اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

كافكا الآخر: كونديرا ينقذ كافكا من عملية مَسخ- ج3// علاء اللامي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

علاء اللامي

 عرض صفحة الكاتب 

كافكا الآخر: كونديرا ينقذ كافكا من عملية مَسخ- ج3

علاء اللامي

 

( نجح كافكا في تحقيق ما كان يبدو مستحيل التصور قبله ألا وهو: تحويل مادة مضادة للشعر بشكل عميق هي مادة المجتمع البيروقراطي إلى شعر عظيم للرواية وهكذا تحولت "القصر" من رواية عن حادثة مبتذلة لموظف لا يستطيع الحصول على وظيفة موعودة إلى أسطورة ، إلى ملحمة ، إلى جمال لا يعرف له مثيلا من قبل.. ) ميلان كونديرا

 

مع ولادة العلوم السيميائية [1] والمنهجيات التحليلية والتفكيكية والبنيوية الحديثة كفَّ النقد الأدبي قبل أكثر من نصف قرن عن أن يكون شرحا وبحثا عن رموز ومعانٍ معينة يقرر النقاد سلفا أنها موجودة في العمل المنقود، واعتبار قراءة سيرة حياة الفرد المبدع هي الطريق لقراءة وفهم منجزه الإبداعي وليس العكس . هذا التطور الحاسم في ميدانه، كان له تأثيره على تلك القراءات التي تزعم أنها "نقدية"، و التي تجعل صاحب النص أي "الذرة المجتمعية المستذهَنة" هو المحور والهدف الذي يقصده النقد ويظل يدور حوله جامعا الكثير من الحيثيات والنتف المنفصلة عن بعضها من سيرة المؤلف والمنتِج للعمل الفني والأدبي، ولقد تمكنت المنهجيات النقدية الحديثة من قلب المعادلة، أو لنقل بالعبارة الأثيرة لدى الماركسيين تم "إيقافها على قدميها بعد ان كانت تقف على رأسها"  فقد أصبح الإنجاز الأدبي أو الفني ذاته هو المنطلق الحقيقي لفهم عوالم الفنان والمبدع الذي أنتجه لا العكس.

 

  ليس هذا فحسب، بل لقد غدا النص النقدي إنتاجا ثانيا، مضافا ومستقلا، للعمل موضوعه، وصار النص السردي ينتج نصا سرديا آخر بما يمثل مستوىً سرديا جديدا، ينظر إليه من خلال، وفي خضم علاقته التطورية مع النص الأول الأساس. وهكذا أشرقت وترسخت النقدية الحديثة مع آلتوسير وجاك دريدا ودي سوسير ورولان بارت وبيرس وغيرهم من رواد ومؤسسي البنيوية وعلوم السيموطيقيا الحديثة. خارج هذا الإطار الأكاديمي فعلت هذه التطورات فعلها، فلم يعد الاشتغال بهذه العلوم اختصاصيا واحترافيا تماما، بل لجأ إليه روائيون وشعراء وفنانون ذوو ثقافات موسوعية ومختلفو الميول والنزعات في مساهماتهم النقدية الشخصية سواء كان الهدف فهم أعمالهم هم أم أعمالا مهمة أخرى لغيرهم. من هذه الدائرة المتسعة باستمرار تأتينا تجربة الروائي والناقد التشيكي ميلان كونديرا ووقفته التنظيرية النقدية لأعمال وشخصية فرانتس كافكا ضمن مجموعة من الموضوعات الأدبية التي اشتغل عليها نقديا:

 

 وقبل أن نبدأ مقاربتنا لمحاولة كونديرا النقدية حول كافكا وأدبه، نرى من الضروري واللازم أن نتوقف لتسجيل شهادة شخصية حول قبوله لجائزة "القدس" الإسرائيلية الحكومية، فهذا الموضوع قد يبدو للبعض، وهو كذلك بشكل من الأشكال، ذا مساس بموقف كونديرا من كافكا ولا محيص بالتالي من التطرق إليه حتى لا يفسر صمتنا عن ذلك تفسيرا معينا لا ينسجم مع بديهيات الكتابة النقدية ويخرج وبشكل مباشرة إلى سياقات معيارية بعيدة عن الموضوعية وتلتصق بأساليب الوصم وتفتيش النوايا والتحريف. فالواقع إن لوماً وأسفاً وشعورا بعدم الرضا والحرج قد واجه عدد من الأدباء والمفكرين العالمين الذين نالوا هذه الجائزة الإسرائيلية ومن بينهم الفيلسوف والأديب الفرنسي الشهير جون بول سارتر والروائي الياباني هاروكي موراكامي.

 

  نعتقد أن الموقف في مثل هذه الحالة، مهما كان متحفظا أو سلبيا من هذه الواقعة لا ينبغي له أن يتحول إلى موقف سلبي وذي أثر رجعي من الإنجازات الأدبية والفنية لمن ينال الجائزة ليدور كالمعتاد داخل تقاليد الوصم والشطب السائدة في الثقافة العربية المعاصرة. فإن كان موقف سارتر من جملة الصراع العربي الصهيوني ومن مأساة الشعب الفلسطيني التي تسببت بها الحركة الصهيونية ودولتها قد شكل في نظر البعض ما يشبه الارتداد والتراجع الفكري والسياسي فإن هذا الذي يسميه البعض "ارتدادا" أو " تطورا سلبيا" يبقى ذا طابع شخصي بحت، وموضعه السياسة وليس الأدب، ولا ينبغي أن يترتب عليه شطب تاريخ الرجل الذي وقف إلى جانب الشعبين الجزائري والفيتنامي حتى أدى به ذلك إلى السجن والاعتقال من قبل سلطات بلاده بمعية شريكة حياته سيمون دي بوفوار.

 

 أما الروائي الياباني موراكامي، فهو حين وافق على استلام تلك الجائزة، وقدم تبريرات سطحية وغير مقبولة يلخصها رده على الدعوات التي وجهت إليه في بلده اليابان بضرورة رفض تلك الجائزة احتراما لدماء الفلسطينيين التي سفكها الآلة الحربية لدولة إسرائيل، والذي قال فيه "أنا كروائي أفعل عكس ما يقال لي".. أقول، رغم كل ذلك، فهذا الأديب لم يسكت عن معاناة الشعب الفلسطيني، وذكَّر بتلك المعاناة من باب الدفاع الإنساني، وهذا ما يخفف كثيرا من اللوم الذي يوجه إليه. أما في حالة كونديرا فموقفه - من وجهة نظري-  أدعى إلى الأسف، بل هو هفوة كبيرة من قبل أديب ومفكر كبير. ومما يفاقم من هذا الشعور بالأسف، إنه قال في خطابه الذي ألقاه في تلك المناسبة كلاما قابلا للتأويل والتفسير في اتجاهات شتى لن تكون في مصلحة هذا الأديب إنسانيا. وبالمناسبة، فقد حذف المترجم أو الناشر العربي " بدر الدين عردوكي عن دار الأهالي السورية " هذا الكلام من خطاب كونديرا الذي نشره في كتابه " فن الرواية " الفصل الأخير، وهذا تقليد فج ومعهود في القص الحذف يلجأ إليه ممثلو الثقافة الحكومية العربية الشمولية التي تحل مشاكلها على طريقة النعامة بأن تدفن رأسها في الرمال.

 

إن العبارة التي حذفت من خطاب كونديرا كان قد قال فيها (بتأثر عميق تسلمت الجائزة التي تحمل اسم القدس وعلامة اليهود الكوزموبوليتانية.) وكما قلنا قبل هنيهة فهذه العبارة قابلة للتأويل والتفسيرات المتعددة والمتناقضة فهي تجرد الدولة الصهيونية "إسرائيل" من أية هوية مدعاة أو مزعومة وتصفها بالكوزموبوليتانية، وكأنها– وهي كذلك فعلا وواقعا- مجرد تجمع للمهاجرين الغرباء لا علاقة لهم بالوطن الذي هم فيه والذين لا يجمع بينهم شرط حضاري أو ماهوي مهم وملموس. بل أن كونديرا، وفي موضع آخر من خطابه، يعتبر " إسرائيل " قطعة من أوروبا، بل هي قلب أوروبا المزورع خارج الجسد الأوروبي" على حد تعبيره وهذا بحد ذاته كلام لا يسر الصهاينة وأصدقاءهم فهم يعتبرون أنفسهم جزء وطيدا وعريقا من الشرق ولطالما فاخروا بأن لهم في هذا الشرق عمر "حضاري" يعود إلى آلاف السنوات.. أما كلامه عن إسرائيل بوصفها "الوطن اليهودي الصغير المستعاد" فهو قول مؤسف أكثر من سواه، وينطوي على تبرير مباشر لمزاعم الحركة الصهيونية الرجعية والتي رفضها مفكرون يهود كبار قبل غيرهم والتي يلخصها الشعار الباطل والقائل إن فلسطين هي أرض بلا شعب ويجب أن تأول لشعب بلا أرض. من الطبيعي إننا لا نريد إن نجبر كونديرا على أن يكون جذريا في تأييده لقضية الشعب الفلسطيني مثل الفرنسي جان جنيه والكولومبي غارسيا ماركيز والبرتغالي خوزيه ساراماغو، أو قسره على أن يكون عروبيا و"قوميا" أكثر من العرب، خصوصا إذا ما علمنا ان بعض الأدباء وأشباه الأدباء العرب صاروا ينافسون أصدقاء إسرائيل في إطرائهم ومديحهم السمج لإسرائيل فهذا كاتب عراقي لم يسمع باسمه الكثيرون يدعى نجم والي هرع إلى تل أبيب وأطرى الكيان الصهيوني كما لم يطره صهيوني متحمس من قبل، بل لقد بلغت به "الحمية؟" إنه هاجم الفنانة اللبنانية فيروز لأنها كما قال غنت للقدس ووصفت محتليها بـ"القدم الهمجية"، ولكننا نطالبه- كونديرا- وغيره بالإنصاف والموضوعية في النظرة إلى الصراع الدائر بين شعب مقتلع من أرضه هو الشعب الفلسطيني وكيان مفتعل مدجج بالأسلحة النووية والكراهية هو إسرائيل.

 

 باختصار شديد يمكن القول، إننا، ولكي لا نكرر خطيئة ماكس برود بحق كافكا حين حوله من كاتب إنساني إلى كويتب حزبي يشتغل كمروِّج لبروباغاندا الحركة الصهيونية، لا ينبغي لنا أن نخرج واقعة حصول كونديرا أو أي أديب أجنبي على الجائزة الإسرائيلية الذكورة عن سياقها لنضعها في سياق آخر، ولا أن نبالغ بها، وصولا إلى الشطب على هذا المبدع وأدبه ككل، بل نكتفي بتسجيل الأسف على هذه الهنة الكبيرة التي ارتكبها هذا المبدع الذي أحببنا أدبه وتبقى مسألة استمرار إعجابنا وحبنا من عدمه لهذا الأدب ولمن أبدعه مسألة ذوقية وشخصية إلى حد بعيد. وبهذا نكون أكثر قربا وانسجاما مع المساق الأخلاقي والتاريخي والعلمي لوقائع كهذه ولأبطلها أيا كانوا.

 

بالعودة إلى مقاربة كونديرا لكافكا وأدبه نلاحظ أنه خصص الجزء الثاني من كتابه النقدي " الوصايا المغدورة " وهو بعنوان " ظِل القديس غارتا .. الخصاء " لكتاب خطير رغم تفاهته الفنية والمضمونية، هو عبارة عن رواية تحمل عنوانا ساذجا يقول "المملكة المفتونة بالحب " لشخص يدعى ماكس برود عرف بأنه الصديق الوحيد تقريبا لكافكا. نشر برود روايته مباشرة بعد الموت المبكر والفاجع لكافكا بعد معاناة طويلة وقاسية مع مرض السل ونوبات الصداع في الثالث من حزيران 1924 .ومع ذلك يسجل كونديرا فضل برود في التعريف بكافكا وأدبه ولكن على طريقته الخاصة و رغم كل شيء حين يقول : لولا ماكس برود، ولولا هذه الرواية لظل اسم وأدب كافكا نسيا منسيا ومجهولا لا يعرف أحد عنه شيئا.

 

 وقد نشر برود ثلاث من روايات صديقه بعد موته كاتبا لها مقدمات وشروحات من ذات النسيج الذي حكم طريقته في كتابة روايته سالفة الذكر، لكنها لم تحدث أي صدى في الساحة الثقافية الأوروبية بله التشيكية فقد عاش كافكا منعزلا، بل، وربما معزولا عن نخبتها وفعالياتها.وحين فشل برود في ترويج نتاج كافكا قرر ان يفتح "حربا حقيقية" كما يقول كونديرا ليفرض نتاج صديقه. ولكنه طبق في ذلك إستراتيجية مقلوبة ومنافقة فكتب مجموعة مقدمات لروايات كافكا: القصر، أمريكا، وصف معركة، مقدمة الرسائل واليوميات، مقدمة مجموعة من القصص، مقدمة محاورات مع يانوش، ثم حول روايات القصر والمحكمة وأمريكا إلى مسرحيات ثم كتب أربعة كتب تلفيقية ذات مضامين تأويلية دينية تقرأ من عناوينها وهي التالية:

-       الإيمان والهداية عند فرانز كافكا .

-        فرانز كافكا سيرة حياة .

-       كافكا الهادي إلى السبيل .

-       اليأس والخلاص في إعمال فرانز كافكا الأدبية .

 

بسخرية مريرة، يلاحظ كونديرا، أن ماكس برود تصرف وكتب ما كتب لا لشيء إلا لترسيخ صورة كافكا كمفكر ديني وظلامي على الرغم من ان برود ذاته يعترف بأن كافكا لم يقدم قط شرحا منهجيا لفلسفته وتصوره الديني للعالم[2] ، وعلى الرغم من أن كلمة "يهود" ومشتقاتها لم ترد في نتاجه السردي كله، ولكنه يعاند ويلوي أعناق الحقائق فيزعم أن هذا كله يمكن استنتاجه من أعماله الأدبية. غير أن خيبة برود تطل برأسها حين يحاول تطبيق هذه الرؤية النقدية فيجعل اهتمامه منصبا أولا على تفاصيل حياة كافكا، بوصفها مثالا يحتذى تليها في الوسط مجموعة الحكم التي قالها في مذكراته واستخلصها برود من كتاباته وأقواله الفلسفية ويومياته بطريقة "القصقصة والتلصيق" المنحازة، وفي الأسفل تماما في أعماله الروائية السردية. بمعنى إن برود قام بعكس ما هو مطلوب تماما لتحقيق هدفه ألا وهو إعدام كافكا الحقيقي، كاتب الروايات المهمة، والتي شكلت ثورة في السرد الأوروبي باعتراف عدد كبير من المبدعين، ليحتفل – من ثم - برجل دين كئيب وعصابي اسمه كافكا.

 

ووفقا لكونديرا فرواية ماكس برود الساذجة والضعيفة فنيا والقائمة على عنقود مصادفات غير مبررة سرديا وأقرب إلى الثرثرة (نشير عرضا إلى أن برود  ألف عشرين رواية وصفها كونديرا بأنها "تقليدية بشكل محزن لأن مؤلفها لا يفهم شيئا إطلاقا في الفن الحديث) ولم تترك أثرا أو ينتبه لها أحد طوال تاريخ الرواية التشيكية أو الأوروبية عموما) وتقوم هذه الرواية "المملكة المفتونة.." على الحكاية التالية :كاتب ألماني اسمه "نوي" يعيش في براغ، وهو كما يقول كونديرا صورة شخصية مزخرفة لماكس برود نفسه .يقوم نوي / برود بخداع رجل متزوج فيقيم علاقة غرامية خاصة مع زوجته ويستطيع هذا الأخير وبطرق خبيثة ومتقنة من أن يلقي بنوي/ برود في السجن لأربع سنوات وهكذا يكون الصراع بين الأخيار نوي وعشيقته ضد الأشرار الزوج المخدوع وناقد صارم ينتقد كتابات نوي برود الجميلة .. تنتحر العشيقة ويصبح نوي شخصا حساسا جدا لدرجة أنه يغمى عليه عدة مرات.حتى الآن، لا وجود لكافكا، ولكنه لا يلبث أن يتسرب أو يزج به من قبل المؤلف "برود" كصديق شخصي له ويعطيه اسما هو غارتا الموصوف بأنه قديس من زماننا ..والذي - بلغة برود - يبتغي النقاء المطلق ولا شيء سواه.

 

 يكتب ماكس برود واصفا غارتا / كافكا بالقول (من بين كل الحكماء والأنبياء الذين وطئوا هذه الأرض كان هو الأكثر صمتا"..." وربما لم يكن يلزمه  إلا الثقة بالنفس ليكون هاديا للإنسانية). واضح طابع الفخفخة والإطراء الفارغين، والتحوير بل والتزييف في هذا الكلام. غير أن ذلك  سيشكل –للأسف - المداميك الأولى في الهيكل الذي سيفلح ماكس برود في تشييده لفرانتس كافكا وقد ساعدته على القيام ذلك عدة عوامل لعل من أبرزها: أن كافكا مات معزولا ومجهولا من قبل النخبة المثقفة والأدباء الشيك وقبل أن تنشر أعماله وقد ساعد على ذلك ندرة معارفه الآخرين إضافة إلى موته المبكر بعد مرض طويل. وفي روايته البائسة يطلق برود أكذوبته التي ستكون الأساس لمجموعة فظة من الأكاذيب التي ستترى فيزعم بان غارتا/ كافكا طلب من نوي/ برود ان يكون وصيا على نتاجه الأدبي ولكن بشرط غريب وهو أن ينفذ رغبته الأخيرة بأن يمزق ويحرق كل شيء كتبه. والسؤال البسيط الذي يدحض هذه الكذبة هو، ما حاجة رجل يموت إلى وصي يطالبه بتدمير كل شيء أنتجه؟ ولماذا لم يدمر كافكا نتاجاته كلها بنفسه قبل أن يموت؟ هل أصيب بالشلل؟ لا توجد مؤشرات إطلاقا على ذلك، وليس مألوفا ان يصاب مريض السل بهذا العارض. ثم لماذا واصل كافكا الكتابة وتنقيح ما كتب حتى أيامه الأخيرة إذا كان قد قرر فعلا إحراق وتدمير نتاجه الأدبي؟

 

في الواقع لقد عمل كافكا نفسه على تنقيح وضبط أغلب أعماله في سنواته الأخيرة، وأهمل و أو عدل أو حذف بعضها الآخر، ولكنه لم يتمكن من إنهاء هذه المهمة، حتى أنه لم يكمل روايته المهمة والتي يصفها النقاد بأنها أكثر رواياته تفاؤلا " أمريكا " ونشرت ناقصة ، لتفاقم خطورة حالته الصحية، ولأنه لم يكمل مهمة مراجعة أعماله فربما  يكون قد طلب من صديقه برود أن يحرق بعض الأعمال الضعيفة وغير المهمة وهذا ما نجد له تأكيدا له في قول كافكا ان روايته المهمة والتي يعتبرها كاملة هي خمسة أعمال ويعددها بالأسماء في إحدى رسائله.

 

يحاول ماكس برود بأكذوبته حول طلب كافكا إعدام كافة نتاجه الأدبي، أن يضفي على نفسه صفات المنقذ، والمخلص لتراث كافكا، لأنه رفض تطبيق تلك الوصية المزعومة، وآثر مخالفة الوصية ونشر أعمال صديقه الأدبية. فكيف فعل ذلك ؟ لقد نشر الأعمال كلها، ولم يستثن حتى رسائله الشخصية ولكن مع مقدمات طويلة بقلمه هو، و شروحات تخدم غرضه وتجرد تلك الأعمال من أي بعد غير البعد الديني الكهنوتي الذي يتعصب له برود ذاته. ثم حول برود عددا من روايات كافكا ومن بينها "القصر" سنة 1953، و"أمريكا" سنة 1957 إلى مسرحيات بذات الطريقة، وألف عدة كتب أراد لها أن تكون " نقدية" ولكن محتواها الديني والظلامي لا يخفى على أحد، ولعل عناوينها تبوح بمحتوياتها كما ذكرنا قبل قليل.

 

 لقد فعل ماكس برود كل ذلك بشراسة لا تخفى، وبروح مقاتل فعلا، وبغياب أي شخص آخر يمكنه ان يفند أو يشكك في أفعاله وأقواله لجملة الأسباب التي ذكرناها، حتى نحج في تكريس "كافكاه " الخاص. نعني: كافكا المفكر الديني المتعصب، والمؤيد للصهيونية، كافكا ذا الأدب السوداوي الجهنمي المريض الداعي إلى الموت واليأس والعدم والإحباط! لقد أفلح ماكس برود أخيرا في تأسيس ما يسميه كونديرا " الكافكاوية KAFKOLOGIE " أو علم الكافكاوية الذي يقوم على أساس الخطاب التحويلي المقصود والذي يستهدف تحويل كافكا وأدبه إلى الصورة الشوهاء التي يرسمها له هذا العلم ذاته ليس كما هو في واقعه وواقع وتضاعيف نثره المنجز بل من خلال تمريره عبر "فلتر/ مصفاة" ماكس برود الانتقائي والمغرض.

 

[1] - السيمياء هو العلم الذي يدرس حياة العلامات " اللغوية غالبا " وأنظمتها ، وقوانين نشاطها . وكلمة سيمياء ترجع إلى السميوطيقيا (علم العلامات) أما السميولوجيا فهي مأخوذة من تعريف دي سوسير (1857-1913) حيث قال: من الممكن تصور قيام علم يدرس حياة العلامات داخل المجتمع. تعتبر السيمياء علماً حديثاً مقارنة مع بالعلوم الأخرى، فقد ظهرت في بداية القرن العشرين، و كانت ولادة هذا العلم ثانية مكانيا وزمانيا ، فهي كانت ولادة أوروبية على يد العالم السويسري "دي سوسير" ثم إنها ولادة أمريكية على يد العالم "شارلز بيرس". وهكذا فهي قد شهدت لحظتي ولادة في مكانين وزمانين مختلفين . و قد أشار دوسوسير إلى ولادة علم جديد يدرس العلامات بمعنى أنه  يدرس حياة الدلالات  داخل الحياة الاجتماعية، وهو يطلعنا على ماهية هذه الدلائل وعلى القوانين والشروط  التي تحكمها والتي ستكون قابلة لأن تطبق على اللسانيات .أما العلامة "بيرس " فقد كان يبتكر آنذاك  تصوره  الشخصي والخاص  للسميوطيقيا لكي  تشمل طرق تكوين العلامات  الرامزة وكيفية حلها، حيث أن الأديب يعمد إلى مادة مبذولة ومتاحة  في الحياة اليومية ، وفي وظائف الاتصال اليومي كيما يقيم في داخلها نظاماً فنياً جديداً، يعتمد نظام علامات  موضوعي وجمالي على النقيض تماما من نظام ورموز اللغة والثقافة السائدة والمألوفة .

 

[2] - ص 44 / الوصايا المغدورة / كونديرا ميلان / ترجمة معن عاقل / دار الأوائل دمشق.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.