خديجة جعفر
قراءة في كتاب" قبل الموت ما بعد الحياة
خديجة جعفر
ذاكرة بلا ملامح:
يبدو اصدار الكاتب غابي الجمال: "قبل الموت - ما بعد الحياة"- الصادر عن دار الفارابي، الحائر التوصيف بين سيرة او رواية، بحث اجابة عن سؤال:
" من نكون ونحن لا نملك ذاكرة ؟"...
تعيش الذاكرة الغبشة في الصور الملتبسة من الحكايا خوفا من الاندثار، تتوارثها الاجيال نقلا يحفظها ويؤكد ذاتها.
الفلسطيني المهاجر عن ارضه، يملك ذاكرة بلا ملامح، ذاكرة يتم تناقلها شفاهة، من جيل الى اخر، ذاكرة مشوشة، متخيلة بالاغلب، غامضة، لا تملك احداثيات للامكنة، لا الوان ولا عطر لحدائقها او اناسها او لصوت من ضجيج باعتها، ذاكرة ليست وليدة معاش ولا من صنع حياة، الصور في ذاكرة الفلسطيني لا تتعدى إرادية وقصدية الهيكلة الفكرية... الفلسطيني يحمل وطنا متخيل، عالق بين اللاحياة، واللاموت، وطن يعيش في الحكاية المنقولة مشافهة، تخترع صور، تعيش في بلاغة الشعر، في الرواية او حتى لحن الاغنية، هو وطن يعيش بحافز الحذر من فقده، مما يستوجب احالته الى مستوى المقدس ليعيش. فبحسب ما يذهب اليه الفيلسوف والمفكر غوستاف لوبون في كتابه - الاراء والمعتقدات - الذي يعتبر ان الفكرة المجردة تتحول إلى المقدس تستوجب الحكاية اداة في التحول .. بالتالي فان توصيف القداسة يحول هذا الارث المنقول الى ذخائر فكرية مقدسة تكفي لترسيخ الانفعال العاطفي كهوية بديلة. فقد حول غابي الجمال الذاكرة المشوشة عن حيفا الى مقدس، فترتسم فلسطين خريطة في طقم فناجين القهوة الصيني الذي يكرس أسماء مدنها،وتحضر حيفا في كف تراب في مرطبان زجاجي عابر للحدود تماما كذخائر القديسين فامتلكت حيفا الوان صورها، ممثلة ببناء بيته هناك، بعلو جدرانه وعدد درجاته وخضرة من حديقته، فبات للون معنى الوطن، وملامح للذاكرة حتى لو لم يتذوق فاكهة حدائقها. صار الوطن محمولا بالاكف ليخرج من كهف الحكاية وتبدا رحلة حياة غابي الجمال مع ذاكرة تحاول امتلاء ببحث التفاصيل لتحيا..
ان خوف الفلسطيني من الفقد والمحو، يُحَّفز دفاعات العيش في التفاصيل الصغيرة من جهة، وفي تبني الشعارات للقضايا الكبرى من جهة ثانية حتى يتأكد وجوده ففي الوقت الذي تعيش حيفا في المقدس ذاكرة، تفقد بيروت ذاكرتها مع حوادث حرب اهلية واستحداث السياحة وظيفة. وبما ان السياحة لا تعيش في الحكاية، السياحة تعيش في الصور، وذاكرة الفلسطيني لا تحتمل واقعية الصورة، فأصبحت بيروت مدينة طاردة ليعيش غابي الجمال فقده الثاني ارضا وهوية. بيروت تملك صورها في ذاكرة الجمال، بيروت السياحة لا تعيش وسط غموض الصور فدفعته بعيدا نحو بحث موطن اخر...
في البعيد، نجده مستطردا في دقة التفاصيل، بذكر الجزئيات الصغيرة من الاشياء، الشوارع والعمران، وتصميم الغرف وشبابيك البيوت بالالوان، بالديكور حتى إنه بدأ بذكر الاصوات، العادات، الأفكار، الوظائف حتى القط المهاجر بات يملك تفاصيل عيش مع انتقاله الى كيوتو اليابان، فكان اسهابا يخدم عمليات إثبات الوجود وتأكيده ولحسم صراع التشتت. الا انه يموت بطارئ صحي،فتصبح شريكته زوجته لاول مرة في التسمية، بقصد اعلان الموت كلحظة حقيقة مؤكدة، فيموت منه تشوه ماضيه ليتصالح مع وجوده واقعا معاش ليخرج من ازمته الصحية واعظا مبشرا بنمط حياة يتكئ على سعادات التفاصيل المحسوسة، فيختبر فرحه في ابتسامة زوجته صباحا، في نزهات الطبيعة، في السفر استكشافا، في تذوق الاطعمة، التمدد على الكنبة، مشاهدة الافلام واغنيات جاك بريل.. يكشف غابي الجمال في الفصل الأخير عن لحظة مصالحة، لحظة استسلام لتجربة سوف تملأ ذاكرته المشوهة لتأخذ وجهها ووقعها ليبدأ رحلة جديدة اعمق معنى، ادق معنى، اقل قداسة وشعارات... في حادث موته تم دفن ماض خذله ،وولد جديدا معلنا خروجه من الحكاية متصالحا مع كون اوسع من الجغرافيا، نحو معالم حياة..
خديجة جعفر
9 /4 /2025