كـتـاب ألموقع

قراءة في كتاب غابي الجمال "ذاك الفتى الطيب الذي فقدته"// خديجة جعفر

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

خديجة جعفر

 

عرض صفحة الكاتبة 

قراءة في كتاب غابي الجمال "ذاك الفتى الطيب الذي فقدته"

خديجة جعفر

 

بعد اصدار الكتاب الثاني "ذاك الفتى الطيب الذي فقدته"، من ثلاثية: "قبل الموت .. ما بعد الحياة" للصديق الكاتب والمخرج السينمائي "غابي الجمال"، كانت هذه القراءة للمحتوى ..

--------

الحروب الأهلية والذات الفردية:

اتخذت الحرب الأهلية في لبنان، كما باقي الحروب الأهلية الأفراد المحليين اطرافا لها، وشوارع الوطن الواحد حيزا جغرافيا أو مكانيا لها، مشرعة قانون:

"نقتل لكي ننجو"، ويصبح القتل كمَّاً، شيمة بطولة الامر الذي يطرح سؤال مركزي حول: "ماذا يتبقى من الذات الانسانية لقاتل بعد حرب أهلية؟؟

 

غابي الجمال، كاتب يقر لنفسه توصيفا مهنيا:

  "إخراج افلام وثائقية"، في الوقت الذي يصدر كتابه الثاني من ثلاثية حائرة بين سرد وتدوين بعنوان: (قبل الموت.. ما بعد الحياة) سلسلة متارجحة بين مرارة المراجعة حينا، ونقد الوقائع غالبا، لتجربتة الشخصية كجزء من سياق عام عاش وسطه. تتفرد السلسلة تقريبا، لا سيما اصداره الثاني منها المعنون بجملة تشرح الكثير من المحتوى باختصاره للمعاناة مما كانه، وما تلقاه، وما اسقط عليه ووراثيا، على مدى ٢٥٦ صفحة شرح، صادر عن دار ويلسون: ("ذلك  الفتى الطيب الذي فقدته").

 

محاكاة، سرد، اعتراف، ندم، تساؤل، نقد، سخرية عبث.. تصب جميعها في خانة المراجعة لتجربة المناضل الفلسطيني المسيحي، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، على مدى يقارب العقدين من الزمن...

 

لم يكتب كاتبنا (غابي الجمال) عرض وقائع واحداث ومصادفات وموت وأسر وخطوط تماس كثر موثقيها، وتركت من الارث ثروات اسى، وفقر مدقع في الانسانية...

بل ان ما يميز هذا التوثيق، ميله نحو البعد الإنساني في عرض نادم، أو فلنقل انسحابي ربما، باسلوب نقدي اكثر منه توثيق أحداث باتت محفوظة لكثرة متطرقيها. بحيث تناول اثر الحروب على البعد النفسي والسلوكي والمهني والثقافي للأشخاص، وقدرتها على خلق نماذج جديدة من الذوات التي لا ندرك تحديدا متى ولدت فينا ولماذا ولدت، والسبب المباشر لهذه الولادة... يُلحظ انه لم يتناول الكثير من الذكريات حول العلاقات المجتمعية الا ما ندر مما ارتبط بشكل او بآخر بسلوكات الحرب، فكان جزءا من مخطط تصويري نجح فيه كمخرج سينمائي سردا بالكلمات، ليؤكد انعزال المقاتل عن بيئة اعتقد انه يدافع عنها. مقاتلو الحرب اشخاص على حوافي المجتمع، منعزلين عنه، لهم قناعاتهم، مبادءهم، لباسهم، امكنتهم، صداقاتهم، أساليب عيشهم بعيدا عن المجتمع العادي الذي يتلقى ضرباتهم من اثار سطوة  الاعتزال المسلح ..

 

في هذا السياق، وبالعودة لما أراد طرحه الكاتب حول ظواهر العنف والقتل التي تتمكن من تحويلنا إلى كائنات مبرمجة آليا، تقول (جوديث بتلر) في كتاب "اطر الحرب": ان العنف ليس فقط جسديًا، بل أيضًا رمزيًا، سياسيًا، ومؤسساتيًا. وتتناول العنف الذي يُمارَس عبر التمييز، الإنكار، التهميش. ترفض تصنيف العنف كمجرد "فعل فردي" نابع من شهوة أو متعة شخصية. ترى أن العنف يُنتَج عبر البنى الاجتماعية والسياسية، مثل الدولة، الجندر، العنصرية. فالعنف يُبرَّر حين يُصنَّف الضحايا كـ : "غير مستحقين للحياة" أو "أعداء"، فتُصبح متعهم أو ألامهم  غير مرئية...

 

من هذا المنطلق، نجد ان ما يسرده الكاتب من تقلبات شخصية، لم ينف كونه مقاتل، يحمل السلاح ليقتُل فيما يتابع برامج الرسوم المتحركة مساء. هو الذي تعلم امتشاق السلاح بناء لطلب والده، على يد فتاة  ابنة  لاحد أصدقاء والده، تلك الفتاة بعمر يقاربه هدرا للطفولة المنسية على جنبات بلدان الحروب، فالحرب لائحة لعرض الخسائر، خسائر ما كان منا، وخسارة توقعات ما يمكن أن يكون حتى نمحى تماما وتتحول ظلال شرسة...

وبحجة الدفاع عن قضية خارج حدود المكان حيث يَقتُل حتى لا يُقتَل، داخل مجتمع لم يعتبره خاصا به، فهو الفلسطيني المسيحي، الضيف دائما..

 

متكئا على تساؤلاته، يعرض الأحداث ويجمع المتناقضات، فحين يتذكر مسيحيته، يكون في معرض من كان يقاتل في صفوف المسلمين بتوصيف وطني معتمد إنذاك، وحين يذكر براءة طفولته لعبا مع فتيات الحي وصبيانه، يكون القتل مبرمجا على بعد أمتار من مشاغبات الصبا، وحين تكون سينما النبعة الوحيدة ثكنة تدريب عسكري للاشبال، كانت سينمات شارع الحمرا تعرض من نماذج الافلام اهمها التي تبث مفاهيم ثقافة العصر الحداثية للوعي الشبابي البعيد عن عزلة المقاتل، ذلك من يفضل عليها الأفلام الهابطة من سينمات مجاورة تخففا من هرمونات العزلة. فحفر سرده عميقا، في اتساع الهوية واقعا بين سلاح مدافع عن حق وقضية وسلاح سطوة المنفعة الشخصية، ليتحول المقاتل نفسه إلى عبء يضاف على هموم الشعب في سطوة لافراغ المواطن من حقوقه اكثر فاكثر...

 

يعرض الكاتب الفعل المقاوم كحالة من الفوضى، الضياع، الهروب، المنفعة، السطوة والحضور، نشوة القتل كل ذلك لإثبات الذات الفلسطينية. فقتله لمن لم  يختره عداء، فقط لانه ورث هذا العداء بحكم البيئة والهوية. فمقاتلنا المسيحي نسخة قلقة التموضع من قضية قاتل من اجلها، الا ان خذلانه من رفاقه واصدقاءه اكبر من محاولات الاعداء في اعتباره عدوا فقط لاسباب الهوية..

 

هذا السقوط في الاسئلة حول المعنى من الحروب، استطاع ان يشرح حقيقة المقاتل النفعية عند أول بوادر الهزيمة.، فمن استمر من المقاومين هو من  قَشَرته الهزائم وغير جلده ليظهر حقيقة إنتهازية وصولية استخدمت العقيدة للاطاحة بالانسان قبل أي هزيمة آخرى، ليتم محوه، يتقوقع في دوائر صغرى من الطوائف والاديان، فيما المقاتل يسطو اكثر، يتوسع وينتشر اكثر في مفارقة سطوة مسلحة مكتسبة للفريقين حتى تم تغييب الأفراد والجماعات عن المشهد كليا. ففي حين بدأت المعركة حقوقية للجماعات المهمشة من حي النبعة تحولت بقدرة الهية نحو صيد الاديان فيما لا ذنب ارتكبوه..

هذا ويضيف الكاتب في مراجعاته، دور الأسرة التي تصبح امتداد للتلقي وبث العداءات وتصديرها والتصدي لها وظيفيا في زمن حرب...

 

اما في ما يخص الهوية الدينية، فهي الانتماء اللاارادي الذي يفرض سلوك تضامني، ففي وقت خيانة أصدقاء حزبه والاستيلاء على بيته ومملكته مرارا، يرأف بغابي المقاتل، صفوف اعداءه فقط لانه مسيحي، ليُستَدعى من معركة على خطوط تماس الى حفلة عشاء وثمالة العرق وصفقة التواري عن التصويب في اطلاق النار المتبادل فينقلب العداء فجأة نحو طرف ثالث مجهول، من اجل  تحطيم ذاكرة واقع معادي فسبقت الهوية ارث العداء على حساب العقيدة..

 

مراجعاته للمعنى في هذا الكتاب، تركت اسئلتها في تجربة مقاتل يكتشف اخيرا حجم الزيف من قيادات تتقصد عزلة مقاتل لطمس الاسئلة حول ذاكرة حرب تخلت عن قضيتها وانسانيتها توجها نحو القتل لمجد القتل.. وكاتبنا، ذاك الطفل المحب للفنون، والذي نَقَطَ فصول كتابه بكلمات الاغنيات الهادفة، واسماء وعناوين افلام، ومخرجي سينما عالميين ممن تابع واحب، ليبرز حضور الميل الإنساني مما سلخته الحرب، والذي لم يبق منه إلا ذاكرة التشرد، والتخفي والقتل. فإننا، كمقاتلي حرب نقتل لننجو، ترتبط حياتنا برصاص التلقي على حساب ما نتبنى من مفاهيم وافكار عصرية تناسب الانسان وليس المقاتل، فإننا كمقاتلون ننسحب من انسانيتنا، نتخلى شيئا  فشيئا عن ذواتنا لنصبح رصاص قتل دون شعور بالندم، فالقتل مغفرة للعدو كي نوقف نزف عداءه معنا، وهذا ما يشكل ذاكرة صور ومفردات لانتصارات نتوارثها اجيالا...

 

الحرب تجعل من الحنين اسطورة بلون الغياب، الغياب وحده ما يذكرنا ببقايا إنسانية تتضاءل فينا، غياب عن الفكرة، غياب عن القضية، غياب عن المكان،  الغياب موتا، غياب يستحضر بقايا صور عالقة في الذاكرة وستترسخ بحسب الصور الأولى، لاننا لم نعد نحن انفسنا، وأم يعود الغياب بنفس صور غياباتهم، الذاكرة تريد اعادة تشكيل ما يسقطه فعل القتل منا انسانيا، ليعيد ربطنا بالخارج حيث الاخر الذي يؤكد وجودنا بعد هذا المحو منا، لكن ذاكرتنا بصورها نامت هناك...

 

بعد انتباهة من كاتبنا لحجم دماره انسانيا، كان لا بد من شراكة مع جمعية:" محاربون من أجل السلام" والتي تضم قدامى المقاتلين لبحث درب المصالحة مع الذات والتخفف من عبء ذاكرة القتل لمد اليد نحو صداقات المعادين وإيجاد السلام النفسي الداخلي عبر نشر قيم الاعتراف والمسامحة طريقا إلى الغفران علنا ننجو مما ارتكبنا..

الا ان كاتبنا (غابي الجمال) تجاهل ربما، ومن وجهة نظر شخصية جدا، السؤال الاهم بعد مراجعة تجربة غصت بكل انواع التناقض في المشاعر والانفعال والسلوك وصولا لكم ندم أدى لولادة سلسلة اعترافات نقدية، منصوصة في ثلاثية أدبية، وفيلم سينمائي وثائقي يبحث من بين المقابر عن تآلف للجثث من بين الأعداء، مما يدفع لسؤال:

هل ان مبادرات المسامحة هذه، افرادا او جماعات، على أهميتها طبعا، حقيقية فعلا؟

ام اننا كمقاتلين سابقين نستبدل تسميات العداء، فنستغفر عدونا الأسبق، لننصب عداء نحو عداء جديد؟؟؟

خديجة جعفر

١١ /٨ /٢٠٢٥