كـتـاب ألموقع

شويكه سيدة الحكايات – 10// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب 

شويكه سيدة الحكايات – 10

الدكتور سمير محمد ايوب

 

نِساؤُنا

سيّداتٌ مُعدَّلاتٌ يحرصن على العمل الدؤوب، لا يَعرفن الراحة ولا السكون حتى اللحظات الأخيرة. يعملن كالنّحل أو كالنّمل في حركته، بلا تذمّر أو شكوى أو تمنين. كنّا نُفيق في الصباحات الباكرة، صيفا وشتاءً ، لنجدهن قد مارسن عِشقَهُن الصباحي، في تفقد العجين والجاجات والطابون وبير الماء والحطب وإعداد إفطار أسرتها وتجهيز أطفالها للمدارس. ومن ثم تتفرغ لباقي شؤون البيت من كنس وطبخ وغسيل، وقبل أن تُنهي عملَها المُعتاد وترتاح، تتفقد ملابس الأسرة لإصلاح ما هو بحاجة لتوسيع أو تضييق أو ترقيع.

 

لم يكن في أوقاتهن مُتّسع لمسلسلات تلوث وجدانهن. ولم تكن عقولهن مكتظة بشياطين مهند وأبالسته. ولم يكن في أجندتهن مواعيدا لكوافيره أو مِنكيره أو بِديكيره. كانت مُتعتهن غسل فُوَط أطفالهن، ونشرها على الحبال أو الأسيجة أو الشبابيك، وفي المساء تجديل الشعربالكَراميلِ بعد دهنه بزيت الزيتون، ووضع الكُحل بالعيون، أو وشمٍ أخضرٍعلى الشّفاه ووسط الذقون.

 

كنّ شديدات الذكاء، حاضرات البديهة، قويّات الشكيمة، نافذات البصيرة، قمّة في التضحية والصبروالصمود أمام المتاعب. لم يَعرفن رسالةً في الحياة، إلاّ حراسة الأبناء والبنات وتربيتهم وتعليمهم. وبِقدر ما كانت أحضانهن دافئة حنونة، كانت صَفعاتُهن بالكَفِّ أو شباشب زنّوبة أو مكانس القش، قوية. وكأنّهن بالفطرة قد أدْرَكن مَهارات الإدارة المُعاصرة وفنونها،  المُتَّكِئة على جدل الثواب والعقاب.

 

كانت أول تجاربنا الجوهرية مع النساء كصِبية، مع أمهاتنا، اللواتي  كن المستودع الوجودي لعواطفنا. إذ كان قد سافر معظم آبائنا ورجالنا إلى الكويت ونحن أطفال، فنشأنا مع سيدات قُمْن بدور الأمهات والآباء معا. سنبدأ من حيث لا نكتمل الا بالحديث عنهن، من أمّهات بادرن في نقش ورسم ووشم، أدق تفاصيل طفولتنا وصبانا وبواكير شبابنا. مِمّن كُنَّ يُتْقِنَّ فَهم ما في صدورنا، منْ نَبرات أصواتنا، بعيدا عمّا يُضحِكُنا أو يُبكينا.

 

في أحضانهن لم نكن مُجرّد رعايا، بل أمراء مُتوّجين، عانقنا دِفئا ما كان يَنضَب وبلا مقابل. يَاما تَقلَّصْنا من البرد فيها، وغطسنا في نوم عميق هناك، وهنّ يُقاوِمْن بصبرٍ جميلٍ قُشعريرةَ بردٍ عاتٍ. كان لتلك الأحضان نكهةُ أمومةٍ تَعِزُّ على الوصف.

 

كُنّا نرى الحياة في عيونهن، تتشكل معانيها ودروبها وعناوينها، مِنْ حبٍّ لمْ يكن للحظة واحدة بالتخاطرعن بُعد، أو بالتخابر السلكي أو اللاسلكي، أو حتى بالريموت أو الماسيجات. حبٌّ كان كالحادي المُنادي، له أنغامٌ معجونة بعطرِ رِضاً طازَجٍ غيرَ مُتَذمِّرٍ وغير مُمْنِّنٍ.

 

أمهات تَوَحَّمْن في حَمْلِهِنَّ على سَفَط راحة، أو بطيخة أو كمشة زعرور، أو على ما هو أبسط من هذا بكثير، فلم يكن للآيباد أو الآيفون أو السامسونج ، في أفق رغائبهن على الإطلاق.

 

أمّهات كنّا معهن، كثيرا ما نتبعثر أول الليل في نومِنا، في كلّ مناحي البيت ونكتشف عند الصباح، أنّنا في الفراش المًخصّص لنا. علَّمْنَنا لُعبة النِّبْلة،  والمِقلاع، والبَنانير، والطاق طاق طاقِيَّه، والدّحاديل، والدَّقه والحاح، والبرجيس، والباصره. علَّمْنَنا كيف نذهب إلى مَنازل رِفاق اللعب واللهو البرئ سيرا على الأقدام، وأن نُنادي ببساطةٍ أمام الأبواب: شِلْ إلْعَبْ وشِلْ إلعَبْ ، ويا مِتْعَشّي قومْ نِلْعِبْ. في زمانِهن كان لنا بيتٌ واحدٌ وعائلةٌ واحدة. ولم نكُن في عُطَلِ نهاية الأسبوع نَباتُ مَرّة عند امِّنا المُطَلّقة، ومرَّة أخرى عندَ أبانا المَخلوع.

 

أمهاتنا كُنَّ وما زِلْنَ أقماراً، سماواتُها مُكتظَّةٌ بنجومٍ أنجبنها. مئات بل آلاف من العلماء والأكاديميين والمهندسين والقضاة والكتاب والبحاث والمثقفين ورجال الأعمال والمهنيين والفنيين والخبراء والإداريين والتربويين، إلا أمثلة مؤكدة حيَّة على جُهدٍ لَمْ تَتأخَّر ثِمارُه.

 

ولْنَعتَذِرْ مِنْ كلِّ أنثى تَمنَّت منْ أعماقها أن تكون أمّاً، ولكنَّ إرادة الله ومَشيئتُه وحِكمَته، حالَت دونَ تحقيق أمنيتها. ومِنْ كلّ أمٍّ عقَّها بالإهمال أو النسيان أو التقصير أو الإهانة أيٌّ مِنْ بَناتها أو بنيها. ومن كلِّ أمٍّ عقَّها زوجٌ ظالمٌ جاحدٌ جِلْفٌ، حرَمها بقسوةِ أي مُبَرٍّرٍ من أبنائها ومن بناتها.

 

ولْنُقبِّلَ رأس كلّ أم ابتعد عنها أيٌّ منْ فِلذاتِ كبدها طلبا للعلم أو للرزق أو للعلاج أو تلبية لواجب. ورأسَ كلِّ أمٍّ مَضت أو ما زالت،  تُلوِّنُ الحياة وتعطِّرُها، بالفرح والأمل والعزم والرضا. ورأس  كلِّ أمٍّ مبتسمة راضية، حانية مُسامحة ، تَتَقبَّل شقاوة وعَفْرَتَةً صِغارها وكِبارها. وكلُّ أمٍّ تكْدَحُ وحدَها كالرجال، أو كتِفاً إلى كتفٍ مع شريكِها، لتربية وتعليم ضَناهُما.

 

أمّا أمهاتنا اللواتي تَعِزّ على الوصف والقول، فهنَّ المُمْسِكات بجمرِ الصّبر الجميل ، أمّهات الشهداء والأسرى والجرحى، لهُنَّ نَحني الهامات والقامات ونقبِّلُ مِنهن الأيادي. لهُنَّ ولِكلِّ حبّة ترابٍ مِنْ وطنِ الجبّارين، نُجدِّدُ العهدَ والوعد. وإنا والله لمنتصرون بإذن الله وعزم الرجال.

 

ودُموعُنا تَحكي عن أمّهاتٍ تَعِزُّ على الوصف، أرى من الضروري أن أسأل كُلّ رفاقي في اليُتْم ونَبيلِ الوجَع: أيعقل أو أيَصِحُّ أن ننسى آباء في القبور، سبق لهم وأنْ تَخَيّروا لنا أرحاما تليق بنبل الحياة، إنتقوا أمهاتنا العظيمات وأحسنوا الانتقاء؟! امهاتنا ثمار أتقن اختيارها آباء عظام.

 

نسأل الرحمن الرحيم، لمن رحل منهم ومنهن، رحمة ومغفرة واسعة وجنات المتقين، ولمن ينتظرن وينتظرون، متعة الصحة والعافية وطول العمر.

 

وللحديث بقية فلا تذهبوا بعيدا...

 

الاردن – 9/10/2021