د. عامر ملوكا
يوسف عزيز: باعث ومؤسس أسس الفن الغناسيقي الكلداني الحديث
د. عامر ملوكا
في زمن تتصارع فيه الهويات وتتقاطع فيه الثقافات، ينهض الفن بوصفه الذاكرة الحية للشعوب وصوتها الأعمق، لا سيما عندما ينبثق من وعي علمي وثقافي راسخ. وفي هذا السياق، يبرز اسم الفنان يوسف عزيز، ليس كمجرد مطرب أو ملحن، بل كمشروع ثقافي متكامل أعاد تشكيل الأغنية الكلدانية المعاصرة، مزاوجا بين الجذور التاريخية والتطلعات القومية، وبين التراث الروحي وتقنيات الموسيقى الحديثة.
منذ انطلاقته الفنية بلغته الام الكلدانية وباللغة العربية العربية، آمن يوسف عزيز بأن الفن الكلداني لا يمثل فقط جزءاً من الهوية الشرقية، بل هو أحد أعمدتها الأصيلة، النابعة من روح الشرق الحقيقية. وقد استند في رؤيته إلى قناعة راسخة بأن الفن الكنسي الكلداني هو الحاضن الأول لهذا التراث، حيث حفظت الكنيسة الكلدانية على مرّ الأجيال تراتيلها وأنغامها ومفرداتها الروحية، التي شكلت أرشيفا صوتيا وهوية موسيقية خاصة.
وقد تُوّج هذا الإيمان بالدراسة الأكاديمية؛ إذ خصص رسالة الماجستير الخاصة به لتحليل التراتيل الكنسية الكلدانية، مستخلصا منها نتائج لافتة ألقت الضوء على صلة الفن الكنسي الكلداني بجذور الغناء والموسيقى الشرقية، فيما يصطلح عليه "الفن الغناسيقي" بالاختصاص الاثنوميوزوكولوجي (فنون الاعراق والشعوب) وهو الفن الذي يمزج بين الغناء والموسيقى ضمن قالب شعري، يكوّن هوية فنية وروحية متكاملة للاثنيات والشعوب الأصيلة.
والغناسيقية، مصطلح يعني الدمج بين عنصري الغناء والموسيقى، أي الفن الشعري المموسق، حيث تكون الموسيقى سندا للنص الشعري المُلحن، كما في الأغاني أو الموشحات أو الترانيم. وتُفْرق عن "الموسيقى الصرفة"، مثل السيمفونيات أو السوناتات أو المؤلفات الآلية، التي تُعزف دون كلمات.
في الكثير من أعماله، يعتمد يوسف عزيز على اقتباس ثيمات موسيقية من التراث الغنائي الشفاهي المتداول في المناسبات الكلدانية الشعبية، وهي ثيمات ما زالت حية في ذاكرة كبار السن والمهتمين، إلى جانب الإرث الكنسي الزاخر. ويبني على تلك الثيمات ألحانه الجديدة، مواظبا على كتابة كلماتها بلغة كلدانية معاصرة وواضحة، ضمن توزيع موسيقي حديث، ما يمنح العمل نكهة تجمع بين الأصالة والحداثة، وتُتيح له أن يتجاوز الذائقة الكلدانية نحو ذائقات أمم وثقافات أخرى.
ورغم محدودية الإنتاج السينمائي الكلداني، كان يوسف عزيز من أوائل من رسموا هوية موسيقية للسينما الكلدانية. ففي فيلم "غريقات تلكيف" (1998)، أبدع بتأليف موسيقى تصويرية وأغانٍ كلدانية حملت روح الأرض واللغة والتاريخ، ليؤسس بذلك خطًا موسيقيًا لم يكن حاضرًا في الأرشيف السمعي الكلداني من قبل.
أما في مجال الأغنية، فقد وضع أسس الأغنية القومية الكلدانية، وهي أغنية تتجاوز الأبعاد الترفيهية لتكون رسالة قومية، إنسانية، روحانية وفنية في آن واحد . وتميّزت تلك الأغاني بلغة تجمع بين فصاحة الكلدانية التقليدية وسلاسة لهجاتها الحديثة، مصحوبة بتوزيع موسيقي رفيع المستوى، يرقى إلى مصاف التجارب الغنائية المهمة في موسيقى الشعوب .
الأغنية الكلدانية، بفضل جهوده، باتت متعددة الوظائف: للفرح والطرب، للتعبير القومي، للسرد التاريخي، للتوثيق الثقافي، وللرسالة الروحية. كل لحن من ألحانه يحمل نَفَس البيئة الكلدانية وروحها، مؤطَّرا بوعي فني يحترم الخصوصية الثقافية واللغوية.
ألف يوسف عزيز ولحن ما يزيد عن مئتي عمل موسيقي، بعضها بصوته، وبعضها لفنانين آخرين، باللغتين الكلدانية والعربية. ومن خلال تعاونه مع الرابطة الكلدانية والاتحاد الكلداني في فكتوريا – ملبورن، دأب على تقديم عمل قومي جديد كل عام، ساهم من خلاله في تعزيز الوعي القومي الكلداني والرد على محاولات التهميش الثقافي.
ولم تتوقف مساعيه عند حدود الأمة الكلدانية؛ فقد قدّم مشروعًا لتلحين نشيد وطني عراقي جديد، يعكس ارتباطه العميق بالوطن، رغم تأجيل المشروع لأسباب سياسية خارجة عن إرادته.
كما أبدع في إحياء الأغاني التراثية الكلدانية، عبر إعادة توزيعها وتحديث كلماتها بلغة كلدانية جديدة، فحوّلها إلى أيقونات غنائية تتداولها المنصات الثقافية ويؤديها فنانون من الكلدان والعرب والكرد، ونجح في فرض مصطلح "الأغنية الكلدانية" على الساحة الإعلامية، بعد أن كانت تُصنف بشكل عشوائي وغير دقيق.
وقد حققت أعماله انتشارًا واسعًا؛ فـأغنية "خانم" على سبيل المثال، وهي أحدث أغانيه ، أصبحت رمزًا للأغنية الكلدانية في الشارع العراقي، وقبلها أغنية "كبنخ" التي غناها فنانون عرب وكرد بنفس التصنيف، مما أعاد الاعتراف بهذا الفن العريق الذي طالما كان مهمشًا.
طموحات يوسف عزيز تتجاوز حدود المعتاد، وربما تبدو ضخمة في حجمها وإمكاناتها، لكنها طموحات تستحق الدعم المؤسسي والوطني، وتستحق أن يقف معها أبناء الأمة الكلدانية وكل محبي الفن الأصيل، لأنها لا تهدف إلى الغناء فحسب، بل إلى بناء ذاكرة وهوية لأمة تمتد جذورها في التاريخ.
فالفن عند يوسف عزيز ليس صوتًا فقط، بل هو كيان ثقافي ووطني وروحي، يعيش في النغم، وينبض في الوجدان.
د. عامر ملوكا