اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

المانيا: مارتن لوثرــ بحث تاريخي// سامي مدالو

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

سامي مدالو

 

 

المانيا: مارتن لوثرــ بحث تاريخي

سامي مدالو

 

ملاحظات اولية لا بدّ منها

بالطبع ليس خافياً علينا، بأننا قد نلمس حديداً ساخنأ بتناولنا لهذا الموضوع الحساس. لذا نود التأكيد قبل البدء، بأننا سنحاول قدر الامكان بحث هذا الموضوع من ناحيته التاريخية. الا اننا، ان شئنا ام ابينا، سوف لا نستطيع تجنب الامور الدينية. والاّ ما معنى، او بالاحرى ما فائدة الحديث عن لوثر بدون التطرق الى الاسباب الدينية التي ادت في نهاية المطاف الى تأسيس كنيسة مسيحية ثانية بجانب الكنيسة الكاثوليكية؟ ونود كذلك التأكيد، باننا سنعتمد في مقالنا هذا حصريّاً على المصادر التاريخية الالمانية، لكون لوثر المانيّاً ابّاً عن جد، وُلدَ وترعرع وقضى حياته كلها في المانيا.

 

لسنا راغبين بالاسائة الى طائفة ما، او الثناء على طائفة اخرى. كما وليس هدف هذا البحث التاريخي المقتضب، محاولة للدعاية أوالتبشير بما دعى اليه لوثر. فنحن واثقون من ان الوضع الحالي للكنيسة الكاثوليكية لا يمكن تشبيهه قطعاً بوضعها في العصور الوسطى في اورپا. وهذا يعني بالطبع، بأن كل ما سيذكر هنا عن الكنيسة الكاثوليكية، يخصها فقط في تلك الفترة في اورپا، اي لا يجوز بأي حال تعميمه عليها لفترات وأماكن اخرى. حيث قامت بمرور الزمن، متأثرةً بافكار ناقديها من امثال لوثر وغيره، او باجتهاد ذاتي، باصلاحات عديدة. وشخصية الپاپا الحالي فرانسيسكوس (فرنسيس) وتواضعه وتصرفاته خير دليل على ذلك.

 

تعمّدنا بكتابة أسماء الاشخاص وأسماء المدن بالاحرف اللاتينية إضافةً الى العربية، لتسهيل المهمة للقراء الراغبين في البحث حول هذا الموضوع في الانترنت او في مصادر أخرى مكتوبة بالأحرف اللاتينية.

 

مقدمة

احتفلت الكنائس الپروتستانتية/ الانجيلية في جميع انحاء العالم في عام 2017 بمرور 500 سنة على تأسيس كنيستهم. ففي 31 من تشرين الاول/ اكتوبر عام 1517 ارسل الپروفسور في علم اللاهوت في جامعة ڤتّنبرگ (Wittenberg)، الكاهن الكاثوليكي الالماني مارتن لوثر (Martin Luther)، رسالة الى رؤسائه الكنسيين (والى عدد محدود من الاصدقاء)، محتجاً بها بشدة على بعض ممارسات الكنيسة، خاصة في موضوع "صكوك الغفران"، ومطالباً بالكف عنها. وأرفق برسالته هذه تلك الـ 95 اطروحة/ فكرة (Thesen) الشهيرة، معبراً بها عن رأيه وقناعته، كقواعد اساسية  للنقاش والجدال الذي توخاه بهذا الخصوص، والذي كان مألوفاً آنذاك.

 

إلاّ ان الكنيسة الكاثوليكية لم ترفض مقترحاته فحسب، بل بدأت بمحاربته فكرياً، محاولةً اجباره على ان ينقض افكاره ويتخلى علنيّاً عنها. فرفض لوثر الانصياع لتهديدات رئاسة الكنيسة بسبب قناعته المطلقة من صحة افكاره التي توصّل اليها بعد دراسته المعمقة للانجيل، وتأكده من المسار الخاطئ للكنيسة المخالف لتعاليم المسيح، وبالاخص فيما يتعلق بموضوع الغفران والتبرير.

 

ان هذا التاريخ (31/10/1517) يعتبر رمزاً لبداية التصدّع في الكنيسة الكاثوليكية، الذي انتهى، كما نعلم، بتأسيس كنيسة مسيحية اخرى. ان هدف مارتن لوثر الاساسي لم يكن، كما تؤكّده جميع المصادر التاريخية الالمانية المتاحة، الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، بل اصلاحها وارجاعها بحسب قناعته الى جذورها، الى تعاليم الانجيل، أي الى تعاليم مؤسسها يسوع المسيح.

 

تمثال لمارتن لوثر في مدينة ڤتّنبرگ، ماسكاً الترجمة الالمانية للانجيل بيديه

 

ولكن من كان ذلك الكاهن المجهول، الاستاذ في علم اللاهوت في مدينة ڤتّنبرگ الصغيرة والغير المهمة، الواقعة في شمال شرق المانيا، الذي تجرّأ بتحدي رؤسائه واخيراً حتى الپاپا والقيصر؟ إن ذلك الكاهن، الذي قام في نهاية المطاف بتأسيس كنيسة جديدة بسبب فشله في اصلاح كنيسته الكاثوليكية وتعنّت رؤسائها في نهجهم، لم يغير مجرى الحياة الدينية في المانيا فحسب، بل كان له تأثيراً كبيراً على الحياة الدنيوية، من نواحيها الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية حتى يومنا هذا، ليس في المانيا فقط. أن لوثر دخل التاريخ عن غير قصد ان صح التعبير، فلم تكن نيته الثورة ضد الكنيسة أو تأسيس كنيسة منافسة، بل اصلاح كنيسته الكاثوليكية.

 

لوثر التلميذ والطالب

وُلد مارتن لوثر في 10 تشرين الثاني/ نوڤمبر من عام 1483 ككاثوليكي روماني، في مدينة آيسليبن (Eisleben) الالمانية، التابعة آنذاك لـ "الامبراطورية الرومانية المقدّسة للامة الالمانية". كان والده فلاحا في بداية الامر، تمكن بذكائه واجتهاده ان يصبح شريك في منجم صغير للنحاس، وأحد وجهاء مدينة مانسفلد (Mansfeld)، التي انتقلت اليها العائلة بعد ولادة مارتن لوثر بفترة قصيرة. داوم مارتن لوثر في المدرسة الابتدائية اللاتينية في مانسفلد، ذات النظام التدريسي الصارم، كما كان معتاداً في تلك الفترة الزمنية. تعلم هنا القراءة والكتابة والحساب والغناء والمبادئ الاساسية للّغة الاّتينية. وُصف مارتن لوثر من قبل معلميه، كتلميذ موهوب، ولكنَه هادئ وخجول ومنطوي على نفسه.

 

ارسله ابويه في عام 1498 الى مدينة آيزيناخ (Eisenach) للسكن عند اقربائه والدوام في مدرسة الابرشية، حيث تمكن هنا من اتّقان اللغة اللاتينية كتابةً وتكلّماً. وبسبب ذكاء لوثر والحالة المالية الجيدة للعائلة، ارسله والده في عام 1501 للدراسة في جامعة ارفورت (Erfurt)، آملاً ان يحصل الابن الموهوب على شهادة في القانون، تؤهله لبناء مستقبلاً جيداً. فنال في عام 1505 شهادة الماجستير في الدراسة الاساسية الضرورية في العصور الوسطى  للبدء في دراسة القانون او الاختصاصات الاخرى. تضمنت هذه الدراسة مواد عديدة مثل القواعد اللغوية للالمانية واللاتينية، البلاغة، الرياضيات، الهندسة، الديالكتيك، الموسيقى وعلم الفلك.

 

لوثر الراهب (1505ـ1511)

عوضاً عن دراسة القانون، التي تركها بعد عدة اشهر من البدء بها، اصبح لوثر في عام 1505 راهباً. ولكن لماذا هذا القرار الذي يبدو مفاجِئاً للوهلة الاولى؟  يحكى ان عاصفة رعدية فاجئته في 2 تموز من عام 1505 وهو في طريقه وحيداً من دار والديه الى محل دراسته. فأنيرتْ الليلة المظلمة فجأةً بسبب الصواعق التي حولتها الى نهار مضيئ. واذا ببرق يضرب بجواره، فأنتابه الفزع والخوف من الموت القريب. ولكونه شديد التديّن، بدأ حال سقوطه على الارض، يصلي بصوت عالي، راجياً من القديسة حنّة (ام مريم العذراء) ان تنقذه، متعهداً ايّاها بدخول سلك الرهبنة، ان تحقّقَ ذلك ونجا من الموت.

 

وبالفعل، بدأ لوثر حياته كراهب عام 1505 في ارفورت  في دير القديس اوغسطين للرهبان الشحاذين بالرغم من غضب والديه واستغراب اصدقائه، الذين عرفوه كشخص منفتح على الحياة الدنيوية بالرغم من ايمانه العميق. ادّى لوثر في عام 1506 النذر الرهباني. كانت الحياة الرهبانية في ذلك الدير قاسية للغاية، تركزت على الصوم والصلاة والعمل. فكان مثلاً موعد الصلاة الاولى الثالثة صباحاً. إن هذه الحقبة الزمنية تركت انطباعاتها على لوثر، حيث وجد هنا الهدوء والوقت الكافي لدراسة معمّقة للكتاب المقدس، التي كانت لها تأثيراً كبيراً على اعماله اللاحقة ومؤلفاته.

 

لوثر الپروفسور (1512 ـ 1517)

لفتَ لوثر بذكائه واجتهاده نظر رئيس الدير، فرُسم في عام 1507 كاهناً كاثوليكيا (كان ذلك ممكناً في العصور الوسطى بدون دراسة اللاهوت). ثم اُرسل في نفس السنة لدراسة علم اللاهوت في جامعة ڤتّنبرگ (Wittenberg)، التي تضمنت دراسة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد بمصادره الاصلية المتاحة آنذاك، العبرية واليونانية. حاز على شهادة الدكتوراه في علم اللاهوت عام 1512، وعيّن مباشرةً استاذاً في علم اللاهوت في نفس الجامعة. تميزت هذه الفترة بصراع لوثر النفسي والذاتي للتوصل لصلب الحقيقة والتخلص من الشكوك التي رافقته طوال عمره، اذ كان يعتبر نفسه غير جدير بنيل رحمة الله، ممّا دفعه ضميره الى الكآبة في احيان كثيرة. فبقي يبحث بتلهّف على جواب مقنع لأهم سؤال اشغله منذ سنين، وهو:

 

ما هو المهمّ حقّاً لنيل رضا الله ورحمته؟

عثر لوثر اخيراً الجواب على سؤاله هذا خلال دراسته المعمّقة لرسالة الرسول بولص الى اهل روما (رومية 17:1)، التي كانت احدى مواضيع محاضراته:

 

"لأن فيه (اي في الانجيل) معلن بر الله، الذي يأتي من الايمان ويؤدي الى الايمان، كما هو مكتوب: البار يحيا بالأيمان"

 

فَهِمَ لوثر من هذه الجملة، بأنه من غير الممكن اكتساب رحمة الله بالاعمال التي يقوم بها الانسان، بل هي بالاحرى هبة يمنحها الرب بنعمته لمن يمارس الايمان، اي الايمان بالمسيح، وبالايمان وحده. والاعمال الصالحة تنبع بدورها من الايمان. كانت هذه بالنسبة للوثر "المعرفة الحاسمة"، او "الباب الى الفردوس" كما سمّاها هو بعدئذ. وجد مقاطع اخرى في الانجيل تؤكد اكتشافه هذا، بل ولم يعثر بالمقابل على ما يعارضها. وفي عام 1514 عيّن لوثر واعظاً في كنيسة ڤتّنبرگ.

 

الاطروحات والعواقب (1517 ـ 1519)

كان لوثر مسيحياً شديد الإيمان ولاهوتياً واسع العلم والثقافة. ويوماً بعد يوم تنامت لديه الشكوك في مصداقية تعاليم الكنيسة. فكيف يمكن للمرء أن يشتري خلاص روحه بالمال؟ بعد قرائته لتعليمات جديدة صادرة من رئاسة الكنيسة لبائعي صكوك الغفران، قرر لوثر في 31/10/1517 ارسال رسالة احتجاجيّة الى رؤسائه الاساقفة والى عدد قليل من اصدقائه، مرفقاً بها اطروحاته الشهيرة. لم تكن هذه هي المرة الاولى التي ينتقد بها لوثر بيع صكوك الغفران وممارسات سلبية اخرى للكنيسة حسب قناعته، بل كان  قد انتقدها وندّد بها مراراً في وعاظه في الكنيسة. فبدلاً من شراء العفو عن الخطايا بالمال، ينبغي على المرء أن يظهر للرب الندم الحقيقي في قرارة نفسه.

 

إن ما قرأه الآن كان كقطرة الماء التي تؤدي الى طفح الاناء، كما يقال. وما يحكى عن استعماله لمطرقة ومسامير ليعلن بها اطروحاته بضربات قوية على الباب الخشبي لكنيسة ڤتّنبرگ، قد تكون على الارجح من الاساطير العديدة التي تحكى عن لوثر لغاية اليوم، بالرغم من وجود لوحات فنية عديدة لذلك الحدث، رسمت كلها بعد وفاته. تمحورت الاطروحات بالدرجة الرئيسية حول موضوع الغفران والتبرير ومدى صلاحية رجال الدين وعلى رأسهم الپاپا من العفو عن بعضها او الغائها، بالمال او بدونه. (انظر الملحق الثاني: بعض اطروحات لوثر المختارة في نهاية البحث).

 

يحكى ان لوثر اعلن بهذا الشكل اطروحاته على الباب الخشبي لكنيسة ڤتّنبرگ

 

لم يتوقع لوثر بالطبع رداً سريعا من رؤسائه الكنسيين، اذ كان يعتبر اطروحاته كأساس لنقاش مبدئي. الا ان نسخاً منها طبعت ـ بعلمه او بدونه ـ في مدن عديدة منها لايبزيگ (Leipzig) ونورنبرگ (Nürnberg) الالمانيتين وبازل (Basel) السويسرية. فنالت من جهة موافقة عارمة من بعض المثقفين والنبلاء، ومن جهة اخرى جابهها الرفض القاطع من قبل اطراف عديدة في الكنيسة الكاثوليكية، وبالاخص من قبل مسؤول الواعظين بشؤون صكوك الغفران تيتسل (Tetzel)، الذي تمنى للوثر الحرق على الحطب، كالمألوف للمهرطقين آنذاك.

 

لم يكن رد فعل الاساقفة الالمان عنيفاً في بادئ الامر، بل اكتفوا باخبار الپاپا عن "المتمرد" في صفوفهم، وقاموا بايعاز المشرفين المباشرين عليه بالتأثير عليه وحثّه على الاعتدال. وادراكاً من بعض الاساقفة من صحة بعض الاخطاء التي ندّد بها لوثر في اطروحاته، رحب بعضهم في البداية بمقترحاته.

 

الكنيسة الكاثوليكية خلال العصور الوسطى (500 م ـ 1500 م)

بعد انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية، تولت الكنيسة الكاثوليكية القيادة في محلها. فما لا نستطيع تصوره اليوم، كان جارياً واعتياديّا في العصور الوسطى. فكانت للكنيسة السلطة المطلقة لا في الامور الدينية فحسب، بل في الشؤون الدنيوية ايضاً، تضع الخطوط الحمراء للمفكرين والعلماء، التي لا يجوز اجتيازها مطلقاً. غاليليو غاليلي مثلاً، اجبرته الكنيسة على نقُض افكاره بكروية الارض، بحجة انه يناقض نصوص الكتاب المقدس، والاّ لكان مصيره الحرق.

كان الناس في تلك الازمنة شديدي الايمان، يخشون بالاخص نار المطهر (Fegefeuer) الحارقة، التي يتوجّب على كل شخص تذوّق مرارتها بعد الوفاة. فأستغلت الكنيسة ايمان البسطاء وخوفهم من المطهر، فقامت ببيع صكوك الغفران المشبوهة لهم، لتغفر خطاياهم وتنجيهم من تلك النار الأبدية. وطمعأ من الكنيسة في جباية اموال اضافية، زعمت بامكانية طلب الغفران ايضاً للموتى وتخليصهم من نار المطهر، ان اشترى لهم اقربائهم صكوك الغفران.

 

بيع صكوك الغفران: نحت على الخشب، لوحة من القرن السادس عشر

 

لم يكن لوثر الناقد الاول أو الوحيد للكنسية الكاثوليكية في تلك الازمنة. بل سبقه بمئات السنين نقّاد مميّزين ومشهورين، تَذكُر المصادر التاريخية اسماء بعضهم:

 

 الفرنسي  پيير ڤالدو (1140– 1217) Pierre Valdo

الانكليزي جون ويكليف John Wyclif  (1300-1384)

 التشيكي جان هوس  Jan Hus  (1370-1415)

 

 وغيرهم من هم اقل شهرة منهم. كان القاسم المشترك لكل هؤلاء، إعتبارهم الانجيل المصدر الوحيد للايمان وليست الاوامر والقوانين الكنسية. بالاضافة الى انتقادهم الشديد لأساليب الاكليروس الكنسي في ادائهم تجاه الرعيّة، وإمكانية شراء المناصب الدينية، بدءاً من الكاهن البسيط وصعوداً الى الاسقف والكاردينال.

 

قام كثيرون من هؤلاء المصلحين بترجمة الانجيل الى لغاتهم المحلية، كي يفهمه عامة المؤمنين. وثمة مصلحون اخرون، عاصروا لوثر وقاموا ايضاً ـ باستقلالية عنه ـ  بانتقاد المؤسسة الكنسية. من اشهرهؤلاء الفرنسي کالڤين Calvin (1509ـ1564) والسويسري تزڤنگلي Zwingli (1484ـ1531)، حيث توجد لحد اليوم كنائس پروتستانتية تتبعهما. والمجال لا يسمح لنا هنا بذكر نقاط التشابه او الفروق بينهم وبين لوثر.

 

و "إراسموس من روتردام" Erasmus von Rotterdam (1466-1536)، الذي راسل لوثر، يعتبر كذلك من المصلحين الكبار ومنتقدي الكنيسة الكاثوليكية، لكنه لم يرغب أو لم يجرؤ الانفصال عنها، آملاً امكانية حل الخلافات بالنقاش. واليوم يعتير إراسموس من روّاد الحركة الانسانية الاورپية، حيث تسمّى بأسمه شوارع ومدارس ومؤسسات في بلدان اورپية عديدة. وباسمه ايضاً سمّيَ اكبر برنامج في العالم للزمالات من تمويل الاتحاد الاورپي، مُنحت بموجبه لحد الان اكثر من مليون زمالة للدراسة في جامعات بلدان الاتحاد الاورپي، بشرط ان لا تكون واقعة في بلد طالب الزمالة.

 

انّ جميع هؤلاء النقّاد اصطدموا في النهاية بالمؤسسة الكنسيّة ودخلوا معها في صراعات خطيرة، فقدَ بعضهم حياته بسببها.  فـ"جان هوس" التشيكي المذكور اعلاه، اتهمه المجلس الكنسي بالهرطقة واُحرق حيّاً في عام 1415 في مدينة كونستانس (Konstanz) في جنوب المانيا، بالرغم من إعطائه ما سمّي آنذاكَ بـ "الممرّ الآمن". واذا تمعنّا بتاريخ هذا العقاب الغير الأنساني والمخالف للمبادئ المسيحية، فسنرى بأنه حدث 102 سنة قبل ان يعلن مارتن لوثر عن اطروحاته الشهيرة في عام 1517.

 

حرية الانسان المسيحي

اذن كان هناك الكثيرون ممن سبقوا لوثر ومهدوا لأفكاره، إلا أنه تمكن من البروز والتقدم بفضل شخصيته ومهارته في جذب الانتباه إليه في مختلف أنحاء أوروبا، مستفيدا من الظروف الموضوعية السائدة آنذاك، فانتشرت أفكاره بسرعة فائقة. وبحدود عام 1520 كان لوثر قد اصبح معروفاً على نطاق المانيا وبلدان اورپية اخرى. ومن اهم العوامل التي ساعدت على شهرته الاعلامية الاستثنائية وتقبل افكاره، بالاضافة الى شخصيته المتميّزة هي:

 

ـ سهولة طبع الكتب بفضل اختراع گوتنبرگ (Gutenberg) بالطباعة بالحروف المتحركة

ـ رغبة العديد من النبلاء التخلص من سلطة الكنيسة المهيمنة دينيّاً ودنيويّاً

ـ عدم رضا غالبية الناس عن الوضع الاجتماعي السائد والاستعداد للاصلاح السياسي

 

 اصدر لوثر لغاية عام 1520 81 كراساً حول امور دينية، ترجمت معظمها الى لغات اخرى، وصل عدد طبعاتها الى المئات.

 

بعد ان باءت بالفشل جميع محاولات سفير الپاپا بأقناع لوثر بنقض افكاره، هدده الپاپا ليو العاشر شخصيّاً في 1520/6/15 بمرسوم پاپوي بطرده من الكنيسة، ان لم يقم بنقض افكاره ويعلن خطأه علناً في غضون 60 يوماً. وكجواباً على هذا التهديد، كتب لوثر في تشرين الاول من نفس السنة مذكّرته الشهيرة "حرية الانسان المسيحي" وارفقها برسالة الى الپاپا، راجياً منه عدم تصديق ما يشاع عنه من بعض رجال الدين وغيرهم، فكتب: "من شأنهم ان يسيئوا فهم كل ما يُقال لهم وأن يعملوا على إفساده مهما كان ذلك الكلام حسناً". واقترح لوثر عقد مجمع كنسي لبحث افكاره التي شرحها باسهاب في مذكّرته المرفقة وخصم الخلاف بالنقاش.

 

ان مذكّرة "حرية الانسان المسيحي"، التي تقع في 10 صفحات باللغة الالمانية، تعتبر من اهم واشهر مؤلفات لوثر، حيث يشرح بها باسهاب مجمل افكاره، بالاخص ما يتعلق بمواضيع الايمان والغفران والتبرير. فالانسان المسيحي، برأي لوثر، هو من ناحية "سيد حر فوق كل شيء ولا يخضع لأحد"، وهو من ناحية ثانية "عبد خادم لكل شيئ وخاضعاً للجميع". وهنا يقوم لوثر بالتفريق بين الإنسان "الروحي" والانسان "البدني". وبهذا يصبح الإيمان في محور المسيحية، وليست الأعمال والقوانين او الكنيسة كمؤسسة. فالعوامل والعناصر الخارجية، ليست هي المهمة للراحة النفسية، وإنما الإيمان وحده والاعتقاد برحمة (نعمة) الرب.

 

فيقول لوثر مثلاً في الفقرة 23 من مجموع 30 فقرة في نفس البحث:

 

"ان الأعمال الصالحة لا تصنع ابداً رجلاً صالحاً، بل الرجل الصالح هو الذي يعمل الأعمال الصالحة. كما ولا تصنع الأفعال الشريرة رجلاً شريرا، بل الرجل الشرير هو الذي يقوم باعمال شريرة. إذن يقتضي الحال دائماً ان يكون الشخص نفسه صالحاً، قبل ان يقوم بأيّة اعمال صالحة، فتصدر الأعمال الجيدة عن الشخص الصالح" ويستشهد بقول المسيح "لا تستطيع شجرة جيده ان تنتج ثمراً رديئاً، ولا شجرة فاسدة ان تثمر ثمراً جيداً (متى 7 : 8)".

 

اراد لوثر هنا التأكيد على ان البر يأتي فقط بالايمان وليس بالاعمال التي يقوم بها الانسان، ايّاً كان شكلها. وبعد يأسه من عدم تمكنه باقناع رئاسة الكنيسة بتصحيح اخطائها، بل قيامها بحرق كتبه، أحرق هو بدوره علناً المرسوم الپاپوي بحقه وبعض الكتب الصادرة من ادارة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فطرد على اثر ذلك في 1520/1/3 من الكنيسة الكاثوليكية.

 

المثول امام القيصر ـ الرحلة الى ڤورمس

كانت سلطة القيصر في العصور الوسطى دنيوية ودينية في آن واحد، وكانت للكنيسة الكلمة الاخيرة بتعيين القياصرة. نظراً لأهمية وخطورة افكار لوثر على الكنيسة الكاثوليكية، اُجبرَ بأمر من الفاتيكان المثول ونقض افكاره امام القيصر كارل الخامس في  نيسان 1521 في اجتماع للرايشستاگ (Reichstag) في مدينة ڤورمس (Worms) في غرب المانيا، بحضور من لهم كلمة الفصل الاخيرة من كبار رجال الدين والسفير الپاپوي وكبار النبلاء (Kurfürsten) الذين لهم الحق في انتخاب القيصر.

 

لقطة من فلم عن لوثر.. الممثل يوسف فينّس يمثل لوثر امام القيصر والرايشستاگ في ڤورمس في نيسان1521 على المائدة نسخ من مؤلفاته العديدة

 

استغرقت رحلة لوثر للمثول امام القيصر 14 يوماً في عربة الخيل. وبعكس ما كانت الكنيسة الكاثوليكية تتوقع، لم تكن رحلته رحلة توبة، بل تحولت في الواقع الى رحلة نصر له ولأفكاره. حيث استقبل بحماسة وتشجيع في كل الاماكن والمدن التي مر بها في طريقه. فوعظ مثلاً في ارفورت و گوتا و آيزيناخ. وحتى في ڤورمس، مدينة محاكمته، التي وصلها في 16 نيسان، استقبل من قبل الاهالي بحفاوة وترحيب حار.

 

توجّب على لوثر المثول مرتين امام القيصر، طُلبَ منه في كلاهما القيام بسحب افكاره. الا انه بقي متمسّكاً بها، اذ لم يجد اي دليل يقنعه للقيام بنقض اطروحاته وآرائه. وُصِف موقفه بدفاعه عن اراءه أمام القيصر بكونه "واقعيا ورزينا ومتعقّلا"، حيث قال للقيصر وللحضور بهدوء كلمته الاخيرة الشهيرة:

 

"ان لم تكن هناك اقوال من الانجيل او ادلّة عقلانية واضحة تقنعني، فلا الپاپا ولا المجالس الدينية يستطيعون اقناعي، فهم غالباً ما اخطؤا وناقضوا اقوالهم بانفسهم. ان المقاطع من الانجيل التي ذكرتُها، طغت على ضميري وجعلتني اسيراً في كلمة الله. لذا لا استطيع ولا ارغب بنقض اي شيئ، لأن اي عمل ضد الضمير لا يمنح الأمان او يشفي. ساعدني يا رب، آمين."

 

الاختطاف "التمويهي"

بعد مغادرته لقاعة المحكمة قال لوثر وهو مرتاح الضمير: "لقد عَبِرتُ". وبالفعل لم يُعتقل، بل سمح له بالمغادرة، واعطيت له "رسالة الحماية"، التي ضمنت له الحرية لمدة 21 يوماً. ولكن بعد مغادرته ڤورمس في 25 نيسان بمعية انصاره من النبلاء، اصدر القيصر مرسومه الشهير (Wormser Edikt)  بأعتباره  "خارج عن القانون"، ما يعني، بأن لكل شخص الحق بالقبض عليه وتسليمه للسلطات او حتى قتله.

 

كبير النبلاء وصاحب النفوذ، فريدريش الحكيم (Kurfürst Friedrich der Weise  احد الحاضرين في محاكمة لوثر، والذي كان منذ البداية من مؤيديه، قام في الرابع من ايار، وهم في طريق العودة من ڤورمس، بتدبير عملية "اختطاف تمويهي" للوثر. كان هذا من ناحية لضمان سلامة لوثر، ومن ناحية ثانية لجعله يختفي في الحال من المشهد، حيث رُوّجت لنفس الغرض اشاعة بوفاته. واختفاءه من الوجود، كان يعني من جهة ثالثة بالنسبة لفريدريش الحكيم، التخلص مسبقاً من عواقب اتهامه بايواء شخص هرطيقي منبوذ وخارج عن القانون.

 

آملاً منه بانقاذ حياة لوثر وتهدئة الهجمات المستمرة ضد حركة الاصلاح، أمر فريدريش الحكيم بجلبه الى قلعة ڤارتبورگ (Wartburg) المعزولة، حيث قضى فيها متستراً بشخصية اخرى ما يقارب السنة، قام خلالها بترجمة الانجيل (العهد الجديد) من اليونانية الى الالمانية خلال 11 اسبوعاً، لقي بعد طبعه في عام 1522  انتشاراً واسع النطاق في المناطق الپروتستانية، مشكلاً في ذات الوقت مساهمة كبيرة في تطوير لغة المانية مكتوبة وموحّدة. ان فترة اختفاء لوثر عن الانظار لم توثر سلبياً على حركتة الاصلاحية، بل بالعكس، حيث ازدادت زخماً وقوة وتمكنت من تثبيت الجذور والازدهار.

 

مثّلَ حدث محاكمة لوثر امام القيصر وتبعياتها، نقطة الفصل الكلي بينه وبين الكنيسة الكاثوليكية. فقام بعد مغادرته لقلعة ڤارتبورگ، بمساعدة مؤيدي افكاره من الكهنة والمؤمنين والنبلاء، بتوطيد كنيسة مستقلة تماماً عن الكنيسة الكاثوليكية.

 

كان الانجيل بالنسبة لمارتن لوثر دوماً المصدر الوحيد لدى المسيحيين للرؤيا والعمل. والفكرة الرئيسية للايمان الپروتستانتي (الانجيلي) تتمركز في ما يسمّى بمذهب الرحمة/النعمة. اي ان الانسان يستطيع فقط بايمانه الراسخ والتوبة ورحمة الله التخلص من جميع خطاياه. وانطلاقاً من قناعته هذه، صاغ لكنيسته (باللاتينية) المبادئ الاساسية الاربعة، التي يتوجب على كل مسيحي مؤمن العمل بموجبها:

 

1. بالنصوص (الانجيل) وحدها"sola scriptura" =

2. بالرحمة (النعمة) وحدها = "sola gratia"

3. بالايمان وحده = "sola fide"

4. بالمسيح وحده = "solus Christus"

 

 بالطبع ليس باستطاعتنا في هذا البحث التاريخي المقتضب، الاسهاب في مجمل التطورات التي جرت بعد مغادرة لوثر لقلعة ڤارتبورگ ولغاية وفاته  في 18/2/1546 . لذا سنحاول هنا، بقدر الامكان، التركيز على تلك النقاط التي نعتقد باهميتها بالنسبة له، لم نقم بذكرها فيما تقدم.

 

موقف لوثر من اليهود

يجمع المؤرخون بوجود تطور ملحوظ في موقف لوثر تجاه اليهود بمرور الزمن، الا ان ذلك لم يغير بالاساس من موقفه السلبي تجاههم، باعتبارهم المسؤولين عن صلب يسوع المسيح. فاليهودية بالنسبة للوثر ديانة خاطئة، لا لزوم او ضرورة لوجودها، فقدت أهميتها بظهور المسيحية. ففي عام 1514، حيث أعلن لوثر  للمرة الاولى خطياً رأيه بهم، وقف بالضد من غيره من رجال الدين، ضد حرق مؤلفاتهم. واصدر في عام 1523 مؤلفاً بعنوان "المسيح وُلدَ يهودياً".

 

لحد ذلك التاريخ كان لوثر يأمل بأن كثير من اليهود "سيصبحون مسيحيين جيّدين"، ويعترفون بيسوع مسيحاً. بعد فقدانه كليّاً لذلك الأمل، تحول رأيه "التسامحي" تجاههم الى موقف عدائي. فألف في عام 1534 كرّاساً بعنوان "ضد السبتيين". وبمرور الزمن وتقدمه في العمر، صاعد لوثر من اسلوبه العدائي ضد اليهود. فأصدر في عام 1543، اي 3 سنوات قبل وفاته، بحثه التاريخي الشهير "اليهود وأكاذيبهم"، الذي يدعو فيه اصحاب القرار في المناطق الپروتستانتية، بطرد اليهود وحرق دور عبادتهم وبيوتهم.

 

استغل النازيون اثناء الحرب العالمية الثانية، عداء لوثر لليهود كذريعة لمحاربة وقتل وحرق ملايين اليهود الاورپيين لأسباب عنصرية. وبالفعل وقع كثير من الپروتستانتيين الألمان في هذا الفخ النازي وصدّقوا تلك المزاعم. الاّ أن لوثر لم يعادِ اليهود لأسباب عنصرية مطلقاً، كما ادّعى النازيون، بل دوماً لأسباب دينية بحتة، خاصة بعد يأسه وفقدان أمله بأعتناقهم للدين المسيحي. وأمّا ما يعرف الآن بمصطلح "معاداة السامية" (Antisemitismus) ، فقد ظهر لأول مرة في القرن التاسع عشر.

 

موقف لوثر من الاسلام

بالعكس من موقفه العدائي تجاه اليهود، الذي كان لأسباب دينية بحتة، انطلق لوثر في تقييمه للاسلام من الرأي العام الاورپي السائد في تلك الايام حول دور العثمانيين، الذين يغزون اورپا بالقوة، لاحتلال البلدان واخضاع الناس ووضع الاسلام فوق المسيحية، كما كانوا قد فعلوا من قبل في اسيا الصغرى المسيحية. فالاحداث الخطيرة التي عايشها لوثر شخصياً، دعته لتوجيه اهتمامه على الاسلام والمسلمين. ففي عام 1453، اي قبل 30 سنة من ولادته، حدثت الكارثة الكبرى للمسيحية بسقوط القسطنطينية في يد العثمانيين، تلك العاصمة الكبرى للمسيحية.

 

تبع تلك الكارثة التي كانت لا تزال حية في اذهان اورپا المسيحية، في عام 1521، اي في زمن لوثر، سقوط بلغراد في يد الاتراك. وفي عام 1526 احتل العثمانيون هنغاريا. وبعدها بثلاثة اعوام، أي في عام 1529، وقف الجيش التركي للمرة الاولى على ابواب ڤيّنا، احدى العواصم الاورپية الكبرى. فكان اذن الخوف والهلع من الاتراك يسيطر كلياً على اذهان مسيحيي اورپا. في ظل تلك الاوضاع المرعبة، لعب لوثر دوره في الدفاع عن الثقافة الاورپية والدين المسيحي، فأبدى رأيه بالغزاة الاتراك المسلمين كرجل دين مسيحي ولاهوتي في نشرات عديدة، ألّفها بين 1529 و 1541، داعياً بها الى الدفاع بدلاً من الهجوم، ومؤيداً لقيصر "الامبراطورية الرومانية المقدّسة للامة الالمانية" بصد الهجوم العثماني.

 

اعتمد لوثر في رأيه عن الاسلام على ترجمة لاتينية متوفرة للقران. فكتب في احدى نشراته "ان الايمان التركي لم ينتشر بالوعاظ والأعاجيب، بل بالسيف والقتل". وأبدى دهشته بأن القران لا يعترف بيسوع كإبن الله، بالرغم من اعتباره نبيّاً. وكتب كذلك "أن القرآن يحتوي ايضاً على الكثير من الحقائق، لكن محمد أضاف اليه مغالطات واضحة وفقاً لتقديره الخاص". ووصف الإسلام بأنه "البدعة الأكثر نجاحاً في تاريخ المسيحية". الاّ ان لوثر دعى في الوقت نفسه الى ترجمة القرآن الى الالمانية وطبعه، لكي يتأكد المسيحيون بأنفسهم من محتوياته الباطلة.  

 

لوثر والثورة الفلاحية

بسبب الوضع الاقتصادي السيئ للفلاحين الالمان، الذين كانوا يشكلون انذاك غالبية الشعب ويحتلّون الدرجة السفلى من السلّم الطبقي، اندلعت في عام 1524 انتفاضات فلاحية، بالاخص في جنوب وغرب المانيا وبعض المناطق المجاورة في النمسا وسويسرا. في بداية الانتفاضة، صاغ فلاحون في مدينة مَمِّنگنْ (Memmingen)  في جنوب غرب المانيا، مطالبهم بتحسين حياتهم المعاشية في 12 فقرة، مؤكدين بأن نيتهم سلمية وراغبين في النقاش للوصول الى حلول. تعتبر اليوم تلك الفقرات كمطالب اولية بحقوق الانسان الاساسية.

 

فطالبوا بالحق في اختيار رجال الدين، تخفيف ضرائب الكنيسة، انهاء القنانة، حق الصيد في الانهار والغابات، التقليل من اعمال السخرة، عقوبات محددة عوضاً عن عقوبات اعتباطية، تحديد الضرائب التي تدفع لاصحاب العقارات وغيرها من المطالب لتحسين ظروف المعيشة. وفي الفقرة الاخيرة أكّد الفلاحون استعدادهم للتنازل عن كل مطلب، إن كان يخالف كلمة الله.

 

لم تفلح تلك الجهود السلمية في تلبية مطالب الفلاحين، فاندلعت انتفاضات مسلحة بين 1524 الى 1526، سميت بـ "حرب الفلاحين الالمان"، شارك في ذروتها نحو 300.000  فلاح، انتهت بسحقها من قبل النبلاء بمقتل 100.000 منهم. على الرغم من أن وجهات نظر الاصلاح كانت مبرراً اساسيّاً وحافزاً للفلاحين المنتفضين، الا ان لوثر نأى بنفسه بوضوح عن حرب الفلاحين. وبالفعل كان لوثر قد سبق وميّز في عام 1521 بين العالمين الدنيوي والروحي، حيث اراد اصلاح الكنيسة وليس تغيير النظام الاجتماعي العلماني.

 

بالرغم من ذلك، كان يلام لوثر على نحو متزايد على الاحداث في تلك الحرب من قبل السلطات، ربما لأنه لم ينتقد بوضوح مطالب الفلاحين السلمية العادلة. فحتى في أواخر 1525، كان قد انتقد في دعوته للسلام، السلوك "المتغطرس" للنبلاء. الاّ انه وقف بعد نزيف الدم بوضوح الى جانبهم وأدان المنتفضين بشدة. وبهذا فقدت الپروتستانتية روحها "الثورية" المفترضة، وعززت بدعم من لوثر شخصياً، الظروف الاجتماعية السائدة تحت شعار "اذعنوا لأولياء الامر".

 

 والجدير بالذكر هنا، ان احد مؤيدي وأتباع لوثر المخلصين، الكاهن توماس منتسر (Thomas Müntzer)، كان احد قادة الثورة الفلاحية البارزين. أختلف مع لوثر في تقييم معنى "حرية الانسان المسيحي"، اذ فهمها، بعكس لوثر، ليس دينياً فقط، بل اجتماعياً وسياسياً. قبض عليه بعد سحق الثورة الفلاحية وأعدم حرقاً. لا تزال في عدة مدن في القسم الشرقي من المانيا شوارعاً باسم توماس منتسر، الذي كانت تعتبره حكومة "المانيا الديمقراطية" المنقرضة من الثوار الالمان.  

 

وما معنى الپروتستانتية ؟

لم يطلق لوثر على كنيسته تسمية معينة. اذن لماذا تسمّى الكنائس التي تتبع ذلك المذهب بالكنائس الپروتستانتية (Protestantismus

 

أجبرَ انتشار مبادئ لوثر السريع السلطات الالمانية بإصدار قرار في الريشستاگ الاول في مدينة شپاير(Speyer)، المنعقد عام 1526، السماح لكل نبيل بتقرير مذهبه ومذهب مواطنيه حسب ما "يستطيع تحمّل مسؤوليته امام القيصر والله". إلاّ ان الريشستاگ الثاني، المنعقد عام 1529 في نفس المدينة، وافق على اقتراح القيصر كارل الخامس بالاكثرية، بإالغاء ذلك القرار، وإجبار الجميع باعتناق المذهب الكاثوليكي. فإحتجّ اتباع لوثر من النبلاء وممثلي المدن الكبيرة بشدة على ذلك القرار، فاطلقت عليهم تسمية الپروتستانتيين، اي المحتجّين. فكانت هذه بداية استعمال هذا المصطلح، لا على اتباع لوثر فقط، بل على كل  الخارجين عن الكنيسة الكاثولية.

 

هل مجرّد صدفة ام مشيئة الله؟

إستجابةً لطلب التسوية في نزاع الميراث الطويل بين نبيلين من مدينة ولادته آيسليبن (Eisleben)، غادر لوثر مدينة  إقامته ڤتّنبرگ (Wittenberg) في 23 /1/ 1546. كان لوثر يعاني الآن من من أزمات قلبية ومشاكل صحية اخرى، فارهقته هذه السفرة جداً واعتبرها غير ملائمة لميوله الروحية وليست مريحة لعمره المتقدم. فقال متحديّاً لتلك المصاعب "لقد وُلدّتُ وتعمّدتُ في هذه المدينة، فربّما أرسلني الله لكي أموت هنا".

 

 

في مدينة آيسليبن (Eisleben)  وُلد وتوفى لوثر

 

أقام لوثر أثناء مكوثه في آيسليبن 4 قداديس ووعاظ في كنيسة سانت اندرياس، لم يستطع تكملة آخرها بسبب اصابته بنوبة ضعف. بعد هذا الحدث ببضعة ايام، توفى لوثر في 18/2/1546 على أثر سكتة قلبية تبعت عدة ذبحات صدرية. كان محاطاً في ساعاته الاخيرة بأبناءه الثلاثة، يوهانس ومارتن وپاول، بالاضافة الى العديد من الاقارب والاصدقاء ورفاق دربه. وكان من بين الحاضرين ايضاً، كاهن كنيسة سانت اندرياس وطبيبي المدينة والنبيل (Graf) ألبرشت من مدينة مانسفلد (Mansfeld) مع زوجته. ووفقاً لآرائه اللاهوتية، تخلى لوثر قبل وفاته عن سر الطقس الكاثوليكي الأخير بالمسح بالزيت، فصلّى عوضاً عن ذلك صلاته الاخيرة، مؤكداً فيها إيمانه المسيحي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ملحقات

الملحق الاول

اهم المحطات في حياة مارتن لوثر

 

10/11/1483   الولادة في مدينة آيسليبن (Eisleben)

1490   المدرسة اللاتينية في مانسفلد (Mansfeld)

1498   مدرسة الابرشية البلدية في آيزيناخ (Eisenach)

1501 ـ 1505  الدراسة الاساسية في جامعة ارفورت (Erfurt) 

1505   الدخول في سلك الرهبنة

1507   الرسامة ككاهن

1510 ـ 1511 السفر الى روما

1512   دكتوراه في علم اللاهوت

1512 ـ 1517 بروفسور في علم اللاهوت في جامعة ڤتّنبرگ (Wittenberg)

1517   الاطروحات الـ 95

1521   الاختطاف التمويهي والهرب الى قلعة ڤارتبورگ (Wartburg)

1521   ترجمة الانجيل (العهد الجديد) من اليونانية الى الالمانية خلال 11 اسبوعاً

1522   الرجوع الى مدينة ڤتّنبرگ (Wittenberg)

1525   الزواج  بـالراهبة السابقة كاتارينا فون بورا

1534   اصدار الكتاب المقدس (العهد القديم) باللغة الالمانية (ترجمة من العبرية)

18/2/1546 الوفاة في  آيسليبن (Eisleben)

 

 

الملحق الثاني

بعض اطروحات لوثر المختارة  (من مجموع 95 اطروحة)

 

5 ـ الپاپا لا يستطيع الغاء اية عقوبات، الاّ التي فرضها بنفسه، مستنداً على سلطته الخاصة او تلك التي اقرها القانون الكنسي.

 

8 ـ لا تُفرض القوانين الكنسية المتعلقة بالتوبة إلاّ على الأحياء فقط ، ولا يجوز أن تُفرض على الأموات.

 

21 ـ اذن يخطئ وعّاظ الغفرانات الذين يقولون أن غفرانات الپاپا تحلّ المرء من كل العقوبات وتؤاتيه الخلاص.

 

27 ـ إن قول بعضهم أنه حالما ترنّ النقود في صندوق بائع الغفرانات، تطير النفس من المطهر، ما هو إلاّ كذب وخداع.

 

28 ـ من المؤكّد أن الطمع والجشع يزدادان عندما ترنّ النقود في الصندوق، الاّ ان شفاعة الكنيسة فهي في حكم الله.

 

32 ـ إن مَن يعتقدون أنّ رسائل الغفران توصلهم الى الخلاص الأكيد، سيكون مصيرهم ومصير معلميهم الهلاك الأبدي.

 

33 ـ على الإنسان ان يحذر للغاية أولئك الذين يقولون أن الغفران الذي يمنحه الپاپا هو تلك الهبة الإلهية التي لا تُقدّر بثمن، إذ بها يتصالح الإنسان مع الله.

 

36 ـ كلّ مسيحي يشعر بالتوبة الصادقة هو محقّ بالمغفرة التامّة وبإلغاء العقوبة إلغاءً كاملاً  بدون صكوك الغغران.

 

43 ـ يجب تعليم المسيحيين أن إعطاء الفقير وإقراض المحتاج أفضل من شراء الغفرانات.

 

62 ـ ان كنز الكنيسة الحقيقي هو الإنجيل الفائق القداسة، إنجيل مجد الله ونعمته.

 

79 ـ ان القول بأن الصّليب المزيّن بشعارات النبالة الپاپويّة، الذي يرفعه وعّاظ الغفرانات عالياً، يُعادل قيمة صليب المسيح، إنما هو قول تجديف.

 

 86 ـ سؤال آخر: لماذا لا يبني الپاپا كاتدرائية القديس بطرس، هذه الكنيسة الواحدة على الأقلّ، من ماله الخاص، بدلاً من مال المؤمنين الفقراء، وهو يملك مالاً يفوق مال كراسوس أغنى الأغنياء؟

 

 87 ـ سؤال آخر: ما هو قدر الغفران الذي يمنحه الپاپا أولئك الذين ندموا الندامة الكاملة، ومحقين بالمغفرة التامّة؟

 

 94 ـ يجب حث المسيحيين على أن يجدّوا في اتّباع رئيسهم المسيح ، وذلك بسيرهم على طريق الآلآم والموت والجحيم.

 

95  ـ وهكذا ينالون الثقة بدخولهم ملكوت السماء بالهموم الكثيرة، وليس بشعور الطمأنينة الزائف للسلام.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.