كـتـاب ألموقع

جوع- قصة قصيرة// د. ميسون حنا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. ميسون حنا

 

عرض صفحة الكاتبة 

جوع- قصة قصيرة

د. ميسون حنا

الأردن

 

جلس صاحبنا يتأمل نتائج بحثه عما يسببه هذا الوباء من خسائر مادية ومعنوية، وأجرى إحصاءاته وراجع بياناته التي عمل عليها طاقم كبير ، وما عمله إلا فرز لأدلتهم واستقصاءاتهم ، فكر مع نفسه كيف يجبره هذا الكائن الصغير الذي لا يرى بالعين المجردة لكل هذا الحذر والتقصي ، إنه يتوارى خلف قناع أو كمامة ويدس يديه في قفازات كذلك عندما يتطلب منه عمله الخروج إلى الشارع حيث أنه مصرح له التحرك أحيانا عندما تقتضي الضرورة لذلك .

     في الواقع هو يتوارى من كائن دقيق ، غير ظاهر للعيان ، لكنه يرى فتكه في هزيمة أوقعها ، في فقد حبيب أهلكه ، في مؤسسة لم تدمرها قنبلة أو قصف أو سلاح كما اعتدنا أن نشهد الإعتداءات على بلادنا من قبل متطرفين أو محتلين ، لكن هذا العدو الضئيل ... الكبير ... يجبرنا أن نجمد أعمالنا في مؤسساتنا وإلا فتك بنا ، فنغلقها ونتوارى في بيوتنا ، وأحيانا قد يكون هناك شخص محجور عليه ، وتشاء الصدفة أن تجعله أحد أفراد أسرتنا فيحتجب عنا في غرفته ، ولا نتواصل معه إلا عبر الهاتف مثلا ، وأي تصرف غير مدروس في التعامل معه يتسلل هذا الخفي إلينا ، ونراجع حساباتنا مع أنفسنا لنكتشف كيف وصل إلينا الوباء .

خلاصة القول عندما ترى عدوك في كامل عدته وعتاده يحاربك ، تدرك أنك أمام تحد كبير فتشتبك معه، إما أن يهزمك أو تهزمه ، ومهما كانت النتيجة فأنت ملم بأبعادها ، إذا هزمته سجلت انتصارك ، وإذا هزمك سترسم خطتك لهجوم معاكس يتيح لك فرصة الإنتقام ، أما هزيمتك أمام عدو خفي تقلب الموازين أمامك ، إذ أن هزيمتك تكون أشد إيلاما حيث لن يتسنى لك الإنتقام المحسوس الذي يشفي غليلك .

بينما كان صاحبنا يتخبط مع أفكاره إذ سمع جرس المنزل يرن ، استغرب من يكون القادم إذ أن حظر التجول مفروض على الجميع ، لا بد أن يكون أحد سكان العمارة ، تكرر الرنين مما جعل صاحبنا يفتح الباب ليفاجأ برجل في أواسط العمر ، نظر إليه مستغربا ثم قال : لست من سكان العمارة يا هذا ... من أنت ؟

-أنا ... أنا ...

-كيف خاطرت بخروجك من منزلك والحظر قائم ؟

نظر إليه الرجل بصمت بينما بادر صاحبنا : ما بك ؟ فقدت النطق ؟ أم هو أسلوب جديد لجذب الإنتباه ؟ قال هذا وضحك ضحكة قصيرة ثم أمعن النظر بالرجل الذي كان يقف مرتبكا ، محتفظا بصمته ، قال صاحبنا : هيأتك لا تدل على أنك شحـ ...

سالت دموع الرجل بصمت ، بينما نظر إليه صاحبنا باهتمام ثم قال بلهجة نادمة : يبدو أني تسرعت في الحكم عليك .صمت لحظة ثم قال : أنا على يقين أن وراءك حكاية .

-أنت لم تتسرع ... أنا قصدتك سائلا ، أنا للأسف أقف ببابك شحاذا الآن ... هذا هو الواقع وإن كنت كارها له .

-كيف خطر لك أن تمارس مهنتك في ظرف كهذا ؟

صرخ الرجل : ليست مهنتي ، ثم أجهش بالبكاء . نظر إليه صاحبنا بصمت وانتظار وقد لامس قلبه شفقة عليه ثم قال : لا بأس ، يبدو أني تسرعت مرة أخرى ، أعذرني ولكن ...

تمالك الرجل نفسه وقال : لست شحاذا ، ولا أحفظ عبارات تُتلى لاستدرار عطفك وشفقتك ، قال هذا وأطرق بصمت ، قال صاحبنا : وفر عليك عناء الحديث ، ودس يده في جيبه ومد نحوه ورقة نقدية مما جعل الرجل ينظر إليه بقلق وسخط وارتباك وغضب ، تراجعت يد صاحبنا وهي ممسكة بالورقة النقدية ثم قال : خفف عنك ... أنا على يقين الآن أنك لست شحـ ...

قال الرجل منفعلا : أنا عامل مياومة ، والعمل متوقف ، انقطعت بي السبل ، ونفد المال القليل الذي كان بين يدي ، وأسرتي تتضور جوعا فقصدتك ثم استرسل بانفعال : أنا لم أقصد بيتك بالذات عن دراية بك ومن تكون ! لكن بيتك أول بيت أقصده ، لماذا ؟ لا أدري ، هي الصدفة التي قادتني إليك ، وجعلتني أقف ببابك ذليلا ، ثم صرخ : أنا شحاذ ، أمارس هذا العمل للمرة الأولى .

-لكن ... ونظر صاحبنا إلى الورقة النقدية في يده :أنت رفضت ... أو هكذا هُيء لي أنك ...

-نعم رفضت ... أنا أريد طعاما ، خبزا ، أنت قلت الحظر قائم ، وماذا ستنفعني الدنانير والسوق مغلق ؟... أنا بحاجة لطعام .

-لكن قدومك فيه مخاطرة كبيرة ، أين تسكن ؟

-في الشارع المحاذي لشارع بيتك .

-كيف تسللت إلي ؟

-عميت العيون عني ... لطف الله .

-ولكن قد يعتقلونك .-

-يكون فرج لو فعلوا هذا ، إذ سأجد ما يسد رمقي لهذا اليوم ، ثم قطب فجأة وقال : أعرف أن جوابي فيه أنانية لا أغفرها لنفسي .

-كيف ؟

-قلت لك تركت أسرة جائعة تنتظر .

أدخل ، سأقدم لك شيئا من الطعام .

نظر إليه الرجل باستنكار وغضب ودهشة ، استدرك صاحبنا وقال : سأعطيك شيئا لأهل بيتك ،" لا تقلق ، اعذرني لقد أسأت إليك .

-لا بأس ، لا بأس ... أنا أسامحك ، فقط هات الطعام الآن فأطفالي جياع .

أعطاه صاحبنا ما تيسر من طعام موجود في بيته ، تناوله الرجل بلهفة وفرح ثم غادر  مسرعا ولم يبال بنداء صاحبنا له ليعرف بيته ومن يكون ليرشد إليه ذوي الشأن لمساعدته . أغلق صاحبنا الباب وتوجه للنافذة ليتعقبه بنظراته ، لكنه لم يره ، ولا يعرف ماذا سيحل له في قادم الأيام ، هو يعلم شيئا واحدا، يعلم أنه أمام هزيمة من هزائم هذا الكائن الخفي ، هزيمة مكرورة في كثير من البيوت ، تنهد صاحبنا والتفت إلى جهاز الكمبيوتر ليتابع عمله بصمت واكتئاب .