كـتـاب ألموقع

المهمش- قصة قصيرة// د. ميسون حنا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. ميسون حنا

 

عرض صفحة الكاتبة 

المهمش- قصة قصيرة

د. ميسون حنا

 

نظرت إلى حذائي، إصبع قدمي الكبير صنع فتحة يطل منها على العالم الخارجي، ولا  سبيل لرتقه، أقصد رتق حذائي ، فأنتعله مهترئا ، وأتمنى أن يمتد بقاؤه ريثما أتدبر أمري، هو من أولوياتي التي لا تتعدى أصابع اليد... أجرة منزلي وفاتورة الكهرباء والماء ، وخبز يسد رمقي وهذا الحذاء... في الحقيقة الحذاء أولا ، وحتى أتمكن من تسديد مستلزماتي يلزمني راتب سنة كاملة من العمل المستمر، لكن الفواتير ستتراكم، ولن يصبر علي صاحب البيت، سيطالبني بالتسديد أو يطلب مني إخلاء المنزل. أنا في الحقيقة أستأجر غرفة فوق سطح إحدى العمارات، وشقتي هذه تتسع لي، ولفتاة أحلامي، قد تتساءلون عمن تكون... هي شبيهة سندريلا ، وأجمل من شهرزاد ، تكاد تكون في عظمة كليوباترا، وفتاة تحمل هذه المواصفات حتما تعيش في مخيلتي فقط، عندما أغمض عيني أراها ، الوصول إليها أسهل ألف مرة ، فهي ستقبلني بلا مهر أقدمه لها ، وسترضى بسكني المتواضع هذا، ولن تطالبني بكسوة وحلي ، فأنا أراها ترفل في ثوب براق وحلي كثيرة ، وعندما أمد يدي لأصافحها تختفي وأفتح عينيّ ولا أرى غير الفراغ ، وأرتضي بتلك الزيارات الخاطفة التي تترك أثرا يسعدني ويرضيني بقية ساعات يومي ريثما يتسنى لي لقاء آخر.  لكن اليوم وأنا منهمك بقلي حبات الفلافل في المطعم المتواضع الذي أعمل فيه ، أتت فتاة مليحة متوردة في عينيها بريق أخاذ، وطلبت أن تشتري الفلافل ، نظرت إليها ، ومن حيث لا أدري وبسرعة عجيبة عقدت مقارنة بينها وبين فتاة أحلامي فوجدت الفرق شاسع.  ولكن عصفور باليد ولا عشرة على الشجرة ، وهذه الفتاة عصفور حط على غصني ، وخصوصا أن حذاءها مهتريء كحذائي، فليتحد الحذاءان إذن، ولكن كيف؟ ابتسمت وأنا أنظر إليها ، ابتسمت بدورها، مما شجعني ، وزدت حبتين من الفلافل وضعتهما في المغلف وناولته لها، نظرت إلي بامتنان وغادرت ، وعندما عدت إلى منزلي أستحضرتها في مخيلتي فتاة رثة الثياب، بحذاء مهتريء... عز الطلب، في الحقيقة تغيّرت مواصفات فتاتي لم تعد ترفل بثوب براق بل هو ثوب بسيط، كما أنها جرداء من الحلي وملاحتها لا ترتقي إلى ملاحة كليوباترا او سندريلا لكنها جميلة، خلاصة القول سحبتني إلى الواقع الذي أبعدتني عنه فتاتي الأولى ، وأنا بطبيعتي قنوع ظروفي تجبرني على القناعة   بأقل القليل حيث أنه المتاح ، إذا كان متاحًا ، وفتاتي هذه مسحوقة مثلي تمامًا ، لن تطالبني بمهرً غال، صحيح أن فتاة أحلامي الأولى لن تطالبني بمهر إطلاقا لكن فتاتي هذه سترضى بالقليل ، وعلى الأغلب ستقبل بي على علاتي، نظرت إلى حذائي ، وقلت مع ذلك علي أن أستبدله بحذاء آخر لأقابل أهلها بثقة ، سأفعل ذلك.  في أقرب فرصة.  ذهبت إلى عملي في اليوم التالي ، أنتظرً قدومها لأفاتحها بالموضوع، لكنها لم تأت ،طال غيابها، ومع مرور الأيام ، أصبحت تدور في مدارات أحلامي ، ولكني  لن أسمح لها أن تتحول إلى حلم ، هي واقع وحقيقة ، وأقنعت نفسي أنها ستأتي ... ستأتي ... حتما ستأتي ، علي الانتظار فقط ، كدت أيأس،  لكن الله ودود رحيم إذ أقبلت فتاتي لتشتري الفلافل ، لمحت شخصا يرافقها لعله أخوها كان مديد القامة ، مفتول العضلات، رث الثياب ، انشرحت لرؤيته ، فهو من طينتي ، سلمت عليه بحرارة  ، نظر إلي مندهشا ، بينما فكرت مع نفسي ... لعلها أدركت مرادي  فأتت برفقته لتتيح لنا التعارف.  نظرت إليه باشا ، وأحضرت له طلبه وناولته إياه ودعوته لزيارتي.  نظر إلي بذهول واستغراب، فكرت … ربما ينتظر أن أطلب زيارته فحقه أن أبادر أنا إليه، قلت: في الحقيقة   يشرفني أن أزورك في بيتك، ونظرت إليها وابتسمت ، فغضت بصرها وأطرقت مما زادني إعجابا بها ، بينما نظر إلي الرجل حانقا، وغادر بجلافة ، مما جعلني أكتئب. قلت : لعلها لم تفاتحه بالموضوع، أنّا لها أن تفعل وأنا لم أتحدث معها ولا حتى لمحت بمرادي   ولكن للعيون لغتها ، وأظنني حمّلت نظراتي بما يكفي  من حلو  المعاني ... انتظرت سانحة أخرى.  في الحقيقة ، هي لم تغادرني ، إنها تحوم حولي ، أو هكذا يتراءى لي وأنا مسترخ ، مغمض العينين، فأراها تقتحم عالمي وأدرك أنه محض خيال ، ولكنه  خيال يخلٍو من وهج الأحلام ، أنا حريص أن أنزع عنه بريق الأحلام ... ما علينا ، اشتريت حذاء من سوق البالة كبادرة تهيؤني للقاء متوقع. طال غيابها … قلت علي أن آسدد فاتورة الكهرباء لأهيء لها مقاما آمنا  وفعلا سددت فاتورة الكهرباء والماء ، بقيت أجرة  ثلاثة شهور لمنزلي ، وعندما فكرت بذلك شعرت بالخيبة ولكني لن أستسلم ، أصبحت بعد دوامي في المطعم أبحث عن عمل إضافي ، ثم وجدتني أتعهد بغسيل السيارات في الشارع الذي أقطنه مقابل خمسة دنانير شهريا للسيارة الواحدة ، وهكذا كنت في الليل أغسل السيارات ، وفي الفجر أهرع إلى المطعم.  سددت أجرة منزلي ، لكنها لم تأت وأنا صبور ... صبور … إيه … أخيرًا أقبلت ، كان بطنها منتفخا ، نظرت إليها بذهول ، هي امرأة حامل ، إذن كان ذاك الذي رمقني بعداء زوجها ، تبسمت ابتسامة واهية، ونظرت إليها بخجل وكأنني اعتذر ذنبا لم أقترفه ، أعتذر عن سوء طالعي ، ناولتها الفلافل وواصلت يومي بفتور.  في المساء عدت إلى منزلي وأغمضت عيني لأستحضر فتاتي ألحلم ، حبي الأول ، شبيهة سندريلا ، لكنها لم تستجب ، ولم تقبل اعتذاري ، ولم تغفر خيانتي ، غادرتني … رحلت بلا عودة ، لم أعد قادرا  على استحضارها. خسرتها... خسرت حلما كان يسعدني.  قتلته ببساطة عندما أردت أن أقحمه إلى واقعي، والواقع والحلم لا يلتقيان. أحدهما عدو صاحبه، بل قاتله.فما بالك عندما ينتحر الضدان، أنا الآن أشعر بالضياع… الضياع.