اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

نقد "الجغرافية التوراتية اليمنية": فاضل الربيعي مثالا// علاء اللامي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

علاء اللامي

 

عرض صفحة الكاتب

نقد "الجغرافية التوراتية اليمنية": فاضل الربيعي مثالا

علاء اللامي

كاتب عراقي – جنيف

 

بدأ الباحث فاضل الربيعي كتاباته في ميدان الجغرافية التاريخية التوراتية متأخرا عن عدد الباحثين العرب ككمال الصليبي ود. أحمد عيد وفرج الله ديب، ولكنَّه حاز شهرة قد تكون أوسع من بعضهم، ربما بسبب غزارة النصوص التي كتبها خلال سنوات قليلة وكثرة الطلات الإعلامية التي يقوم بها.

وخلال مساعيه تلك، حافظ الربيعي على تقليد مؤسف في الكتابة البحثية العربية، في هذا المجال مع بعض الاستثناءات، وهو عدم القيام بمراجعة نقدية لما أُلَّفَ وكُتب من دراسات وبحوث وكتب في المجال المدروس من قبل، ربما باستثناء الإشارة العابرة، والإطرائية، لكتابات كمال سليمان الصليبي. وقد ارتكب الباحث عدة أخطاء علمية ومعلوماتية فادحة في نصوصه المنشورة.

 

بهدف توثيق ما أقوله هنا، سأورد بعض الأمثلة على ما سمَّيته "الأخطاء الفادحة": فالكاتب، مثلا، لا يفرق بين النبي والقاضي صاموئيل بن ألقانة (ولد في القرن العاشر قبل الميلاد، تحديدا في سنة 931 ق.م، بحسب التوراة)، وبين الشاعر الجاهلي السموأل بن عاديا اليهودي، والمعروف بكونه رمز الوفاء عند العرب قبل الإسلام، والمتوفى سنة 560م، بحسب ما ورد في المدونات العربية القديمة، ومنها مثلا كتاب "طبقات فحول الشعراء" للجمحي. فالربيعي يعتبرهما شخصا واحدا، ويكتب بكل اطمئنان (بحسب سفر صاموئيل النبي وهو المعروف عند الإخباريين العرب بالسموأل اليهودي)، في حين أنهما في الحقيقة شخصيتان مختلفتان، يفصل بين الأول، النبي صاموئيل (من أهل القرن 10 ق.م)، والثاني، الشاعر السموأل (من أهل القرن السادس بعد الميلاد)، ألف وخمسمائة عام تقريبا.

وكما في قوله، في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (القدس ليست أورشليم -مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين)، وخلال مناقشته لموضوعته المركزية حول أورشليم- القدس (لقد عرف جنوب الشام باسم إيلياء، وهو اسم مؤنث للإله العربي الذكور (أيل- ءيل) الذي ينصرف إلى اسم الله، وقد عرفه العرب والمسلمون، واستعملوه في مدوناتهم ورواياتهم دون حرج). والربيعي يدلي بهذه المعلومة بكل راحة بال، مع أن من المعروف حتى بين غير المتخصصين، غير هذا تماما. وكنا قد ذكرنا في الفصل الثالث عشر من كتابنا "موجز تاريخ فلسطين"، المعلومات الموثقة والشائعة التالية، بخصوص اسم "إيلياء"، فقلنا (وحين وصل الإمبراطور هادريان إلى العرش الروماني سنة 117 م... قرر تحويل القدس إلى مستعمرة للجنود الرومان، ومنع اليهود من السكن فيها، وأطلق عليها اسم عائلته المختصر "إيلياء"، فقد كان اسم جد عائلة الإمبراطور يحمل اسم (إيلياء كابيتولينا). وبهذا الاسم عرفت أورشليم- القدس في العصر الجاهلي وعصر صدر الاسلام. وظل هذا الاسم شائعاً عند العرب المسلمين الى جانب اسم بيت المقدس حتى العصر الاموي، حيث نقرأ للشاعر الفرزدق المتوفى بالبصرة سنة 732 م، نقرأ قوله شعرا:

وبَيتانِ بَيتُ اللَّهِ نَحْنُ وُلاتُهُ ......... وبَيتٌ بِأَعْلَى إيلياءَ مُشَرَّفُ) . ولو كان لدى الربيعي اكتشاف جديد وتصحيح لهذا المعطى، لكان حريا به التوقف عنده وعرضه بدقة والتدليل على صحته.

 

أما الخطأ الفادح الآخر، فهو قوله، خلال حشده للأدلة على يمنية الجغرافية التوراتية، (فاليمنيون القدماء كانوا ينطقون الحاء المهملة خاء كما عند اليهود اليوم...) . والشائع هو أن اليهود الأشكناز الأوروبيين فقط، هم الذين ينطقون الحاءَ خاء معجمةً، وليس اليهود العبرانيين المزراحيم "الشرقيين"، فالحاء حرف أصيل في اللغة العبرية، ولكن الأشكناز الخزر، وعموم اليهود الأوروبيين من السفارديم، لا يستطيعون لفظ هذا الحرف لأنهم أوروبيون، وغير جزيريين "ساميين".

لو حاولنا معرفة بدايات اهتمام الربيعي بهذا الميدان، فنحن لن نبتعد كثيرا عما سميناه "سقوط تفاحة نيوتن"، في معرض قراءتنا النقدية لأعمال الباحث الراحل كمال الصليبي، حين اكتشف هو الآخر، وفجأة، فيما هو يتصفح معجما جغرافيا لمدن ومناطق المملكة العربية السعودية، أن الجغرافيا التوراتية، تتكشف كلها أمامه، فالربيعي أيضا سقطت عليه تفاحة نيوتنية من هذا النوع، فلنستمع اليه يقصُّ علينا الحكاية:

(بدأت حكاية الاكتشاف المثير هذا، عندما كنت أعيد قراءة الهمداني بعيد وصولي إلى هولندا بقليل كتاب (الإكليل وصفة جزيرة العرب)، وأشد ما أثار دهشتي، أنني وجدت الهمداني يسرد أمامي أسماء الجبال الوديان والهضاب وعيون الماء في اليمن، كما لو أنه يسرد الأسماء نفسها الواردة في التوراة، والتي أكاد احفظها عن ظهر قلب) .

وبعد أن ننتهي من مقدمة الناشر، نقرأ في الأسطر الأولى من مقدمة المؤلف حزمة من الأخبار والمعلومات الغريبة، والأشبه بالقرارات الباتة والقاطعة، حول أمور لا تمكن مناقشتها ومقاربتها بهذه الطريقة أبداً، فهو يبدأ ومنذ السطر الأول بقوله (لم يحدث السبي البابلي لليهود في فلسطين، كما أنَّ الآشوريين والمصريين لم يشتبكوا على أرضها قط، وسفن سليمان لم تمخر المتوسط ولم ترس في أي وقت من الأوقات في موانئ صور اللبنانية. وإلى هذا كله، فالملك داوود لم يحارب الفلسطينيين "...." وإن القبائل اليمنية هي التي أعادت بناء الهيكل في السراة اليمنية، وليس في فلسطين. ومن ثم، فإن الهيكل لم يبنَ في القدس قط. بل إن أسوار أورشليم التي أشرف نحميا على إعادة ترميمها لا وجود لها هنا أصلا...)  ويستمر الربيعي يعرض علينا نصوصه واكتشافاته بلغة "قط، وأصلا" حتى النهاية، متهما مَن لا يرون رأيه بأنهم مزوِّرون وملفِقون، وأن آراءه هي الصحيحة فقط. ولو كان الأمر متعلقا بآراء الساسة "الإسرائيليين"، لكان هذا الأسلوب مبررا في الرد عليهم بلغتهم وأسلوبهم السجالي، أما مع العلماء والباحثين "الإسرائيليين" ممن يحترمون تخصصهم العلمي، ويكتبون بتوازن وموضوعية نسبية، كإسرائيل فنكلشتاين وغيره، فإن من الأفضل للخطاب البحثي العلمي العربي، أن يعتمد لغة البحث العلمي المجرد فيرد عليهم بالحجة والدليل العلميين، وهذا هو منطق النقاشات العلمية النقدية المراد، بعيدا عن السجالات الخطابية ذات النكهة والتقنيات السياسية.

ورغم كل شيء، لنقل: لا بأس في ذلك، فالرجل أراد أن يحدث في بداية كتابه صدمة أو تنبيها جاذبا لقرائه، عبر هذه المقدمة الصاخبة، والتي أنهاها بقوله "هذه هي الخلاصات التي يخرج بها الكتاب"؛ ولكننا حين ندخل في متن الكتاب لن نجد تلك اللغة والأساليب البحثية الرصينة والمتأنية التي نبحث عنها، فلنعد الى جوهر محاولة الكاتب، ولنرَ ما أسفرت عنه:

بعد أن يفرغ الربيعي من تقديم اكتشافاته السابقة الجازمة، يقدم لها التعضيد والإسناد الأهم عنده، والمتمثل بكتاب الهمداني "صفة جزيرة العرب". وقبل أن يقدم هذا الكتاب نقديا لقارئه، يقوم الباحث بمحاولة غريبة لتوثيق مضمونه الجوهري، فأين يجد هذا التوثيق أو الدليل على صحة مضمون مرجعه الهمداني، والقائم على موضوعة يمنية الجغرافية التوراتية؟ إنه يستله من مذكرات الطبيب والسياسي السوري عبد الرحمن الشاهبندر، الذي كتب في خاطرة صغيرة، وردت في مقالة أدبية للشاهبندر، في جريدة مصرية سنة 1936، وتناول فيها كتاب الرحالة السوري نزيه المؤيد العظم، وفيه يروي أنه التقى بحاخام اليهود في صنعاء، يحيى إسحاق، الذي أكد له المعلومة الآتية (كان لليهود مملكة عظيمة في اليمن إلى الشرق من صنعاء أسسها سليمان بن داوود، وربما كانت هذه المملكة في نجران) . فأين نضع هذا الدليل؟ وهل هو دليل فعلا، وذو علاقة إناسية "أنثروبولوجية"، أو تاريخية، بموضوع جغرافية التوراة اليمنية المزعومة؟ أليس ثمة "أدلة " وطرائف "سياحية" من هذا النوع، وهي بالمئات، إن لم تكن بالآلاف، في فولوكلور وتراث كل طائفة وإثنية وأمة في العالم القديم، ظلت متداولة في المرويات الشفاهية؟ أليس من العسف أن يشطب باحث ما على آثار الحضارات العراقية والمصرية الفرعونية والفلسطينية، لأنها لا تتسق مع وجهة نظره، أو نظريته، ويحتج بقصاصة صغيرة من جريدة يومية، فيها خاطرة، كتبها رحالة، أو طبيب، أو سياسي لا دخل له في هذا الميدان؟ بل، والأغرب من كل هذا، أن الحاخام اليهودي الصنعاني، الذي روى قصة "المملكة اليهودية الفخيمة في اليمن"، لا يعرف إن كانت هذه المملكة قد قامت فعلا في نجران أم لا، كما يقول المقتبَس نفسه!

يكتب الربيعي بلغته القطعية المعهودة (وفي الواقع، فإن التوراة لم تذكر فلسطين بالاسم، كما لم تُشر من قريب أو بعيد إلى الفلسطينيين) .

إنَّ الواقع يقول عكس ما يقوله الربيعي هنا، وقد راجعت أسفار التوراة، وتحديدا مفردة "فلسطين" في موسوعة الكتاب المقدس، فوجدت أنها وردت في التوراة بصيغ "فلسطين"، والفلسطينيين"، و"أرض الفلسطينيين"، في الأسفار التالية، مع ذكر عدد المرات:

في سفر التكوين (سبع مرات)، ومرة في سفر يشوع، ومرتين في سفر أشعيا، واحدة منهما بصيغة "جَمِيعُكِ يَا فِلِسْطِينُ"، سفر أرميا ثلاث مرات، سفر عاموس مرة، وفي سفر الميكابيين، وهو من أحدث أسفار التوراة، وقد وقعت ثورة الميكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد، وهي عبارة عن تمرد يهودي مسلح، موثق في المدونات السلوقية الإغريقية والرومانية واليهودية معا، ولا يمكن التشكيك بصحة وقوعها في أورشليم-القدس الفلسطينية، وقد وردت الكلمة في عبارة "أرض فلسطين"، كما ورد اسم فلسطين في سفر عبوديا باسم "سهل فلسطين"، ومرة في سفر صفنيا. فكيف يجزم الربيعي بأن فلسطين لم ترد في التوراة؟ أم أنه يقصد أنها وردت فعلا، ولكن محرفة في أحد الحروف، من وجهة نظره، فلم ترد بالطاء، بل بالتاء كما يقول، ولهذا فهو يردها إلى اليمن بدليل أنها تحمل اسم الإله اليمني القديم "الفلس"؟ وحتى هنا، يظل الاعتراض قويا على وجهة نظر الربيعي القائلة (إن الإله فلس، إله الفلستيين حيث لا يوجد كلمة فلسطين مطلقا بالتوراة بل فلستيين والفلست، رغم وجود حرف الطاء بالعبرية، وهم من بني كنانة (كنعن) أحد بطون مضر وليست مصر كما تذكر التوراة) .

مع ذلك، لنستمر في مناقشة هذه النقطة بخصوص اسم فلسطين، ولنتساءل: كيف وردت لفظة "فلسطين" بحرف الطاء في النسخة المترجمة إلى العربية من التوراة، وبحرف التاء في اللغة العبرية، وسأناقشها من وجهة نظري، كقارئ لا يتقن اللغة العبرية، بل يعرف أشياء عنها ومنها.

إن حرف الطاء، موجود في اللغة العبرية فعلا، ولكنه لم يستعمل في إملاء كلمة فلسطين في الكتاب المقدس، أي أنها موجودة، ولكن بلفظة "فلشتيم"، وليس بلفظة "فلسطين"، والأسئلة كثيرة ومنها:

  لماذا استمرت فلسطين بهذا الإملاء العبري، أي بالتاء، حتى الآن؟ وهل حرف الطاء العبري (ט) كان يلفظ ويكتب في التوراة بالعبرية القديمة، وما الدليل على ذلك، أم أن هذا الحرف كان قليل الاستعمال قديما، ثم انقرض في العصر الحديث، ولم يعد موجودا الآن، كما هو معروف، في الألفباء العبرية المعاصرة؟

إذا كان اسم الفلسطينيين "الفلستينيين" هو نسبة إلى الإله اليمني القديم " الفلس" كما يقول الربيعي، فلماذا لم تأتِ النسبة إليه "الفلسيون" واسم منطقتهم الفلسة أو الفلسية ؟ وما معنى التاء في "الفلستيون"؟ الربيعي يقول، إن هذه التاء هي "التاء اللاصقة" ويضرب لها مثالا في (قريش التي تكون بها قرشت)، فأي معنى لهذا التفسير؟

ولماذا يسكت الربيعي عن أن كلمة " فلسطين"، في العبرية لم تأتي بالسين (ש) مع نقطة على أعلى يسار الحرف، لو كانت النسبة فعلا الى إله "الفلس" اليمني مع أن السين موجودة وفعالة، ولها حرفان عبريان هما السين العادية والسين التي تدعى سامخ "ס"، بل جاءت بالشين (שׁ) مع نقطة على أعلى يسار الحرف، كما يلاحظ القارئ. فلماذا سكت الربيعي على ملفوظ الشين، وعلى إضافة التاء الى فلستين اليمنية نسبة الى الفلس، وكيف يفسر كل ذلك؟

وإذا كانت الميم في العبرية تفيد الجمع، فيكون "الفلسطينيون" في العربية، "فلشتيم" في العبرية، وفي غيرها من اللغات الجزيرية كالأكدية التي يلفظ فيها اسم فلسطين "پالاستو"، والبابلية الأمورية والآشورية والآرامية القديمة والآرامية المتطورة "السريانية"، فماذا عن النون في المقابل العربي للاسم مفردا "فلسطين"؟ وهل هذه هي الكلمة الوحيدة التي تكتب بالعبرية بقلب السين شين، والطاء تاء، أم أن الأمثلة كثير على ذلك؟ لنقدم هذا المثال: لعل أشهر عمليات القلب الحروفي العبرية هو ما نجده في اسم مملكة "سبأ" في عبارة "ملكة سبأ بلقيس"، والتي تكتب بالعبرية "ملكت شفا מלכתשבא). ففي هذا الاسم انقلبت السين شيناً والباء فاء. كل هذه الأسئلة والتساؤلات، تجعل من وجهة نظر السيد الربيعي، التي ترد اسم فلسطين إلى إله الفلس اليمني القديم ، وبين هؤلاء الفلستينيين، وبين من يراهم امتدادا للفلستينيين أي يهود الفلاشا في أثيوبيا، تجعلها فكرة ضعيفة وهشة جدا، ولا يمكن الدفاع عنها بحثيا قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، خصوصا وأن  وجهة نظر الربيعي قد تم نقضها بالأدلة الآثارية القاطعة، بهذا الخصوص كما سنبين في صفحات قادمة، حين سنعرض بالتفصيل الأدلة الأركيولوجية التي جمعت من مدن فلسطين القديمة، ومن آثار الحروب والمطاردات التي شنتها جيوش مصر الفرعونية ضد شعوب البحر حتى بلغت تلك الجيوش شمال فلسطين والتي تنقض نظرية الربيعي نقضا تاما.

أما خارج التوراة، فقد ورد اسم فلسطين بوضوح في كتابات المؤرخ والرحالة الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد ناقشت ذلك مفصلا في موضع آخر من كتابي الصادر حديثا عن دار الرعاة الفلسطينية، "موجز تاريخ فلسطين" الفصل الأول، وخلاصة ما كتبت هي أن اسم فلسطين ظهر موثقاً في مؤلفات المؤرخ والرحالة الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ أشار إلى بلاد الشام باسم "سوريا"، وإلى جنوبها بـ"فلسطين" (Παλαιστινη پَلَيْسْتِينِيه)، وأحيانا بـ "فلسطين السورية". وعلى ما يبدو، فقد استعار هيرودوت هذا الاسم من اسم "پَلَشْت" نسبة إلى شعب البلستة / الفلسطة، في القرن الثاني عشر ق م، واستقرارهم في ساحل فلسطين الجنوبي، وإقامتهم خمس ممالك- مدن هي: غزة، عسقلان، أسدود، جت، وعقرون، في الساحل الجنوبي، ما بين يافا ووادي العريش. غير أن اسم فلسطين كان شائعا قبل هيرودوت بعدة قرون. ففي سنة 750 قبل الميلاد ورد اسم "بلست" باللغة العبرية، ثم ورد اسم بلادهم "فلستيا Philistia" بعد ذلك، كذلك ورد اسم "بالستين" أو سوريا الفلسطينية Palestine Syria، الذي كان يطلق على الجزء الساحلي والداخلي من فلسطين الحالية حتى الصحراء العربية، في وثائق أخرى.

 أما قبل زحف شعوب جزر شرق البحر الأبيض المتوسط، فكانت هذه البلاد تعرف باسم أرض كنعان، وفي العديد من المسلات الفرعونية المصرية، أطلق عليها اسم "بلاد خوري/ حوري"، نسبة إلى الحوريين.

 وكلمة فلسطين، باللغة العبرية هي  פלשתיםپلشتيم، وبالأكدية الأكثر نضجا والأقدم زمنا هي "پالاستو". ومن الأدلة الآثارية على وجود وهجرة الفلسطيين "الفلسطة" والتي تقول موسوعة الكتاب المقدس، إنها تعني "المهاجرين"، وهم مهاجرون فعلا من جزر البحر المتوسط، ورود ذكرهم على إحدى الجداريات الفرعونية بوادى الملكات (الأقصر)، والتي تعود لزمن الملكة حتشبسوت (1479–1458 ق.م)، ويرفض الربيعي قصة هجرة شعوب البحر المتوسط، ولكنه لا يفسر أو يرد على الأدلة المادية التي تؤكدها، ومنها الجدارية الفرعونية بوادي الملكات. تذكر تلك الجدارية أن هؤلاء المهاجرين من شعوب البحر (حطوا برحالهم عند ساحل مريوط، قرب الإسكندرية حاليا، فقام الفراعنة بإجلائهم عن مصر، فانقسموا لجماعتين، الجزء الأكبر حط رحالة بجنوب فلسطين التاريخية، أما الجزء الأصغر فتوجه غرباً واستقر بمدينة درنة الليبية وحولها) .

يرفض الربيعي في كتابه هذا، أن يكون القضاء على مملكتي إسرائيل ويهوذا من قبل الجيوش الآشورية، والكلدانية بعدها، وتدمير أورشليم وهيكلها، وسبي قسم كبير من سكانها قد حدث في فلسطين؛ بل هو ينكر أي وجود لليهود العبرانيين فيها قبل القرن الثاني قبل الميلاد، وفي بعض الاقتباسات عنه، يجعل من غير الممكن الإقرار بوجود اليهود العبرانيين في فلسطين قبل 130 سنة ق.م، كما يقتبس عنه بكر أبو بكر  ومحمد علي إبراهيم . أو كما يقول هو نفسه (في حدود 130 ق.م، لأن المعارك كانت لا تزال مستمرة وبقوة زخم مدهشة حتى هذا الوقت، بين القبائل العربية اليهودية بقيادة يهوذا المكابي، القائد اليهودي الذي جمع بين الملك والكهنوت كما يروي ابن العبري في تاريخه، والقوات الرومانية الغازية، وفي حدود هذا التاريخ كانت أورشليم عاصمة بلاد اليهودية في سرو حمير ولم يكن اسمها القدس قط) .

ولكننا سنأخذ بما وثقناه في كتابه، رغم أن بين القولين فرقا زمنيا كبيرا يصل الى سبعين عاما، لا يبدو أن الربيعي يقيم له أي اعتبار، ففيه يكتب أن (بداية تدفق القبائل العربية العاربة، بما فيها بقايا قبيلة بني إسرائيل، من يهود اليمن وسواحل البحر الأحمر وتهامة ونجد اليمن واليمامة نحو جنوب بلاد الشام (فلسطين) لن يتجاوز حدود العام 200 ق.م، إذ بدءاً من هذا التاريخ تدفقت على شكل موجات متعاقبة وتحت ضغط الحروب والحملات العسكرية المدمرة، جماعات وقبائل وشعوب منهكة تقلصت، وإلى حد كبير إمكاناتها القتالية والحربية، وأضحت قدرتها على مواصلة التمرد محدودة وتكاد تكون معدومة) . والواقع، فإن أحدا من الباحثين القائلين بجغرافية عسيرية أو يمنية للتوراة واليهودية، لم يبلغ به الحماس هذه الدرجة من المبالغة في الاستنتاج البحثي. فكمال الصليبي نفسه، وفي معرض رفضه لاعتماد مخطوطات البحر الميت، قال إنَّ تلك المخطوطات قد تفيد لدراسة وتوثيق مرحلة اليهود في العصر الروماني، أي أنه كان يعترف بوجود اليهود  في ذلك العصر رغم أنه لم يتطرق بالتفصيل لهذا الوجود.

إن كلام فاضل الربيعي هذا، يعني في ما يعني، الشطب على تاريخ الشرق، طوال القرون السابقة للهجرة اليهودية من اليمن إلى فلسطين شمالا، والتي يعتقد بحدوثها في القرن الثاني قبل الميلاد، وبكل ما فيه. وهو يعني أن الحروب والثورات والهجرات وعمليات التهجير والسبي، ومنها السبي الآشوري الأول لسكان أورشليم-القدس في القرن السابع قبل الميلاد، والسبي الكلداني الثاني لهم في القرن السادس قبل الميلاد، وكلها موثقة أركيولوجيا في المسلات والوثائق الرافدينية بالتفصيل، ومعها الحروب المصرية الرافدينية والمصرية الحيثية في فلسطين وعموم بلاد الشام، وبعضها بلغ شمال الشام وجنوب الأناضول، ومعاهدات السلام، ومنها معاهدة قادش "تل النبي مندو" بين مصر الفرعونية والحيثيين سنة 1258ق.م، أي قبل أكثر من ألف سنة، من هذه الهجرة اليهودية المزعومة، وهي موثقة كما ذكرنا، ليس بكلام التوراة فقط، بل بمسلات وبرديات وجداريات ما تزال قائمة حتى اليوم على نهر العاصي. وعن قادش هذه كتب هيرودوت، وهو من أهل القرن الخامس قبل الميلاد، في كتابه "التواريخ"، ما ينسف تماما أطروحة الربيعي عن الإله اليمني "الفلس"، وأصل الفلسطيين، كتب هيرودوت (هنالك مدخل واحد معروف إلى مصر من فينيقيا إلى حدود مدينة كاديتس التي تعود إلى السوريين، ويُدعَون الفلسطينيين، ومن كاديتس، وهي مدينة أعتقد أنها ليست أقل حجما من سارديس، من هذه المدينة تمتد محطات التجارة على ساحل البحر إلى حدود مدينة لينيسوس) ، وكان رعمسيس الثاني، أول مَن خلّد انتصاراته الحربية عند مصب نهر الكلب في لبنان الحالي، على نصب صخري ما يزال باقيا حتى يومنا هذا، ضمن مجموعة من النُّصب والمنقوشات، تشمل ثلاث مسلات مكتوبة بالهيروغليفية المصرية الفرعونية، وست لوحات مسمارية رافدينية من العصرين الآشوري والبابلي الأخير "الكلداني"، وأشهر ملوكه نبوخذ نصر الثاني. وكما تساءلنا في معرض سردنا لأحداث تلك القرون، نتساءل هنا عن السبب الذي جعل المنفيين اليهود في بابل، يعودون إلى مدنهم المدمرة بسبب الحروب في فلسطين، ولا يعودون الى مملكتهم اليهودية في اليمن أو عسير؟ لماذا لم يعثر حتى الآن، وإنْ عن طريق الصدفة البحتة، على رقيم فرد، أو أثر أركيولوجي واحد وحاسم، باللغة العبرية أو غيرها، يدعم رواية القائلين بجغرافية عسيرية أو يمنية للتوراة واليهودية، مقابل مئات الآثار والأدلة المادية المبثوثة في طول وعرض فلسطين، وبلاد الشام عموما، والرافدين ومصر؟

ويحاجج الربيعي بالقول (أن المؤرخ هيرودوت ، الذي جال في المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد، وكتب ملاحظاته لم يسمع، ومن ثم لم يسجل، كلمات تشير إلى أي من "أورشليم" ،"يهوذا" ، "إسرائيل"، "السامرة"، أو هدم "الهيكل"، ولا "السبي"، وذلك على الرغم من أنه تحدث عن مواقع وأقوام تبعد عن خط رحلته  آلاف الأميال) . ونذكر القارئ بأننا ناقشنا، في الفصل السابع من كتابي موجز تاريخ فلسطين، في معرض كلامنا عن الحجم الضئيل والأهمية التاريخية شبه المنعدمة للمحمية الفارسية التي أطلق عليها "اليهودية" بعد عودة نحميا ومعه آلاف العائدين من الأسر البابلي. وقد استشهدنا بموقف المؤرخ والرحالة هيرودوت منها وإهماله لها، وهذه خلاصة للتذكير بما كتبناه هناك مع بعض الإضافات:

إنَّ دويلة يهوذا الثانية، والتي كانت محمية فارسية بالمعنى الحصري للكلمة، ليست إلا بقعة ضيقة جدا من الأرض، في أورشليم-القدس وحولها، قد لا يتجاوز عرضها 24 ميلا. ومساحتها كما يذكر باحث آخر هو رولي خاريش  حوالي 17 هكتارا مربعا فيما كانت مساحة مدينة نينوى 720 هكتارا مربعا، أما عدد سكانها فلا يزيد على عشرة آلاف نسمة كما يقول فنكلشتاين. لنقرأ ما كتبه المؤرخ هربرت جورج ولز، في معرض كلامه عن هذه الدويلة وسكانها (كانت حياة العبرانيين تشبه حياة رجل يصرُّ على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار. ومن الأول إلى الآخر، لم تكن "مملكتهم" سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقية، ذلك التاريخ الذي هو أكبر منهم ومن مملكتهم) . ويضيف ظفر الإسلام خان الذي اقتبس كلام ولز، ما يفيد، أن هيرودوت زار القدس، وذكرها وتجاهل ما عداها، فيكتب (وقد تجاهل رحالة القرن الخامس قبل الميلاد، والمؤرخ المعروف هيرودوت، ذكر اليهود ودولتهم ما عدا القدس، وبعض الأماكن التي لم تكن تبعد عن القدس أكثر من عشرة أميال. ويعلق على موقف هيرودوت هذا د. فوكس جاكسون، الأستاذ في جامعة كامبردج، في كتابة "يوسف واليهود"، قائلا "إن تفسيره بسيط غاية البساطة. لقد كانت "يهوذا = اليهودية"، غاية في الصغر، وكان سكانها من التفاهة من حيث العدد، لدرجة أن أذكى وأبصر السواح في القرن الخامس قبل الميلاد هيرودوت، كان يزور ما كانت تسمى فلسطين السورية، أو سورية الفلسطينية، وقد لا يسمع عن اليهود شيئا أبدا. ولا بد ان القدس كانت في أيام حاكمها نحميا المعاصر لهيرودوت، مدينة خاملة الذكر جدا، بحيث لا تغري سكان المناطق المجاورة لها بسكنها إلا بشق الأنفس. والأجدر بالملاحظة من تفاهة عدد اليهود في فلسطين في زمن نحميا (445 – 432 ق.م)، هو أن رقعتهم ظلت ضيقة، كما لا يبدو انهم تكاثروا في البلاد لما يقرب من ثلاثة قرون ... ولكن اليهود لم يصبحوا قوة في البلاد إلا حوالي منتصف القرن الثاني ق.م خلال فترة حكم الميكابيين. وما من شك، في أنهم كانوا عديدين في بابل ومصر أما في فلسطين فكانوا قلة تافهة) .

ثم إنَّ ذكر الرحالة هيرودوت لاسم مدينة زارها فعلا وبشكل خبري، أو عدم ذكره له، أمر لا يعول عليه دائما في كتبه، ولا يعتبر دليلا على عدم وجود تلك المدينة، فمن المعروف، أنه زار بابل العاصمة الإمبراطورية السابقة والمحتلة من الفرس الأخمينيين آنذاك، ولكنه لم يذكر أنه زارها، وهذا ما يذكره عبد الله أبو أيمن نقلا عن أحد الموسوعات التاريخية الرقمية، كما يبدو، حيث وردت العبارة في مقالة له كتب فيها(رغم استخدامه -هيرودوت- لعبارات يستدل منها أنه زار بابل إلا أنه لم يزعم انه كان قد زارها) ، وهناك من يقول إنه قد ذكر أنه زارها، ربما اعتمادا على وفرة المعلومات والمشاهدات عن الحياة اليومية فيها آنذاك، وهذا ما نجده  في العرض الممتع، والغني بالمعلومات، الذي يقدمه د. صباح الناصري ، لما ورد في كتاب "التاريخ" لهيرودوت، عن زيارته لبلاد الرافدين، وخصوصا مدينة بابل، حين كانت تحت الاحتلال الفارسي الأخميني.

*هذه المقالة هي خلاصات مكثفة ومختصرة من الجزء الأول من دراسة مطولة بعنوان (نقد الجغرافية التوراتية اليمنية عند فاضل الربيعي" والتي ستنشر كاملة في كتابي الجديد (نقد الجغرافية التوراتية العسيرية واليمنية) الذي سيصدر في المستقبل القريب.

*كاتب عراقي - جنيف

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.