محمد جواد فارس
حياة شرارة .. الثائرة الصامتة
محمد جواد فارس
طبيب وكاتب
(حياة ) و لدت بين غبار الطلع
و خطت فوق كتاب البردي
و ضعت حبات العنبر في النص الطيني
القت و لها تحت جذور الأرز المانع
أسرت دون وداع لقيافي الغيب الابدي
فلا تنسوها !
محمود حمد
شاعر عراقي مقيم في الإمارات
استعرت العنوان من كتاب أعداد الرفيق الخالد الذكر خالد حسين سلطان ، وها انا الان اقرأ هذا الكتاب والذي يتحدث عن حياة محمد شرارة زوجة المناضل الوطني الشيوعي الدكتور محمد صالح سميسم ابن النجف التي أنجبت الشهيد سلام عادل وحسن عوينة ومحمد حسن مبارك وصاحب الحكيم ومحمد موسى التتنجي، كتبت اختها قيس شرارة هي زوجة المعمار المعروف في العراق رفعة الجادرجي وهو الإبن للشخصية المعروفة في الاوساط العراقية والعربية كامل الجادرجي وهو رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، وجريدة الاهالي الناطقة بأسم الحزب.
دونت بلقيس شرارة عن حياة اختها تحت عنوان [سيرة حياة الفقيدة (حياة شرارة ) ] جاء في هذه السيرة التي كتبت كمقدمة للرواية التي كتبتها الفقيدة حياة ( أذا الأيام أغلقت)، جاء فيها عن مدينة النجف: فالنجف مدينتان، مدينة الموتى ومدينة الأحياء، فمدينة الموتى لا تخلو من الأحياء القادمين من مدينة الأحياء وتستطرد عن مدينة النجف تعج الوقت جمعها التاريخية بالطلبة القادمين من جنوب لبنان وايران والهند لانتهال العلوم العربية والإسلامية، يستمعون اليها على شكل حلقات دراسية تحت إرشاد ( علمائها الدنيين ) . وهناك جو اخر ازدهرت فيه نهضة ثقافية واسعة، اذ صدرت عدت صحف ومجلات كان لها دور مهم في الدعوة للإصلاح الاجتماعي ك ( الهاتف ) و ( الحضارة ) و ( الغري ) و ( البيان ) ، وبرز فيها كتاب وشعراء اغنوا تراث العراق الأدبي مثل محمد مهدي الجواهري وعلي الشرقي وجعفر الخليلي وسعد صالح ومن الجالية اللبنانية ظهر حسين مروة ومحمد شرارة والاخير هو والد حياة وبلقيس ومريم، ولدت حياة عام 1935 في حي المدينة القديم بالنجف وهي الابنت الثالثة لمحمد شرارة، تقول بلقيس: كان والدي يؤمن بالمساواة التامنة بين البنين والبنات ولم يدع مجالا لسيطرت عقول مؤمنة بمفاهيم قروسطية، من التدخل في توجيه أبنائه وبناته وتربيتهم. عانت حياة معنا بعد أن قضيتا الصيف في ربوع لبنان، التحقت بالروضة بمدينة الحلة، لم تكن تحب الذهاب إلى الروضة، فقد رفضت الذهاب اليها مرات عديدة، كانت تعيد نفس الجملة: الأطفال لا يتكلمون اللهجة التي نتكلمها، وتصر عليهم أن يتكلموا لهجتها. تكتب بلقيس عن حياة: كانت حياة تجلس دائما في زاوية في غرفة الضيوف وبين يديها الصغيرتين دفتر تسجل فيه ما تستمع اليه في تلك اللقاءات الشعرية من قصائد جديدة، ولن تكن تدري ان تلك اللقاءات كانت تمثل بداية ( نشأة الشعر الحر ) كان الجدل يدور حول تجديد الشعر وجعله حرا بلا قافية، كان الشعراء يقرأون اخر ما نظموه من القصائد ، وكانت تتكرر اللقاءات الأسبوعية هي البذرة الأولى في توجيه حياة ! ادبيا وسياسيا. كان بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة من المواظبين أسبوعيا على تلك اللقاءات. وشارك بتلك اللقاءات محمد مهدي الجواهري وحسين مروة ونازك الملائكة وأكرم الوتري وبلند الحيدري، ومحسن الأمين، كانت نازك تزورنا معظم الوقت بصحبة والدها صادق الملائكة واحينا مع أخيها نزار.
ومن ماتقدم نجد أن حياة تأثرت بثقافة سياسية وشعرية من خلال هذه التجمعات التي ضمت قامات شعرية وسياسية عراقية ومن جنوب لبنان، وهذا التأثير ضهر في شبابها ورسمت مستقبلها الثقافي والمعرفي. وتشير بلقيس عن حياة انها حفظت معظم شعر بدر ولميعة ونازك، وكانت تترنم بقصائدهم وهي لم تبلغ بعد سن الثانية عشرة.
وتستطرد وتكتب : كان عام 1948 , عاما مضطربا، مملوءا بالماسي، وقد شمل الغليان معظم البلدان العربية، لخسارتهم فلسطين في حربهم مع اليهود، وكانت تلك الخسارة بعد ولادة دولة ( إسرائيل) ، بقرار من هيئة الأمم المتحدة، بمثابة كارثة على العرب، ولم يكن الفكر العربي متهيأ لها يومذاك، وما زالت أصداؤها سارية بعد خمسين عاما. خرجت المظاهرات في شوارع بغداد، تطالب بسقوط الصهيونية، وشملت جميع المدارس في العاصمة ، بما فيها المدارس المتوسطة والثانوية، ولكن لم يسمح للمدارس الابتدائية بالمشاركة فيها، وتألمت حياة عندما عدنا من المظاهرة المنظمة من قبل الحكومة نقص عليها ما حدث ، وتمنيت لو سمح لمدرستها الابتدائية بالمشاركة أيضا . وهذا يدلل أن حياة رغم صغر سنها كانت تريد المشاركة بالتظاهر ضد اغتصاب فلسطين العربية من قبل الصهاينة المستوطنين، هذه المشاعر والرغبة لم تأتي من فراغ لان العائلة وخاصة الوالد محمد شرارة وتوجهاته الفكرية كان ممن لديهم موقف حتى ضد التقسيم لفلسطين والذي أقر في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، وكان لعصبة مكافحة الصهيونية والتي شكلت عن طريق الحزب الشيوعي العراقي ومن رفاق يهود عراقيين لها دور كبير بفضح الصهيونية واحتلال فلسطين العربية. وفي عام 1948 العام نفسه جرى التوقيع في مدينة بورت سموث البريطانية على معاهدة تربط العراق بقيود تمس بالسيادة الوطنية وهي قبول حكومة العراق بالقواعد العسكرية وقعها وزير الخارجية العراقية صالح جبر ، ومن المملكة المتحدة ممثل عن وزارة الخارجية وهب الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه حتى أسقط المعاهدة الجائرة، وفي معركة الجسر استشهد الالوسي وجعفر الجواهري شقيق الشاعر الجواهري وكتب قصيدة التي كان مطلعها، أتعلم ام انت لاتعلموا بأن جراح الضحايا فمو الخ. وأطل عام 1949 , وصادفت الذكرى الأولى للوثبة التي أسقطت معاهدة ( بورتموث ) فأعلنت الأحكام العرفية، وتم إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف ( فهد ) ورفاقه، وبدأت حملة اعتقالات واسعة في العراق، لم يشهد لها مثيل منذ حركة رشيد عالي الكيلاني، فحلت الأحزاب وعملت الصحف عن الصدور، واعتقل عدد كبير من مفكري وسياسي العراق، وكان والدي وعمي مرتضى ممن شملهم الاعتقال. اختفى والدي وعمي مرتضى مع الكتب والأوراق التي صودرت واعتقلا في معتقل ( أبو غريب ) كان المعتقل يزخر بالمفكرين اليسارين ، من أمثال بدر شاكر السياب والشاعر محمد مهدي الجواهري ، مع رجال الأحزاب المعارضة وروؤسائها وطلبة الكليات.
وهنا تسطر بلقيس لنا ذلك التاريخ السعيدي في محاربة الفكر التقدمي والذي كان يدعوا إلى عراق برلماني فيه حرية لصوت الأحزاب الوطنية، والخلاصة من هيمنة الامبريالية البريطانية، وقواعدها العسكرية، وسيطرتها على النفط العراقي من خلال شركاتها الناهبة لنفط كركوك وحقوقها في التنقيب عن النفط في العراق، كانت القوى الوطنية وفي طليعتها الحزب الشيوعي العراقي وكذلك جماعة الاهالي في الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي، الصوت الذي لن يسكت عن هذه التجاوزات. وتنقلنا بلقيس إلى مشاهد من عملية اعتقال الطبيب الجراح الدكتور محمد صالح سميسم في عهد انقلاب تموز ومجيئ سلطة البعث ثانية بعد انقلابهم الأول في الثامن من شباط عام 1963 , وتكتب: سمع صوتا هادئا وقورا قائلا له: دكتور تفضل معنا للإستفسار عن بعض الأسئلة ، ولن تتأخر أكثر من ربع ساعة ، وتعود إلى دارك وعائلتك، كان هذا الأسلوب هو المتبع والسائد في إلقاء القبض على الفئة المتعلمة والمثقفين من الناس، بكل أدب ودماثة، ، وعندما حاول محمد جلب أدوات الحلاقة وبعض الملابس الداخلية، أصروا على عدم الحاجة اليها، فعاد يجر قدميه بثقل نحو السيارة البيضاء. ظلت حياة صامتة، شاخصة بنظرها نحو السيارة التي ابتعدت تدريجيا ، ولم تسمع هديرها، واختفت عن انظارها، كما اختفى من بها، عادت إلى غرفتها ، مخنوقة العبرات، ولم يغب شبح زوجها طول الليل عن نظريها، وتملكها قلق ممزوج بعجز غريب، لا تدري ما يخبئلها الغيب، فمصير من يلقى عليه القبض بهذا الأسلوب مجهول عادة، وهو بيد جلادين لا يرحمون، وتبقى الأسئلة على الشفاه دون جواب ، هل سيعود ومتى؟ وليس من جواب الا الانتظار وربما الانتظار طويل. ولكن لم تستسلم حياة للضغط ولم تعرف القنوط واليأس.
واستمرت معانات حياة حتى بعد أن عملت أستاذة في جامعة بغداد أستاذة الأدب الروسي في كلية اللغات، حتى انها كانت منهمكة أضافة للتدريس كانت تتدرب على استخدام السلاح ابان الحرب العراقية الإيرانية ورغم الحرب فانها كانت مجدة في انتاجها الأدبي وفي التأليف والترجمة من اللغة الروسية وكتبت مقالات عن الشعر والمسرح منها ( تأملات في الشعر الروسي 1981 ) و( غريب في المدينة ) ومسرحية ( المفتش العام 1983 ) اذا الايام أغلقت 1987 ) و( تلك أيام خلت 1988 ) و ( يسينين في ربوع العربية 1989 ).
لقد عانت حياة الأمرين عندما قدمت ولمرات عديد منحها جواز وسفر ولكن تقول واخيرا حصلت على جواز سفر بعد مرور عشرة أعوام من الرفض المتواصل للطلبات التي قدمتها للحصول على موافقة بالسفر.
كتبت بلقيس شرارة بمناسبة مرور عشرة سنوات على انتحارها وابنتها مها مقالة من لندن اقتبس منها : مر عقد كان أول يوم من شهر اب عام 1997يوما محرقا بحرارته عندما غادرت حياة شرارة بغداد إلى الأبد، كان يوما هز كياننا وقيمنا، واحرقتنا شمس الفراق بحرارتها، ولم تخلف إلا الشهقة واللوعة في استيعاب هول الخسارة، كانت خسارة أنعكست ظلالها على محبيها وعملت حتى تلامذتها، فوضعوا لافتة حداد في مدخل كلية الآداب، معبرين بها عن عمق الفقدان الذي سببه رحيلها عنهم لم نكن نعلم برحيل ( حياة ) عنا ذلك اليوم حتى المساء، عندما لفتا الليل بعتمته، وجمعنا زوجي رفعت الجادرجي في غرفة تطل على نهر التايمز في لندن، وقابلنا موجها كلامه لي ولشقيقتي مريم زوجها جيم : لقد جمعتكم هذا المساء لأخبركم بخبر مؤلم جدا بالنسبة لي ولكم، وتوقف لحظة عن الكلام ، ساد صمت غريب ، آذان صاغية، عيون محدقة، مالذي سيقوله لنا ! بلع رفعة لعابه، ونحن بالانتظار!! احتسبت الكلمات بين شفتيه، شعرت بمعاناته، أحسست أنه يحمل عبئا ثقيلا، لا يدري كيف يتخلص منه !! طال الصمت، ونحن لازلنا آذانا صامتة وعيونا محدقة ، ثم اردف بجرأة : توفيت ( حياة ) هذا اليوم ساد الصمت ثانية وهيمن الوجوم علينا ، انفلتت كلمتان من بين : سكتة قلبية ؟ لم يرد علي، توقف قليلا متنهدا بعمق، ثم استرسل في أكمال جملته ، لقد أنهت حياتها !! كما كما أنهت ابنتها مها حياتها أيضا !! ،
وهكذا انتهت حياة ( حياة وابنتها مها ) بهذا الشكل المأساوي .
فقد العلم والثقافة والسياسة إنسانة احبها طلابها ومعارفيها وزملائنا من أساتذة الكلية لها المجد والخلود، وتركت لها ما كتبته وماترجمته من الأدب الروسي انها حقا (حياة ) الثائرة الصامتة الثائرة.
كل الشكر لمكتبة السدن لنشرها الطبعة الثالثة من كتاب خالد الذكر خالد حسين سلطان .
طبيب و كاتب