اخر الاخبار:
سقوط قذيفة تركية على مدرسة شمال دهوك - الثلاثاء, 10 كانون1/ديسمبر 2024 19:12
استعراض عسكري في الموصل.. "نينوى 2024 غير 2014" - الثلاثاء, 10 كانون1/ديسمبر 2024 19:11
انفجارات تهز العاصمة السورية - الإثنين, 09 كانون1/ديسمبر 2024 19:29
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

همس القش: الترنيمة الثانية عشرة- (الجزء الأول)// سميرة الوردي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

سميرة الوردي

 

عرض صفحة الكاتبة 

همس القش: الترنيمة الثانية عشرة

(الجزء الأول)

سميرة الوردي

 

الخيمة

هاجس... رغبات... أمنيات... طفولة سعيدة شقية ... بين أحضان والدين محبين عطوفين.

رغبة عنيفة لأكتب كل ما مر بي من فرح وحزن، تختلف أو تتشابه مع حياة الآلاف، بل الملايين من العراقيين.

 

انتظرت ثلاثين عاما كي استطع الكتابة بحرية... ليالٍ وسنين وأن أنتظر أن يرحل الشرطي الذي سكن الوعي واللاوعي وشله... منذ أن ولدت والممنوعات تتالى، نشأت في حضن تلك الممنوعات، وشهدت أفكارها وهي تتصارع، حتى نسيتُ ما أردت تدوينه... في تلك الطفولة لم يكن لي ملجأ لأفكاري سوى عمتي ... فقد تشبعت بأساطيرها وأفكارها.

 

في ذلك الزمان الذي أصبح بعيدا جداً، كنا مجموعة فتيات نلعب في المحلة، سبع فتيات من سبع بيوت وعندما تأتي ابنة عمتي الثانية نصبح ثماني فتيات... في ليلة من ليالي رمضان وكنا نلعب *الختيلة كانت امهاتنا داخل أحد الدور يشاركن في جلسة رمضانية بعد الإفطار، كنت مختبئة في ظل زاوية أحد البيوت وإذا بيد كبيرة تمس رأسي، وكأنه يريد الإمساك بي هربت مسرعة وأنا أرتجف واختبأت في مجاز أحد الدور، كانا رجلين وطفل كان أحدهما يرتدي ملابساً غريبة عباءة رجالية وملابس داخلية فقط فانيلة وسروال قصير، أحست صاحبة الدار بحركة غير مألوفة، كان مجاز الدار طويلا ومظلما مما زاد من خوفي ... اطمأننت ما إن شاهدت ربة الدار، استفسرت مني عما بي ، بصعوبة أجبتها، مدت رأسها الى الشارع فلم ترَ أحداً فيه، حتى الفتيات فقد هربن الى بيوتهن مما جعل الجارة تشك في صدقي، سحبتني من يدي بقوة وذهبت بي الى أمي تشكوها بإثارتي ضجة في دارها، وإقلاقي لأبيها المريض... وبختني أُمي، وبعد أن استفسرت سبب دخولي لمجاز الناس ، منعتني من الخروج من الدار مطلقاً ، ومنعت أخوي أيضاً، أخوي لم يلتزما بمنعها لهما، بعد مدة استغليت غيابها ــ وكانت أمي تحاول تعويض ما فاتها من دراسة، فداومت في مدرسة مسائيةـــ تسللت من الدار لألتقي بصويحباتي، وجدتهن كعهدي بهن مجتمعات يلعبن *(التوكي، الختيلة، وطم خريزة، وصناعة اللعاب) أحزنني غياب (نظيرة) فقد كانت أكبرنا ولكنها تأخرت في دراستها سنتين بسبب زوجة أبيها ولم تتجاوز الثالثة عشر عاماً بعد، الا أن زوجة أبيها زوجتها من أخيها المريض، والذي يكبرها بثلاثين عاماً... هكذا تخلصت زوجة الأب من نظيرة، حزنت لفراقها وعليها فقد كانت تعاملني كأخت صغيرة لها، كرهتُ زوجة أبيها .

 

على مشارف المدينة نُصبت خيامٌ للغجر، لا يفصلُ بينها وبين البيوت سوى تلال التبن الممتدة نحو الأفق ... الغجر يأتون قرب البيوت لبيع لعباً بسيطة وبثمن بخسٍ تعوضهم عن اللعب المعروضة في دكاكين المدينة الغالية الثمن، الاّ أن الأهالي تزداد مخاوفهم من الغجر وخاصة على فتياتهم... كثيراً ما تعزو أمي الحادث الذي مرّبي اليهم، لذا تركت مهمة تحذيري من الغجر ومن مغبة الخروج للشارع بدون أحد من أهلي الى عمتي التي كانت مغرمة برواية الأساطير والقصص لي ولأخوي... فقد روت لهم عمتي قصة بائع (عنبر ورد) التي تناولت الأجيال سرد قصته... لتربطها بما حدث لي وكان يصادف مروره كل يوم مساءً وصباحاً أمام بيتنا... حاملا (صينيته) الكبيرة والمغطاة بزجاجة دائرية واسعة بسعتها مقسمة الى مثلثات عديدة، تفصلها عن بعضها مفاصل، تُسَهِل إخراج الحلوى المتعددة الطعوم والألوان، لمن يرغب بالشراء.

 

عمتي هوايتها سرد قصة هذا البائع المسكين، إن كانت لدي رغبة للاستماع أم لم تكن ...  أوكلت لها أمي ــ المشغولة بإنجاز مهام البيت صباحاً والدوام في المدرسة مساءًــ مهمة زرع المخاوف والوساوس في نفوسنا، هوايتي شراء الحلوى من بائعها، تشدني ألوانها المتعددة، الأخضر والأحمر والأصفر واللون السماقي... أما الأسطورة فتتحدث عن فتاة جميلة جدا ووحيدة والديها ... خرجت مع صويحباتها للهو على تلال التبن فخطفها الغجر، ولم تعد من يومها وكان اسمها (عنبر ورد)... بحث أبوها عنها كثيرا ولم يجدها ... فاهتدى لطريقة تساعده على العيش ولا تُعيقه عن البحث عن ابنته ... فاخترع صينية العنبر ورد... ملأه بشتى أصناف الحلوى عسى أن يجد ابنته بين المشتريات الصغيرات.

 

ما أن تنتهي عمتي من سرد روايتها هذه حتى يستهزئ الأولاد منها فيخرجوا للعب كرة القدم أو الطائرة، أما أنا فقد كنت استمتع بقصصها، بل أطالبها بالمزيد وأطرح عليها أسئلتي الطفولية راغبة بمعرفة نهاية القصص ...

هل وجد أبو (عنبر ورد) ابنته؟

نعم وجدها.

إذا وجدها فمن هذا الذي يبيع عنبر الورد الآن؟!

 

تتثاءب عمتي مدعية النعاس، فلا فائدة من طرح أخطاء المدينة على الغجر... لم تكن هذه قصتها الوحيدة في سهراتها معنا، بل قصة (فرط الرمان) أكثر تشويقاً، بطلة القصة قد تكن مأخوذة من رواية بحيرة البجع مع تحويرٍ يتلاءم مع مجتمعنا وتقاليدنا ... فـ(فرط الرمان) أصغر أخوتها العشرة الذين بلغوا سن الزواج فتزوجوا الا واحدا، هجرهم باحثاً عن مستقبل أفضل ولكن فرط الرمان لم تجد الراحة والاستقرار مع زوجات أخوتها، وما أن تدخل عمتي في تفاصيل روايتها حتى يصيبها النعاس تاركة إيانا ننتظر اكمال قصصها وقد يأتي موعد سفرها دون إتمام رواياتها فنبقى ننتظر قدومها لتتم ما بدأته ...

 

 المدينة تغفو بأمان منذ مئات السنين ... ومهما قُرعت طبول الحرب أو أُثيرت مشاكل فهي لا تمس بنية المدينة، ولا تتأثرُ بها، فسكانها مطمئنون الى حكمة رجالها، ومنهم جدي لأُمي، رجل دين جليل يحترمه الناس، يستشيرونه إذا ما جابهتهم معضلة، وللمدينة طقوس خاصة ألفتها ... تميزت بها عن باقي المدن سوى مدينتي النجف وكربلاء.

 

في أول كل عام هجري تبدأ المدينة بإحياء مناسبات الأيام العشرة الأول من محرم، يشترك بها من يُريد المشاركة، في الصباح يزاولون أعمالهم وبعد الظهيرة يستعدون لطقوسهم التي تبدأ عصراً ... وقد ألفوها حتى أصبحت جزءا ً منهم وهم جزءٌ منها، فصار أداؤها ركناً مهما في حياتهم ... وإذ ا ما حدث تقصيرٌ فيها، فانه يسبب وساوس نفسية لا أول لها ولا آخر، فأي مشكلة أو كارثة تُصيبهم يعزوها الى تقصيرهم في أداء هذه الطقوس.

 

تعجُ المدينة بالقادمين من كل صوب وحدب وبالقادمين من مدن أُخرى أو من بلدان أُخر، يحتشد الناس على سطوح المنازل وشرفاتها وجانبي الطرقات التي تمر منها المواكب لتنتهي الى بعض الدور الواسعة التي يُعد فيها الطعام وعصير الفواكه أي *الشربت يُقدم للمشاركين في الطقوس ومن يرغب من الناس سواء كان فقيرا أم غير محتاج، لا يبقى جائع في تلك الأيام ... الخير والحزن والرأفة واللقاء بين الناس تنمي المودة في نسيج المجتمع، فلا يتغلغل اليها ما يسوؤها، بل قد يُكَوِنُ سوراً حامياً يجعل الأمر صعباً على الحكومة في اتخاذ قرارات قسرية ضد معارضيها من أبناء المدينة.

 

عمتي الصغرى لعبت دوراً في حياتنا، أحببناها وتعلقنا بها، انصرفت أمي للعناية بأصغر أخوتي تاركة رعايتنا لعمتي، دائماً ما تستشيرها أمي ... تأخذنا كل عام الى بيت جدي لأمي،  تجلب لنا أطايب الطعام والشراب، وما أن تنتهي مراسيم الاحتفالات ويخف زحام الشارع حتى تعود بنا الى بيتنا... رفضت عمتي هذه السنة أخذنا الى بيت جدي... لأن ابن عمها متواجد هذه السنة في بيت أبيه، وهي لا ترغب بلقائه ... فقدت بهجتها وكأن تواجده ذكرها بمشاعر حاولت نسيانها وطيها مع الماضي ... الححت عليها أن تروي لي سبب امتناعها عن الذهاب الى بيت جدي... فروت لي أنها خطبت لابن عمها منذ أن كانت صبية وعمها الذي هو والد أمي كان متلهفاً لا تمام الزواج، ولكن في ليلة عرسها حدث ما لم يكن في الحسبان فقد أعلن زوجها عن حبه لإحدى قريباته، غضب أهله واستنكروا ، لأنهم لم يفرضوا عليه الزواج، الا أنه ألح على الارتباط بابنة عمه، رفض الجد عودتها الى بيت أخيه أملا منه قي إصلاح الأمور، ولكن الأمر لم ينصلح فاضطرت للعودة بعد شهرين لبيت أبيها، وعمها طرد ابنه من الدار. الا إنه عاد هذه السنة.

 

استغربت من عمتي رضوخها للزواج بهذه الطريق فقد كانت جميلة وشخصية قوية ومأثرة ... حدثتني عن عادات المجتمع، فأهلها لم يجبروها على شيء، ولكن الأعراف والتقاليد جرت ألا تعترض الفتاة على اختيار أهلها، ومن تعترض تعد جريئة وخارجة عن حدود المألوف، وهي لا تريد أن تحسب على هذا الصنف.

 

تسللت عمتي الى السطح تكنسه وتغسله، استعداداً للنوم فوقه كما جرت العادة في كل صيف، فالنهار الحار يعقبه مساء بارد منعش على السطوح، تسللت عمتي الى السطح هاربة مني ومن أسئلتي لتسكن الى جراحها التي لم تندمل، بحثت عنها ... ما إن تغب عني حتى أشعر بفراغ لا يعوض، صعدت خلفها، نظرتْ للسماء وطلبت الرحمة والمساعدة من الرب... أحستْ بي فأشارت لي أن أنظر الى السماء التي اصطبغت بلون الدم، احتضنتني وقالت لي بعينين دامعتين:

أي اللون ترينه يغلب على السماء؟

الأحمر

إن المنجمين وقارئي الكتب يفسرون هذا اللون بأن دماءً ستسكب وأن حروباً ستقوم، وكلما ازداد احمرار السماء زاد انسكاب الدماء...

انظري الى ذلك النجم..

 

نظرت بذهول فهالني تشعب أحد أطرافه...قالت:

إنه دليل شؤمٍ سيحل على المدينة وعلى مدن أُخر.

 

تغيرت عمتي كثيراً، لم تعد تلك العمة المتفائلة، الحالمة بحكاياتها الممتعة، تعالت لغة التشاؤم لتتجاوز الظواهر الطبيعية المشؤومة الى العلاقات الاجتماعية الأكثر شؤماً ، تمنت لو لم يعد خالي الذي هو ابن عمها ولم تكشف لي سرها الذي بقي زمنا طويلا تحت الرماد ، كانت تكلف نفسها مجهودا لتظهر لي مزاجا رائقا أما بعد كشفها لسرها فقد تركت نفسها على سجيتها ، حتى نهايات قصصها التي يجبرها الصغار على سردها لم تعد سعيدة كما كانت فـ(عنبر ورد) لم يجدها أبيها و(فرط الرمان) تصاب بعلة يعجز الأطباء من علاجها و(بنت السلطان) لم يتزوجها حبيبها الأمير بل اختطفها الغول وتزوجها وانجبت طفلا يشبهه... لم تعد تلك القصص تستهويني بل تثير لدي الحزن والخوف .

 

(حمزة) شاب غجري اشتغل عامل صياغةٍ عند جدي لأبي، عطف جدي عليه عندما أزاحت الحكومة خيام الغجر ورحلتهم عن المدينة ،دون أن يُعلن عن سبب مقنع لترحيلهم سوى ما يتناقلونه الناس سراً بأن الحكومة باتت تخاف من تواجدهم لئلا يكونوا موطئاً لاختباء شباب المدينة، التي تغيرت كثيراً بعد الحربين العالميتين وخاصة الحرب العالمية الثانية، انقسم الناس بين مؤيد ومناهض، لم أعاصر هذه الفترة بل كانت تروى لنا كلما اجتمعنا على مائدة الطعام، فقدتْ المدينة استقرارها بالرغم من مرور سنوات طوال منذ انتهاء الحرب ... الفقر والجهل وذكريات الحرب واحتلال الأجنبي للبلاد وما تركوه، هي روايتهم اليومية على الطعام .

 

منذ الصباح الباكر خرجت عمتي حاملة كارةً تحت ابطها وقد غطتها بعباءتها، لم أجرؤ على سؤالها،

 أرسلها أبي في مهمة يتبعها (حمزة الغجري) من بعيد ... رجعت عمتي محتقنة العينين ... حدث العدوان الثلاثي على مصر، المظاهرات تعم شوارع مدينتنا والعاصمة، والشرطة تتصدى لها بقسوة ... سألت عمتي: ـ

لماذا تتصدى الشرطة للمواطنين؟  أليست الشرطة وطنية؟

 

أحدث العدوان بلبلة بين الناس والحكومة... خرج الطلاب في مظاهرات ضد تحالف الدول الكبرى ومن ساندها من حكومات المنطقة مما دفع السلطات القائمة آنذاك الى ضرب المتظاهرين بالرصاص، أغلبية الناس مع المتظاهرين وقلة مؤيدة للحكومة وتعمل لصالحها ...  لم تعد المدينة آمنة، بل نشأت مشاحنات بين الناس كل يتحزب لرأيه، اتخذ جدي موقف عامة الناس، لم يُرضِ موقفه السلطة ومعاونيها، تربصوا له فجر أحد الأيام وأردوه قتيلاً... سارت الآلاف خلف جنازته متمنين كشف القتلة ومحاسبتهم، شعور بعدم الأمان يملأ نفوس الناس بالمرارة.

 

كان مقتل جدي بداية لسلسلة من الاغتيالات لرجال المدينة وشيوخها وشبابها. فلم تعد الحياة كما كانت.

طرقات عنيفة على الباب، جلبة وضجيج في ممر الدار وغرفة أبي، الوقت منتصف الليل، نهضت من فراشي أرتجف، لم نعتد على مجيء أحد في مثل هذا الوقت ... الشرطة تحيط بسرير والديّ، بنادقهم موجهة الى أبي، نظرات حيرة وفزع تملؤ وجه أمي التي اتزرت بملاءة السرير خجلاً.

 

قلبوا مكتبة أبي رأساً على عقب انتزعوا مجموعة من الكتب، ومجموعة شعرية أخفاها خلف الكتب خوفا عليها من أن نلعب بها... عمتي تطمنني وتحاول إزالة الرعب عني ... لم يعد أبي لافي تلك الليلة ولا في الأيام التي تلتها ... في الليل أبكي سراً ... لم يكن عنيفا أو لائماً معي أو مع أخوتي لأي خطئ ٍنرتكبه... بل كنا محسودين حتى من أقرب الناس لنا، فبنات عمتي أبوهن يسومهن العذاب لأقل هفوة.

 

الجارات يسألن أمي عن غياب أبي، أمي تظل صامتة لا تجيب، انهن يعرفن بطريقة ما أن أبي في السجن لمعارضته للسلطة فيتعاطفن معها.

 

 بين دارنا وتلال التبن تمتد مسافة واسعة اتخذها الأولاد ملعبا لهم بعد طرد الحكومة للغجر، أخوي يصنعان طائرة ورقية امسكها لهم كي يطيرانها حال انتهائهم من إنجازها، أختي تجلس على عتبة الدار مع بنت الجيران تنظران الينا، لم تعد صحتها لها منذ أن سجن أبي للمرة الأولى وهي رضيعة فقد أصيبت بحمى شديدة لم يستطع الأطباء علاج آثارها بالرغم من مواصلة أمي وهي بظروف صعبة مادية ونفسية عرضها على العديد من الأطباء... كم تمنيت لو تلعب معنا.

 

خرج جدي لابي من الدار مناديا علينا كي نقوم بزيارةٍ لأبي في سجنه استجبت وأخي الأكبر له مسرعة،  أما أخي الأصغر فقد رفض مرافقتنا مفضلا لعبة الطائرة، ولكن جدي وبخه وأجبره على أن يأتي معنا ... استأجر جدي سيارة أجرة بصعوبة، فلم تكن سيارات الأجرة متوفرة آنذاك، اشترى سلتين مليئتين برتقالا وتفاحاً ومعهم قدور طبخ طبختهم أمي وجدتي ... وصلنا بوابة السجن، على مبعدة  لمحت أبي واقفا خلف القضبان متفرساً في وجوه الزائرين، ما إن لمحني حتى أشار لي كي أقترب، هزني منظره أردت الركض اليه إلاَ أن مشهد الشرطي الواقف يسار القضبان ممسكاً ببندقية تعلوها حربة أخافتني، وجعلتني أنكص وأرجع الى مكاني جنب جدتي، لم أشعر الا ويد قوية حملتني وسارت بي الى أبي، كان شابا من الزائرين، مسك أبي بيدي محاولا سحبها اليه ليقبلني من خلال القضبان ، أجهشت بالبكاء .

لا تبكي يا صغيرتي، كوني قوية كأبيك، فاني سأخرج قريباً.

 

عاد أبي الى البيت بعد أشهر، وكان بين فترة وأخرى يحدثنا عن حلم حلمه عندما كان سجيناً، لكنه يتكرر بين فترة وأخرى فيزعجه، يرى في السماء طيراً أبيض جميلاً يحلق عاليا في السماء ثم يسقط بين قدميه مضرجاً بدمه ... لم يشكل الحلم أي مضمون غير عادي عنده فقد كان يعتبره كابوساً يلاحقه... سارت حياتنا بوتائر مختلفة ... السجن عدة مرات له لم يثنه عن مواصلة مطالبه ومطالبة الكثير من رفاقه بحرية الفكر وتحرير الإنسان من الجهل والفقر وتحرير المرأة ومساواتها في التعلم وفي الحياة مع الرجل ، متجاهلاً ما تحاول السلطة من الصاق الاتهامات به.

 

تمر السنوات وبلغنا مبلغ الشباب في جو سياسي لا يتسم بالهدوء سوى في فترات جدا ضئيلة من حياتنا... ومازالت رائحتا سلتي التفاح والبرتقال ترافقنا ... أما عمتي فقد كانت عوناً لنا، وقد أحبها (حمزة الغجري) منذ أن حماها عندما أرسلها أبي بالمنشورات تحت عباءتها لتوصلها الى من ينظم المظاهرات ... ولكن أصله الغجري وقف حائلاً بينهما مفضلة عليه ابن خالتها متناسية كل ما كانت تناضل من أجله.

 

استيقظتُ في أحد الأيام ولم تتجاوز الساعة الرابعة فجراً، وجدت أمي أمام الفرن تخبز خبز الدهن والكليجة، استغربت من استيقاظها المبكر ووجودها في المطبخ في مثل هذه الساعة، أبلغتني أن صوت مدفع أفزعها ولم تتمكن من العودة للنوم، وهناك أصوات مدافع أُخر مازالت تقصف من بعيد... طرقات عجولة على الباب أجفلتنا ... عمتي الصغرى هي القادمة، أذهلنا مجيئها المبكر، كانت في الطريق منذ يوم أمس والطريق بين مدينتها وبيتنا لا يستغرق أكثر من أربع ساعات ... أعيقت من الوصول بسبب أحداث دموية نجت منها بأعجوبة ...  فتحنا المذياع لم نسمع سوى تغريدة بلبل الإذاعة الذي يبث قبل افتتاح الإذاعة ... وقت الأخبار لم يحن بعد ... ندم ساور عمتي ... تركت أولادها ولم تصحبهم معها.. حاولنا تهدئتها لكن القلق أخذ منها كل مأخذ... ما إن فطرنا حتى لملمت نفسها عائدة الى بيتها ... حاول أبي منعها الا أن أمومتها أقوى من الجميع ... أراد أبي توصيلها رفضت خوفا عليه من مغبة الطريق.

 

افتتحت الإذاعة برامجها... أول خبر بث فرضُ منع التجول على الناس... قلق على عمتي كيف ستصل الى دارها في هذه الظروف... شهر والبيانات تُتلى... أكثرهم رعباً بيان رقم (13) وهو بيان استندوا فيه على فتوى محسن الحكيم في اباحة قتل الشيوعيين ومن يؤيدهم ... من لا يمتثل للبعث مصيره الموت... أيام مريرة عاشها المجتمع... فصل أبي من وظيفته... ولكنه عاد الى مهنته في الصياغة ... أخي الأوسط سجن ولم نعرف عنه شيئاً الا بعد بحث مضني...  طُرق الباب في أحد الليالي، وإذا بالطارق يبلغنا عن السجن الذي فيه أخي ... قررت أنا وجدتي البحث عنه فليس من الحكمة أن يخرج أبي للبحث عنه وكل من يعرفهم قُتلوا، مسكتْ جدتي يدي بقوة ... قطعنا الطريق الى السجن وهو مركز للشرطة في المأمون، سبقتنا امرأة الى هناك... أخرج لها حارس المركز فوطة مليئة بالدم وطلب منها عدم الحضور ثانية، سألته جدتي عن أخي دخل وخرج ليخبرنا أن أخي نقل صباحاً الى سجن آخر ... تنقلنا بين عدة مراكز وفي الأخير أبلغونا أنه موجود ولا داعي للمراجعة.

 

انقضت تسعة اشهر على الانقلاب... تفاقمت الصراعات بين الانقلابين، ارتخت أيديهم عمن بقي تحت رحمتهم، صار من يُقدم الرشاوي الثمينة يُفرج عنهم... أُطلق سراح اخي ودُبر له جواز سفر ليخرج دون أن نذرف دموع الفراق ... لربما يجد الأمان في الغربة.

(يتبع)

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.