اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

عشوائيات في الحب- العشوائية 40: عَنْهُنَّ أكتُب– الجزء الأوّل// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب 

عشوائيات في الحب- العشوائية 40: عَنْهُنَّ أكتُب– الجزء الأوّل

د. سمير محمد ايوب

 

قبلَ إنتهاءِ موسم الربيع، كُنتُ أعلم أين تكون في مثل هذا الوقت. أُسْريتُ إليها في التلال المحيطة بقريتها، في أعالي جبل شيحان، شمالي الكرك. مهندسة متقاعدة، أديبة بارعةُ الجمال، سمراءُ مِنْ قومِ عيسى عليه السلام. بِعِشقِ الهاويةِ ترعى غَنَما لَها. وتَتريَّضُ في سهوبِ القمح هناك. تتأمَّلْ البراري المُطلَّةَ غَرْباً، على غورِ الاردن والبحر الميت، وعلى الفضاءِ النَّقيّ المفتوحِ أمامَها على مدِّ البَصر، بإتجاه خليلِ الرَّحمن وجبالِها المُرَصَّعة بالعديدِ مِنْ قُرى فلسطينَ المُحتلة.

 

أوْقفتُ سيّارتي على حافّة طريقٍ زراعي ضيّق. ومَشَيتُ في طريق مُتعرّجٍ مسافةً ليست طويلة. حاولتُ تخفيفَ مَشاقّها، بالتّلَهي مع أسرابِ فراشٍ مُلوّن، يتراقصُ فوق سنابل القمح الذّهبية، والإنصاتَ لخلطةٍ من الاصوات المُتجانِسة، أبرزها   لحسّونٍ عاشقٍ مُفارقٍ، يتقافَزُ برفقتي من شجرةٍ على يميني إلى أخرى عن يساري. والكثيرُ من ثغاء خِرافٍ تُثَرْثِرُ مع بعضها، ومنها نُباحٌ لكلبٍ كسولٍ، خِلْته يَعوي وهو يتثاءب.

 

في الطريق إليها، إلتَقَيتُ حَطّابَةً مُتَقدّمَةً بالسِّنْ. تحملُ حُزمةً من العاقولِ والنّتْشِ الجافّ على ظهرها. تسيرُ مَحنِيّة الظهرِ، مُطأطأةَ الرأس، مُتْعبةً من ثِقَلِ ما تَحمِل. حَيّيْتُها فتوقّفَت. أنْزَلَتِ الحُزمةَ لتستريح. مَسَحَتْ عَرَقَها بِكفِّ يدِها وهي تبتسمُ لي. سألتُها إنْ كانت تعرف أين المهندسة الراعية. إتسعت عيناها وتكوّرت شفتاها لدقيقة، إبتسمت وأشارت وهي تقول: إنّها هناك. شكَرتُها وساعَدتُها على رفعِ حُزمةِ الحَطب على ظهرها. وما أن مضت الخالة الحَطّابة، صوَّبْتُ اتجاهي. وتابَعتُ أغذُّ إليها الخُطى. رأيتُها من البعيدِ على كتفِ الوادي، بجانب بئرٍ لجمع المطر. تستظلُّ بطانيةً كانت قد نَصبَتها على بعضِ أعواد الحطب، بِمِدْرَقَة مُطرَّزةَ الصَّدرِ والأكمام. ألفَيتَها وقد لوّحَتْها الشمس بسمرةٍ ناعمةٍ مُحبَّبةٍ، مُشتَبِكةً بحلقِ شعرِ ماعزٍ شاميٍّ أبيض، بمِقَصٍ كبيرٍ تُمْسكُ به بيدها اليمنى، ونسماتٌ عليلةٌ تداعب شعرَها. غنمها وماعزها من حولها. وأمامها إبريقٌ لإعدادِ الشاي، يتململُ فوق جمرٍ ما زال طازجا. وكلبها الذهبي على يسارها، باسطا يديه وهو نائم، بجانب حمارها القبرصي الابيض الطليق.

 

ما أن رأتني أنهت عملَها. وقالت وهي تنتصبُ واقفةً: كلِّ الهَلا يا شيخي، نوَّرَت أرنون وذيبان، بل منطقة الكرك كلّها. أجلَسَتني قُبالَتها على جُرنِ ماءٍ محفورٍ في الصخر بجانب بئر الماء. وبعد أنْ قدَّمت ليَ كوبا من الشاي الساخن الداكن، تناولَتْ كوبَها وهي تقول فرِحَةً: في ظلّ الكورونا، ما توقعتُكَ أبداً هُنا. وأكمَلَت، وإن حَدَسْتُ مُبكّرا، أنّك قد تفطر معي هذا اليوم. فجهّزْت لنا إفطارَ رِعيان. ولكن قُلْ لي: ما الذي أتى بكَ يا رجل؟!

 

قلتُ مُبتسما: قبلَ أنْ أجيبَك، أسألُك وأنا أعلم أنّ إضافات الريف للوقت، روعةٌ ليس كمِثْلِها شيء. أتأتينَ رغمَ الحجرِ إلى هنا كلّ يوم؟!

 

وصوتُ نايٍ شجيٍّ يَتسلّل أنينُه مِنَ البعيدِ، قالت: تنَبّهتُ فجرَ هذا اليوم، على صوتِ الدّيَكة وجلبةِ الرّعيان، فصحوتُ. وتجهّزتُ لمقاربة نهاري بنشاط. وما أنْ خَفتَت أجراسُ المِرياعِ والماعَزِ في الحارة، تناولتُ كتابا وورقا وكمشة أقلامِ رصاصٍ ومِبراةً ،وصُرَّةَ الطعام، واتجهت صوب طابونِ جارتي، ألقيتُ التحية عليها، وتناولت منها رغيفين ساخنين. ركبتُ حماريَ هذا، وسرتُ امام القطيع أقوده، حتى وصلنا بعد مسيرٍ طويلٍ إلى هنا.

 

 تَعلمُ يا صديقي، مُذ تزامَلنا في الجامعة الأردنية، وفي وزارة الزراعة من بعدها، أنّ في الريف مُفرداتٌ جميلةٌ بسيطةٌ مُتواضعة تُساكِنُ روحي وتسكنها. ورغم زحمة العصرنة وصخب الحداثة، ما زالت بتفاصيلها تتخلل دهاليز ذاكرتي. كلّما ضاقت بي الحياة، أفرُّ إليها أسرح وأمرح على سجيّتي. تُريحُني الطبيعةُ غيرَ المُلَوثَةِ، وتضيف لحياتي الكثير من الروعة. أعيش حياتي هنا بلا فجوات. بعيدا عن جفاف المشاعر الافتراضية او الموهومة او الضبابية، وبعيدا عن تيبُّسِ الذهنية الكَيْديَّةِ ، والغِلّ العابِثِ وتصفيةِ الحساباتِ العدَميّةِ هناك.

 

نهَضَتْ وأعادت مَلء كوبي بالشاي المُحَلَّى مُسبَقا على طريقة سميره توفيق وصبابين الشاي، وسألَتني: وأنتَ يا شيخيَ ما الذي أسرى بك اليوم إلى هنا، رغم المسافات وحظر التجوال؟!

 

قلت وأنا أضاحِكُها: تلك حكايةٌ أخرى يا سيّدتي، سأرويها لكِ بالتفصيلِ المُملِّ، ولكني جائعٌ والله، هيّا نُجهِّز وجبةَ الرّعيانِ المَوعودةِ، ومن بَعدها نُواصِلْ.

 

الأردن – 13/6/2020

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.