرها، ولا يطلق النارعليها، ولا يسلقها بألسنةٍ حداد. للعلم يا شيخنا، لم أكن حين قررت، قد نجحت في استنبات علاقة بديلة، مع العلم أيضا، أنني ممن يؤمنون ان هكذا استنبات، هو من مقتضيات المشهد الجديد، التي قد تسهم في تعزيزه.

 

كبر الاولاد، وبات اصغرهم على وشك التخرج من جامعته. حين مللت اللامبالاة.  قبل أكثر من شهر، بعد العشاء، آوى الاولاد كلٌّ إلى سريره. وهي تجلس قبالتي في صالة المعيشة، حسمت امري، وقلت لها: أعتذر عما سأقول مضطرا، قررت ان لا نكمل المشوار معا. لا تقلقي من النواحي المادية. ساترك لكم جل ما أملك. لتعيشوا ببحبوحة كما انتم.

 

بدت متماسكة كعادتها. ودون أن تدافع عن نفسها قالت: وفي البال حكاية تشبه حكايتنا، سأفعل مثل ما فعلت، واطلب منك شهرا إضافيا واحدا، نعيشه كأسرة.

 

سألتها متعجبا عما يمكن ان يحدثه هذا الشهر من تغيير في النتيجة. قالت بوجع بّيّنٍ: إعتبره مكافاة نهاية الخدمة. بعد تفكير سريع، وافقت.

 

بشيءٍ من الانكسار، وضبابُ دمعٍ يلوح في عينيها، قالت بصوت متهدج: وأنا أشكرك، أتمنى عليك أن تحرص على الغداء معنا كلَّ يوم. وأن تحملني من بعده  إلى غرفتنا.

 

أبديتُ استغرابي بحيدة من طلبها. فقالت هذه أول مرة وآخر مرة، أطلب منك شيئا خاصا. أرجوك أن تقبل. وافقت على مضضٍ ونفاذ صبر، عاقدا العزم على تمضية هذا الشهر كيفما كان، كعتبة لا بد منها للتحرر.

 

مع موعد الغداء في اليوم التالي عدت. واتخذت موقعي على راس المائدة. أتابع أولادي وهم يساعدون أمَّهُم في ترتيب المائدة وتجهيزها بأناقة. إختلست النظر بشكل متواصل لهم. فمنذ أكثر من شهر لم تجمعنا مائدة مشتركة. كنت أُنْصِتُ بإعجاب لحوارهم مع والدتهم. بعد انتهاء الغداء إستأذنوا. بقيت منتظرا زوجتي لأحملها وفق الاتفاق إلى غرفتنا. ما أن اطلت عائدة من المطبخ، حملتها بين ذراعي وانا احس بالضيق. أوصلتها إلى الغرفة، وخرجت مسرعا إلى المقهى.

 

وتكررت في اليوم التالي، نفس الوقائع تقريبا. كنت أظن أنني سأتعب من حمل زوجتي إلى غرفة النوم. ولكني انتبهت لأول مرة الى هزالها وخفة وزنها وجمالها الهادئ، رغم تجاوزها الخمسين من عمرها. 

 

وفي اليوم التالي، تأملت وأنا أحملها، شعرها، واكتشفت كما كثيرا من الفضة يغزوه. كنت في الاسبوع الاول، أرجع إلى البيت متضايقا. ولكني صرت بعد ذلك، أنتظر موعد الرجوع.

 

وبعد اسبوعين من سريان الاتفاق، وجدت نفسي غير راغب في الخروج من البيت. صرت بعد أن اوصلها الى غرفتها، أتناول كتابا وأجلس بجانبها أقرأ فيه. إنتبهت بعد دقائق من جلوسي، أنها تتناول بعض الأدوية من جوارها. سألتها عنها فأجابت: إنه مسكن للصداع. فتابعت القراءة.

 

في اليوم العشرين، وأنا أحملها كالعادة، طوَّقَت عنقيَ بذراعيها مبتسمة. لم تضايقني هذه الحركة، ولم أستعجل مُضيَّ الوقت. وجدتُ نفسي بعد أيام أُخَرٍ، أعتذر من شلة الأصحاب عن الخروج. معللا ذلك بضرورة البقاء في البيت كلَّ يوم.

 

وكانت المفاجأة قبل ثلاث ايام من انتهاء مهلة الشهر. كان رنين الهاتف ملحا في الصباح. تناولت سماعته لأجيب، فقد كانت زوجتي في الحديقة الخلفية لدارتنا. سمعت على الطرف الاخر صوتا نسائيا، يقول بعد التعارف: يا سيدي لِمَ تُماطلُ زوجتُك في الحضور إلى المشفى لاتمام عمليتها. أنا طبيبتها المعالجة، مضطرة للسفر بعد أربع ايام. ولا بد أن استأصل لها الورم الخبيث من معدتها. إنَّ وضعها بالغ الخطورة يا سيدي، والعملية بالغة التعقيد، وعليها الامتثال لحقائق الطب.

 

كنت مذهولا أنصت. وشريط الاتفاق يمضي مسرعا امام بصيرتي. فالايام المتبقية على سفر طبيبتها، هي الأيام المتبقية من اتفاقنا. والدواء الذي تتناوله لم يكن مسكنا لصداع كما قالت، بل مخدرا لوجع تتعايش معه.  

 

طلبت من الطبيبة الجراحة تأكيد الحجز. واعدا احضارها اليوم الى المشفى. ما أن اقفلت الهاتف، ركضت اليها في الحديقة ودموعي تسبقني. احتضنت رأسها. إنحنيت على جبينها وقبَّلْتُه. أفاقت مرتبكه من ذهولها، لا تدري بما جرى وما يجري. أمْسكتُ بكلتي يديها وقبلتهما. فسألتني مستغربة ما بك؟

 

قلت عاتبا ودموعي تتسلل بسخاء: لِمَ أخفيت مرضَكِ عنّي؟  لِمَ اخترت أن نعيش مهلة الشهر معا بهذه الطريقة، بدل أن تسارعي إلى العلاج؟

 

إحتضنتي وقالت وهي تشهق: ما الفائدة من الشفاء، ومواصلة العيش لوحدي من بعدِك؟ إتفقت والأولاد على أننا بشوقٍ لنعيش معك ولو لشهر. وبالفعل كان هذا الشهر، أحسن مكافأة نهاية خدمة لنا.

 

قلت: أسأل رب الفضة في رأسك، وأسأل رب تعبك بتربية أولادنا لوحدك، ورب كل حبة مُسكن أخذتيها بصمت دون أن أحس بك، أن يمُدَّ في عمرك، علنا معا نعوض شيئا مما فاتنا.

 

خرجنا نسابق الريح إلى المشفى. أتممنا إجراءات الدخول. وعند ظهر اليوم التالي، سارعت الطبيبة وهي تبتسم ابتسامة الواثق من الفرح، إلى بشارتنا بنجاح العملية. إختلطت دموع حمد الله بدموع شكر الطبيبة.

 

ولكن النجاح الاكبر، كان يا شيخنا في حياتنا التي ابتدأت حينها.

 

كنت صامتا، ورفيقي لعشرات السنين، في مقارعة العدو الصهيوامريكي، يروي لي عبر الهاتف من غزة العزة حكايته قائلا: قرأت عشوائيتك رقم 29، عن الخذلان الذي لا يصدأ، أوجعتني كثيرا. فقررت أنا وزوجتي واولادنا، أن اروي لك حكايتنا . فما رأيك يا شيخنا بما سمعت؟!

 

قلت والكثير من الدموع يشارك شفتيَّ: يابخت من لا زال لديه فرصة للمراجعة والتراجع.

 

الاردن – 26/4/2020

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.