اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

إلى الأول من أيار ورفيق زنزانتي// صالح الطائي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

صالح الطائي

 

عرض صفحة الكاتب 

إلى الأول من أيار ورفيق زنزانتي

صالح الطائي

 

شيوعي عراقي لا أعرفه، جمعتني به زنزانة واحدة، كان ذلك عام 1977 في مديرية الأمن العامة، يوم اعتقلوني، وأخذوني، وأدخلوني إلى مكان قذر ضيق شبه مظلم، فوجدته هناك يئن ويتوجع وكأنه عاش فيه من زمن الطوفان. كان هيكلا بشريا لا أكثر، وقد ترك التعذيب الوحشي آثاره على كل بدنه، تعذيب سرق ملامحه وشكل ولون بشرته الذي تحول إلى ألوان حمراء وسوداء وصفراء، وقد فارقته بعض أسنانه التي تلقت ضرباتهم ولم تقوى على الصمود، وصادروا الكثير من أظفار يديه؛ التي جردوه منها خوف أن تكون أسلحة دمار شامل.

 

لم يتحرك ولم تبدر منه أي كلمة حتى ظننت أنه مقطوع اللسان أو لا يقوى على تحريك أطرافه، ولم يرد علي حينما حاولت محادثته سوى بكلمة "شيوعي"، مما اضطرني إلى الجلوس في إحدى زوايا الزنزانة منتظرا مصيرا أعرفه، فقد سبقني إليه الكثير من الشباب. وفجأة سمعتهم يأمروني بالوقوف، كان الوقت قد تجاوز العاشرة ليلا فساعتي كانت يومها لا تزال تعمل، أخذوني وأنزلوني إلى سرداب مليء بماء متعفن نتن الرائحة تسبح فيه الجرذان وجثث من لم يحتملوا ذلك الموقف. لا أدري كم قضيت من الوقت قبل أن يأمروني بالتوجه إلى الباب التي كانت مصدر الضوء الوحيد، فأخرجوني وألقوني على أرض يابسة وبدأوا حفل السلخ والتقطيع، أكثر من خمسة (كيبلات) كانت تتراقص على جسدي وهي تعزف رائحة الحقد الوحشي وتفضح كم الحقارة والدناءة الذي يحمله بعض المحسوبين على البشر، وحينما أنهكوا، سحبني أحدهم إلى باب الزنزانة ثم فتحه ودفعني بأقدامه إلى داخلها.

 

حينها لم أكن أشعر بما يدور حولي، ولكني شعرت بيديه تمسحان القذارة عن وجهي، وحينما نظرت إليه كانت هناك دمعتان تصارعان لكي لا تخرجا وتفضحا ضعفه، بدأ يمزق قطعا من قميصه ويضمد جراحي، ثم تكلم! قال لي: اصمد فهم أضعف منك، وعاد إلى مكانه. ليلتها فارقني النوم، ولأن ساعتي انتحرت مثلي وتوقفت لم أعد أشعر بالوقت، وحينما حل الصباح، دخل اللصوص ليسرقوه مني، فنادى الذي في الداخل على سيده: سيدي هذا مات! فقال له: اتركه في مكانه.

 

سبعة عشر يوما مرت وأنا في كل يوم أتوقع من صديقي الشيوعي الطيب أن ينظر إلي ويكلمني، ولكن رائحة جسده المتفسخ والدود الذي يقتات عليه كانت تخبرني أن دوري سيحين ولو بعد حين. في صبيحة اليوم الثامن عشر جاءوا يحملون كيس نايلون ووضعوا بقاياه في الكيس وحملوه وخرجوا، صحيح أن الرائحة لم تفارقني إلا أن قطع قميصه التي ضمد بها جراحي كانت لا تزال معي تذكرني بصديق عرفته لساعات كانت كأنها العمر كله. وفي الليلة الأولى التي كان مكانه شاغرا فيها لا أحد يئن فيه، سمعته يحدثني من خلف أكوام من التراب:

يا صديقي لستُ وحدي.. فمعي كل السنابل والبلابل... ومعي كل الورود... ومعي كل المطارق والمناجل.. ومعي كل الدروب من الشمال إلى الشمال ومن الجنوب إلى الجنوب.. ومعي كل المحاسن والعيوب.. ومعي شمس الظهيرة.. ومعي صحراء عمري.. ومعي الليلة المطيرة... ومعي حب العذارى والعشيرة... وجموع الكادحين.. والجميل من السنين.. ومعي عشق الحسين... وقطيع المعصمين.. ومعي أطياف ذاك الحلم النازف قهرا.. شنقته فئران العصابة.. في زنازين الرذيلة.. ورجال الأمن أقاموا حفل شواء وعناقات الكؤوس تتحدى الصرخات، جسدي نار تلظت... ومعي آهات ظهري.. ومعي أوجاع عمري.. ومعي آهة صبري.. جيل قهري .. وبقايا  من دعاء الأمهات.

 

يا صديقي أنا من أيار يشرق بدري.. انا من باع الحياة  أملا بما هو آت.. جئت كي أعلن ذاتي... أنا من أعطى سنين العمر، واشترى شرف القضية، لم أرض بالدنية. انا شهر النور والأفراح.. أنا مفتاح الصباح.. أنا قصة الأجيال.. أنا ينبوع قضية.. أنا آهات الصبية.. ضحكة الطفل بصدري تتردد، وسنين العشق في بالي تعود وحكاياتي، وابنة الجيران والرفاق والزقاق والموت والحياة والعناق، خبأتها في تقويم الأول من أيار، أملا في أن يطلع النهار ويرحل الصبار وتفتح الوردات بتلاتها، ويلبس الأطفال أثواب عيدهم، ويشمخ الرجال. يا صديقي نسيت أن أخبرك أني أنا عيد الكادحين.. أنا عيد الأغلبية.. أنا قصة وقضية. فأنا أصرخ من تحت الأنقاض عل من يسأل عني يدري أني ضعت في زمن الطغاة، ومعي ضاعت حروف الحق وتاهت الأبجدية.

 

وشاءت إرادة الله أن لا أموت في تلك الواقعة، وأن أعيش لأرى أيام التغيير وأرى أحلام وآمال صديقي الشيوعي ضاعت كلها.. وضاعت القضية.. وضاع عيد الجائعين عيد الأغلبية.. وصدقت نبوءة صديقي الذي أجهل اسمه ولكن هناك ألف ذكرى له في خاطري منها ذكرى الأول من أيار أن التضحيات خدعة لا يشعر بتفاهتها إلا من خسر عمره من أجل لا شيء.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.