اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• معزوفة العشائرية من جديد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

عادل حبه

مقالات اخرى للكاتب

معزوفة العشائرية من جديد

 

بعد الاحتلال البريطاني للعراق، وما واجه الاحتلال من مشاكل ومعارضة من قبل العراقيين، اخذت إدارة الاحتلال بالتفتيش عن سبل لخلق قاعدة  اجتماعية لها في العراق بمثابة قوة مساندة لفرض استقرارها في البلاد. ولم تبحث هذه الإدارة البريطانية عن أساليب عصرية وحديثة لتنقل تجربتها الديمقراطية إلى العراق، بل لجأت إلى البحث عن إطارات عفى عليها الزمن كي تحقق غاياتها. وهكذا لجأت إلى الورقة العشائرية والعشائر التي تراجع نجمها آنذاك. وراحت الإدارة البريطانية تفتش عن بقايا رؤساء العشائر وتغدق عليهم الأموال والعطايا لتحقيق هذا الهدف. وعملت على تشريع قوانين، مثال ذلك قانون دعاوي العشائر المخالف للقضاء العراقي، وتكوين ميليشيات مسلحة وسجون لأقطاب العشائر وللأقطاعيين خارج أطار القوات المسلحة الرسمية، بهدف خلق كيانات لا علاقة لها بأسس بناء الدولة العصرية، و لا تتناسب مع ظروف العصر.

ولقد سخر رائد الصحافة الهزلية في العراق المرحوم نوري ثابت الملقب بـ"حبزبوز"، تيمناً بأحد شقاوات بغداد وأسمه "أحمد حبزبوز"، في صحيفته المعروفة "حبزبوز" من لجوء الإدارة البريطانية إلى ورقة العشائرية والعشائر وفضح دوافعها. وينقل المرحوم نوري ثابت في جريدته واقعة، والعهدة على الراوي، تحكي عن أن الإدارة البريطانية توجهت إلى أحد الشيوخ في أطراف بغداد من آلبو سلطان كي يتعاون مع الإدارة البريطانية لتفعيل دور العشائر. ولكن شيخ العشيرة رفض العرض، مما دفع بالقائمين على المشروع العشائري إلى اللجوء إلى أحد الحطّابين من العشيرة الملقب بإبن سهيل، وقدموا له سيارة من موديلات ذلك الزمان، مع مصرف للحاشية كي يصبح أحد الشيوخ لتمرير الصفقة العشائرية وفرضها على الدولة العراقية الفتية. هنا سخر حبزبوز من هذا المسعى العشائري وعلق عليه  ببيت شعر ساخر قائلاً:

گومن يا حبايب جاچن ابن سهيل   من بعد المطية راكب طرمبيل

وبالرغم من الجهود والأموال وهدر الثروة الوطنية على هذا المشروع العشائري الفاشل، والمبادرة إلى تأسيس قوى ضاربة له. إلاّ أن  هذا المسعى لم يسعف الإدارة البريطانية في إخماد المعارضة الشعبية. فقد تناوبت الانتفاضات الشعبية، وكانت أبرزها وثبة كانون عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث وغيرها من الانتفاضات. كما لم تنقذ هذه المؤسسات غير الدستورية وغير الحديثة النظام الملكي من مصيره المحتوم ليسقط في ثورة 14 تموز عام  1958، التي ألغت كل القوانين البالية الخاصة بالعشائرية والعشائر. ومن اللافت للنظر إن كل هؤلاء "الشيوخ" ومسلحيهم وحاشيتهم لم يحركوا ساكناً من أجل دعم هذه النظام الملكي وأعوانه. فلم يتحرك أي من "الشيوخ" صبيحة الرابع عشر من تموز لدعم النظام الملكي، بل راح هؤلاء يبحثون عن مأوى لهم لتجنب غضب الفلاحين والمواطنين العراقيين بسبب تجبرهم في العهد الملكي.

ويبدو إن من تسلط على مقاليد الأمور في العراق، وخاصة بعد ردة شباط عام 1963، لم يتعض من دروس العهد الملكي ومشاريعه العشائرية ليكرروا نفس المنحى ظناً منهم أن ذلك يحقق لهم  دوام السلطة والهيمنة على مقادير البلاد. وهكذا سقط نظام البعث الأول في تشرين الأول عام 1963، وسار بديل الحكم اللاحق على نفس المنوال العشائري والطائفي الذي سرعان ما انهار على يد حلفاء الأمس دون أن تقوم العشيرة ورؤسائها بأي جهد للدفاع عن سلطتهم. ولكن أقطاب "الثورة البيضاء" من حكم البعث الثاني الذين سُلمت لهم السلطة في عام 1968، لم يتعضوا من هذا الخيار الفاشل. وشرعوا وباندفاعة وبحماس جديد بالعزف على معزوفة العشائر والعشائرية. ويتذكر العراقيون وخلال فترة ثلاثة عقود من حكم البعث في دورته الثانية كيف كان صدام حسين يجمع كل يوم ولساعات مملة طويلة "شيوخ العشائر" على شاشات التلفزيون ليستمع إلى ريائهم وشعرهم الهابط "وولائهم"، والتي استمرت حتى الأيام الأخيرة التي سبقت انهيار النظام في التاسع من نيسان عام 2003. وهنا بان فشل هذا المشروع العشائري عندما لم يتحرك هؤلاء لنجدة من كانوا يتغنون باسمه والتعبير عن ولائهم له عبر "هوساتهم" التي كانت تنقل على شاشة التلفزة. ويقال أن البعض منهم كانوا الوسيلة التي أوقعت صدام حسين بيد الغزاة الأمريكان.

إن العقل والمنطق يقول أنه من المفترض أن يتعض حكامنا الجدد و"الشيوخ" من مصير هذا الخيار العشائري الفاشل. ولكن يبدو أن المثل المعروف "لا يعض المرء من جحر مرتين"، لا ينطبق على من يجلس على كرسي الحكم أو يتصدر العملية السياسية في بلاد شريعة حمورابي. فهذا المؤمن، كما يبدو، ينبغي أن يُعض من جُحر عشرات المرات وقد لا يستفيد من تجربته الفاشلة. و بعد كل هذا الخيار العقيم للورقة العشائرية طوال تاريخ الدولة العراقية الحديثة، فقد نقلت وكالات الأنباء أخيراً الخبر التالي في 15/10/2011:" استقبل دولة رئيس الوزراء نوري المالكي بمكتبه الرسمي اليوم وفداً من شيوخ عشائر ووجهاء مدينة الصدر. وأشاد سيادته بدور العشائر المساند للدولة في دحر الارهاب ومواجهة التحديات. وقال السيد رئيس الوزراء أن من أصالة العشائر العراقية أن تنهض بتحمل المسؤولية في المواقف الصعبة.... ودعا سيادته إلى تشكيل مجلس وطني أعلى للعشائر العراقية يقوم بتنظيم هيكلية أداء جميع العشائر على أسس وطنية دستورية حتى يكون لها الدور المساند لمؤسسات الدولة، وتتحول إلى وحدة بناء متماسكة"؟؟؟. وأشار أحد النواب في اليوم التالي إلى أن الحكومة ستتقدم بمسودة مشروع قانون "المجلس الأعلى للعشائر العراقية" إلى مجلس النواب خلال أيام!!. ومن  الطريف أن رؤساء العشائر في مدينة الصدر لم يستطيعوا لجم الاعمال الانتحارية في المدينة رغم "كثرة" شيوخها ودورهم المساند في دحر الإرهاب كما يشير السيد رئيس الوزراء إلى ذلك.

إن الحكومة على عجل في تشريع قانون يتعارض مع القيم الديمقراطية التي أكد عليها الدستور، ويتعارض مع أسس تشكيل الدولة الديمقراطية الحديثة بتشكيل كيان غير قائم على المعايير المدنية والمساواة في الحقوق، ويتناقض مع وجود جهة قضائية واحدة وجهة تشريعية واحدة وجهة تنفيذية واحدة ومنفصلة بعضها عن بعض في البلاد كما نص عليه الدستور العراقي. وهنا يقع القائمون على إدارة البلاد في خطأ آخر في خرق أسس الدستور العراقي بعد أن بادروا إلى تبني مشروع "قانون مجلس السياسات العليا" المثير للخلافات والجدل. إن بناء دولة ديمقراطية عصرية يتطلب أول ما يتطلب أن تتوجه الحكومة إلى التعجيل بتقديم مشاريع قوانين تضع البلاد على سكة الاستقرار وإزالة  الفوضى، قوانين تتعلق بالمؤسسات الحديثة وليس بمؤسسات بالية ذكورية عفا عليها الزمن. إن الحكومة لم تقدم إلى الآن مشروع قانون لعمل مجلس الوزراء. كما أنها لم تقدم إلى البرلمان مشروع قانون الأحزاب كي ينظم الحياة الحزبية والسياسية كي تبتعد البلاد عن دوامة الفوضى التي تهدد استقرار البلاد. كما يجب على الحكومة التسريع بتقديم مشاريع قوانين خاصة بالمنظمات المهنية ومنظمات المجتمع المدني العصرية إلى مجلس النواب، لا أن يتم محاصرتها وكيل الاتهامات لها وتحديد نشاطها بالقوة البوليسية. كما ينبغي على الحكومة ومجلس النواب الاسراع والتعجيل بتصفية كل قوانين العهد البائد المقيدة للحريات الفردية والديمقراطية والمعرقلة للإصلاح الإداري وتسهيل شؤون المواطن. كما يجب العمل على تعديل المواد المتناقضة في الدستور والتي لا تفسر لصالح اشاعة الحريات الديمقراطية، بل لتقييدها. هناك أكوام من القوانين والتشريعات التي يتطلب عرضها على مجلس النواب لتشريعها بدلاً من اللجوء إلى تشكيل كيانات تتعارض مع القضاء العراقي ومع الحق العام ومع البت بالخلافات بين العراقيين تحت واجهة "القيم العشائرية" التي لا تجد طريقاً لها إلاّ في حالة انعدام دولة المؤسسات ودولة  القانون. فالعراق يحتاج إلى تشريعات تنطبق على كل العراقيين بدون استثناء.

إن التوسل بالعشائرية والعشائر يؤدي إلى مخاطر جدية تهدد كيان الدولة ومؤسساتها الواحدة والأسس الديمقراطية الحديثة في بناء الدولة العراقية. فهو يؤدي إلى خلق كيانان متعارضان من حيث المحتوى، أي مؤسسات للدولة بقوانينها وتشريعاتها، ومؤسسات موازية تحكمها قيم وعادات عشائرية وبدوية لا تتطابق مع تشريعات الدولة الديمقراطية الحديثة. وهذا ما يؤدي إلى تصدع الدولة بسبب تعدد مرجعياتها إضافة إلى إثارة الصراعات بين الكيانات العشائرية وإلى انهيار الأسس التي تقوم عليها الدولة المدنية. إن التوجه لتشريع "قانون المجلس الأعلى للعشائر العراقية" سوف لا تبقي أية قيمة للمؤسسات المنتخبة كمجالس الأقضية والمحافظات ولا لمجلس النواب ولا حتى للقضاء العراقي في حالة تشريع القانون العشائري، الذي سيزيد فضلاً عن ذلك من البذخ والهدر في المال العام والثروة الوطنية.

إن العالم بخطو خطوات ثابتة وسريعة نحو عصرنة مقومات الدول وتشريعاتها بما يستجيب لمتطلبات العصر الذي يتطور بسرعة من الناحية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ولا ندري سر هذا التشبث من قبل حكامنا بالادوات البالية التي لا تخدم أبداً متطلبات العصر ومظاهر القرن الحادي والعشرين ومصلحة البلاد. ليس من المعيب أن يعرف الإنسان أصله وفصله وانحداره العشائري والقبلي، ولكن هذا الشعور عبر عنه الشاعر قائلاً:

لا تقل أصلي وفصلي من أنا      إنما أصل الفتى ما قد فعل

 

فهذا الشعور بالانتماء العشائري لا يبني دولة ولا مؤسسات، ولا يوحد الأمة والشعب التي يتعرض نسيجه الآن للنخر جراء الخلافات والصراعات، وتعدد القيم والثقافات حتى داخل المجموعات التي تنحدر من قبيلة أو عشيرة واحدة. وهو ما نراه بأم أعيننا حتى في أعمال مشينة وقتل رهيب لأبناء العشيرة الواحدة والقبيلة الواحدة.

ينبغي أن لا يكرر رئيس الوزراء خطأ حكامنا السابقين في اللجوء إلى الورقة العشائرية. فالصحيح هو التوجه نحو إرساء قيم حديثة للمواطنة والوطنية التي تجمع جميع أطياف الأمة العراقية من أجل هدف نبيل هو أخراج العراق من مأزق الطائفية ومحاصصاتها المدمرة، ومن العشائرية وصراعاتها الدموية وتهديداتها التي طالت حتى الأطباء والموظفين الذين يسعون لخدمة وبناء الدولة العراقية. ويينتظر من رئيس الوزراء الاسراع بتقديم مشاريع القوانين التي تؤسس لدولة قانون ودولة مؤسسات وليس مشاريع كيانات عشائرية وطائفية تهدد الوحدة الوطنية للشعب العراقي، وهو ما يعزز مكانته السياسية خلافاً لتشبثه بالنغمة العشائرية التي لا تقدم بل وتؤخر.

16/10/2011

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.