اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• رأي متواضع في بعض روافد الإبداع الشعري

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 
 

د. هاشم عبود الموسوي

 

رأي متواضع في بعض روافد الإبداع الشعري

 

كُنتُ أودّ الخوض في موضوع أعمق وأكثر تعقيداً وهو عن "العبقرية لدى بعض الشعراء"، وبعد أن خطّطتُ لهذه الدراسة، وجدتها تحتاج إلى تفرغ ووقت ملائم، مما لا أملكه حالياً، فاختصرتُ جهدي بعد ذلك على إحدى مفردات هذا الموضوع ألا وهي: "الروافد التي ينهل منها الشاعر المبدع إبداعه".

من الثابت أن حركة العبقري بشكلٍ عام متجهة إلى استعادة النحن في تنظيمٍ جديد، غير أن المشاهدة تدلنا على أن لكل عبقري طريقه الذي يسلكه في هذا السبيل، فهذا يسلك سبيل العبقرية العلمية، وذاك يسلك سبيل العبقرية الفنية في التصوير أو الشعر أو الموسيقى، والبعض يسلك سبيل العبقرية السياسية، وهكذا. فماذا يُحدّد لكلٍ من هؤلاء العباقرة طريقه؟ أو بالأخص لماذا يكون العبقري شاعراً في بعض الأحايين؟ وهو ما يهمنا في هذه المحاولة الدراسية، وعن طريق الإجابة على هذا السؤال الخاص ربما يتسنى لنا أن نُحدّد الإجابة على السؤال العام.

الواقع أن سؤالنا لماذا يكون العبقري شاعراً، أو ما هو العامل النوعي الذي يميّز عبقرية الشاعر، قد يقود إلى اعتقاد خاطئ بأننا نبحث عن سببٍ مُدهش من شأنه إذا وجد أن يجعل حامله شاعراً عبقرياً يقرض الشعر الرائع فجأة وهو لم يكن يعرف من أمره شيئاً. فنحن لم نتعرّف سابقاً على مَنْ نَظَم الشعر العظيم دفعةً واحدة واستمر على ذلك طوال حياته حتى نبحث عن سبب لهذه الظاهرة المفاجئة العجيبة. أضف إلى ذلك أن منهجنا لا يتيح مثل هذه النظرة السيكولوجية، لأننا إذا وضعنا سؤال "لماذا" فإننا لا نكاد نفرّق بينه وبين سؤال "كيف"، ما دمنا لا نتعرّف على ذلك إلا بالتعليل الديناميكي التكاملي حيث أنّ هذه الظاهرة هي من نتاج المجال ككل وهي ذات تاريخ. فالمسألة إذاً يُمكن أن توضع هكذا: أمامنا شاعر. فلو أردنا الخوض في مجال الحديث عن العبقرية لديه (إن كان يمتلكها حقاً)، فلا مجال أمامنا إلا التوجه إلى تأريخ الشخصية أولاً.

وآنذاك لابد لنا من أن نبحث عن الإطار الذي يحدد إدراك المُبدع للأشياء، وهذا الإطار متغير ومتفرد لدى كل شخص، وهو الذي يُضفي على الأشياء دلالات معينة. ويوجه إدراك الفرد وجهة معينة. وقد بيّن "كافكا" بأن الإطار ذو تأثير قوي على مضمونه إلى درجة أن هذا المضمون تتغير دلالته إلى حدٍ بعيد بتغيير إطاره.. والإطار هو الذي يُحدّد التذوق لدى الأشخاص ويُفرّق فيما بينهم. وهو عامل نوعي في عبقرية الشاعر.. ولا غرو إذا قلنا أن تاريخ وجغرافية الأشخاص يؤثران بدلالة ديناميكية عميقة في اكتساب الإطار.

وقبل أن أذهب للتطرق إلى روافد الإبداع الشعري التي تساعد الشاعر على إبداعه أودّ أن استلّ هذا النص من القاضي أبي الحسن الجرجاني في تعريف الشعر، والذي ينقله عنه خلف الله (محمد) في كتابه "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده" الصادر بالقاهرة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، إذ يقول: "إن الشعر علمٌ من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان، ولست أُفضّل في هذه القضية بين القديم ولمحدث والجاهلي والمخضرم والأعرابي والمولد، إلا أنني أرى حاجة المحدث إلى الرواية أَمَسْ. وأجده إلى كثرة الحفظ أفقر. فإذا استكشفت عن هذه الحالة وجدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يُمكنه تناول ألفاظ العرب إلا رواية، ولا طريق للرواية إلا السمع، وملاك الرواية الحفظ، وقد كانت العرب تروي وتحفظ ويعرف بعضها برواية شعر بعض".

ويقول "البستاني": "ولعمل الشعر وإحكام صناعته شروط، أولها الحفظ من جنسه، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها، وقد يكفي لذلك شعر أحد الفحول المسلمين، مثل ذي الرمة وجرير وأبي نواس والبحتري وأبي تمام، ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم...".

ولكنني بتواضع أعتقد بأنّه يتحتم علينا مناقشة مشكلتين:

الأولى: اكتساب الأديب الإطار عن طريق الاطلاع على الأعمال الأدبية خاصة.

الثانية: يشترط هذا الاكتساب أن تكون عملية الاطلاع (التلقي) بوجهٍ عام منظّمة تنظيماً خاصاً.

فأما عن المشكلة الأولى:

فقد بيّنا من قبل كيف أن الإطار من أهم عوامل تنظيم الفعل، وفعل الإبداع، رغم ما قد يلوح للبعض، بأنّه خاضع لهذا الشرط أيضاً. وقلنا أن هذا الإطار مكتسب من حيث مضمونه، وقد قامت النصوص كلها على تحقيق هذا الرأي، بحيث نستطيع أن نعتبره فرضاً عاملاً، فنجزم بأن الإطار الشعري إذا لم يتوفر لدى الشاعر فإنه لن ينتج. وفي ذلك يقول "الدكتور يوسف مراد" "إن لم يكن الشاعر أو الأديب أو الفنان ذا ثقافة واسعة، أجهد عقله في اكتسابها لما أُتيح له أن يصوغ الآيات الفنية الخالدة التي تطوي الدهور طياً بدون أن تفقد روعتها، بل تزداد جمالاً كلما اتسعت آفاق الإنسان الثقافية وأصبح أوسع فهماً وأنفذ بصراً".

هذه الحقيقة لم تلق اهتمام الباحثين، بقدر ما لقيت لحظة الإلهام، فانصرفت الجهود إلى محاولة إنارة السبيل إلى الإلهام، قاصدةً إلى هذه اللحظة مباشرةً دون أن تهتم بمجالها، وهي في الغالب لم تقرر أنها مشروطة بأية حال، وكذلك اجتهد كثير من الشعراء أن يُخفوا هذه الناحية من تاريخهم، أعني كل ما بذلوه لاكتساب الإطار، حرصاً منهم على بقاء لحظة الإلهام ذات بريقٍ خلاب، أو هم لم يحسبوا أن لهذه الناحية أهمية تذكر فأغفلوا ذكرها، على أن هذه اللحظة وما يحيط بها من تحول مفاجئ للمجال الإدراكي بشكلٍ ملحوظ، كفيلٌ بأن يصرف انتباه الشاعر عن كل اللحظات الأخرى التي قضاها من قبل في التحصيل والتعرّف على الطريق. ومع ذلك فإن هذه اللحظة لا تبزغ إلا لدى شخصٍ يحمل الإطار، لتكتسب دلالتها بالنسبة إليه. وكثيراً ما تمرّ بنا، نحن الذين لسنا من الشعراء الكبار، لحظات تحمل موضوعات وآراء كان من الممكن أن تستحيل إلى قصيدة رائعة، لكن هذه اللحظات لا تلبث أن تتلاشى، لأنها لا تكون ذات دلالة بالنسبة إلينا، إذ أن الإطار الأدبي غير متوفر لدينا.

وفي ذلك يقول "الدكتور يوسف مراد": "ليس الإلهام شيئاً خارجياً يتلقاه المبتدئ كما يتلقّى الهبة، فإن ما ألهم به الشاعر "كولريدج" هو خلاف ما ألهم به "نيوتن" عندما رأى التفاحة تسقط على الأرض. فالإلهام يصدر عن الشخص، ولابد له من تهيئة التربة التي سينبت فيها، فإن أرباب الفن الذين يحدثوننا عن إلهاماتهم الخاطفة ينسون عادةً أن يذكروا لنا أبحاثهم السابقة ومحاولاتهم العديدة وكل ما قاموا به من القراءات والمشاهدات والتأملات التي تدور حول المشكلة التي تشغل ذهنهم. وربما يتناسون الإشارة إلى هذه المحاولات الشاقة لكي يرفعوا من قدرهم، وحرصاً منهم على ألا يطلعوا العامة على الوسائل المتواضعة التي يلجأون إليها في إخراج المعاني والأفكار في زيها النهائي".

على أن صلة الإطار بالإبداع صلة قوية إلى حدٍ بعيد، بمعنى أن الشاعر يلزمه إطار شعري والقصاص يلزمه إطار اكتسب بكثرة الاطلاع في ميدان القصة، وكذلك الحال بالنسبة للمصور يلزمه إطار حصل عليه بكثرة تذوق اللوحات وبالمثل حال الموسيقي والمثّال وسائر الفنانين جميعاً، وقد كان "شوبان" Chopin يقول: "أحس أني أنفعل لكل ما يقع في عالمنا هذا: الناس والسياسة والأدب، فإن ذلك يجد منفذاً إلى الخارج في صورة موسيقية. كل ما أراه في هذه الحقبة بارزاً، يجب أن أعبّر عنه تعبيراً موسيقياً". ومما لا شك فيه أن الشخص يحمل عدة أطر في وقتٍ معاً، تبعاً لشتى نواحي التحصيل التي تتعدد بتعدد مظاهر النشاط لدى الفرد، ولما كنا نقول أن الإطار عامل تنظيم لفعل الشخص فمن الميسور أن نستنتج أن هذه الأطر قد تتضارب أحياناً إذا كانت تتعلق بمستويات من النشاط متقاربة.

ولكن هنالك شخصٌ يحمل إطاراً شعرياً أقوى من كل أطر التعبير الأخرى. وهذا ناتج إلى حدٍ ما عن كونه اهتم بتذوق الأعمال الشعرية أكثر من غيرها، ولو أن الأمر كان على عكس ذلك وكان معظم اهتمامه منصرفاً إلى الاطلاع على الأعمال النثرية ولا يلتفت إلى الشعر إلا لماماً، لما قدّر له أن يُبدع الشعر يوماً من الأيام. ولعلنا نستطيع أن نستعين بهذه الحقيقة في توجيه النشء أحياناً، على أن هذه القوة التي نشير إليها لا تحصل للإطار عن طريق كثرة التذوق فحسب، بل عن طريق كون هذا التذوق عملية منظمة تنظيماً خاصاً، وهذا ما أريد أن أُبيّنه.

لا شك وأن عملية إبداع شعري يوجّهها إطار، وقد يُقال أن في هذا القول قضاء على جوهر الإبداع من حيث أنّه الخلق على غير مثال، لكن هذا الاعتراض يحمل بعض الخطأ، فإن الإطار من حيث هو كل منظم يخضع لظروف الشخصية المختلفة، بحيث لا يمكن أن يكون الإطار الذي أحمله أنا مطابقاً تماماً للإطار الذي تحمله أنت مهما حاولنا أن نقرّب بين اطلاعاتنا الحاضرة، فإن حاضر الشخصية ليس منفصلاً عن ماضيها إنما هو جزء ذو دلالة معينة في كل متكامل. أضف إلى ذلك أن للشخصية عدة جوانب أو عدة نواحٍ للنشاط وإذا استطعنا أن نتشابه في بعضها فلا يمكن أن نتشابه في كلها، فالشخصية على الدوام لها مميزاتها الخاصة حتى في أشد المجتمعات إثقالاً على هذه المميزات، فلا خوف إذاً على الإبداع من حيث أنّه الخلق على غير مثال.

والواقع أن فرض الإطار يستطيع أن يحل لنا عدة مشكلات هامة، كهذا التشابه الذي نلقاه بين أعمال الفنان الواحد، وهذا التشابه الذي نلقاه بين أعمال عددٍ من الفنانين فنقول إنّهم أصحاب نزعة مشتركة أو أنهم أعضاء مدرسة واحدة. أضف إلى ذلك أن القول بأن العمل الفني إبداع على غير مثال خطأ من بعض الوجوه، أو هو على أقل تقدير قول غير دقيق إلى حدٍ بعيد. فنحن إذا نظرنا إلى الشعراء العباقرة، نجدهم لم يخرجوا على أوزان الشعراء المعروفة في لغاتهم، وفي ذلك يقول "أدغار آلن ﭙو": إلى أي مدى تجاهل الشعراء الابتكار في النظم؟ كثيراً ما حدث ذلك، بل يندر أن يحدث العكس... ونستطيع أن نقول أنه انقضت مئات الأعوام دون أن يفكّر إنسان في ابتكار شيءٍ فيما يتعلق بالنظم". أضف إلى ذلك أن هناك تقارباً بين الأعمال الفنية لدى عددٍ من الفنانين المختلفين ذوي النزعة المشتركة، وتقارباً أشد بين أعمال الفنان الواحد لمعارض التصوير التي يشترك فيها عدد من المصورين، أنّه لا يلبث أن يجد نفسه أمام مجموعات من اللوحات كل مجموعة منها تبدو مكونة "لكل" له حظ من الاستقلال عن المجموعات الأخرى وذلك لما له من مميزات قد لا يمكن الإرشاد إليها بوضوح ولكن لا يمكن إنكارها، ومع أن المجموعة تضم بداخلها عدة اختلافات بين الصور، فإنها تبدو متماسكة يكون من القوة بحيث يفردها عن لوحات المصورين الآخرين، وكأنّها جوانب من عالم واحد محوره الفنان الذي صورها. هنا نستطيع أن نلمس أثر الإطار بكل وضوح، ونلمس إلى أي مدى يكون فعل الإبداع فعلاً منظماً. وربما استطعنا أن نفسّر أسلوب الفنان على هذا الأساس.

على أنّ هناك مشكلة أخرى على جانب من الأهمية، هي مشكلة الصلة بين الفنان والمتذوق، وهذه أيضاً يستطيع فرض الإطار أن يحلها، كيف أستطيع أنا أن أتذوق عملاً فنياً لم أره وليس من أبناء مجتمعي؟ الجواب على ذلك نستطيع أن نستمده من ملاحظة بسيطة، فإنّك إذا تحدّثت إليّ فقد لزمك أن تتحدث بلغة أفهمها وإلا فنحن لن نلتقي. ومعنى ذلك أن شرط التقائنا هو تحركنا داخل إطار واحد، أو بعبارة أخرى أن يكون فعل التعبير عندك منظماً بإطار مشترك بيننا إلى حدٍ ما. ومن المحقق أن تفاهم الأصدقاء أعمق والتقائهم يكون أيسر من تفاهم الغرباء الذين لا يلتقون إلا في استخدام ألفاظ واحدة.

وبهذا فإن الإطار الملزم للفنان المبدع لا يكتسب إلا بعملية تذوق منظّمة تنظيماً خاصاً. يقول "ريدلي" إن كيتس لم يكن يقرأ شكسبير كما يقرأه أي قارئ عادي، بل كان يبدو عليه أن قراءته موجّهة توجيهاً خاصاً، ومن ثم فقد كان لهذه العملية دلالة خاصة في نشاطه ككل، ونستطيع أن نلحظ بعض مظاهر هذا التوجيه في الخطوط التي تركها تحت بعض التعبيرات، والملحوظات الهامشية، ثم ظهور بعض العبارات الشكسبيرية أو التشبيهات ذات الطابع الشكسبيري في خطاباته وقصائده.

كذلك تبدو هذه الحقيقة في قول توفيق الحكيم: "أما أنا فلا تعنيني حكاية الكاتب بل يعنيني فنّه وسر صناعته وطريقة أسلوبه في البناء وخلق الأشخاص ونسج الجو وإحداث التأثير". وفي حديثه عن الأسلوب وكيف أنّه جعل يبحث عنه وظلّ متردداً وقتاً طويلاً، ثم بدا له أنّه الحوار، ومن ثم فقد ازدادت عنايته بتتبع خطوات الحوار عند من يقرأ له.

هاهنا يتبين لنا أن الإطار عند الفنان منظّم تنظيماً خاصاً، وبالتالي تكون له دلالة خاصة.

وقد أبدى "لـﭭين" هذه الملحوظة الهامة، حينما قال إن محصول الخبرة لا يتراكم على أساس شدة الذكريات ومدتها بل على أساس علاقته بالعملية كلها، ومن ثمّ فإن قراءتي لإحدى قصص جويس أو ﭭرجينيا وولف لابد أن تترك لديّ أثراً مغايراً لما تتركه لدى أصدقائي الأدباء الذين يقرأونها باتجاه خاص.

والظاهر أن هذا الاتجاه يكون له أثره الفعال في جعل هذا الإطار منتجاً، في حين أن الأطر التي يحصل عليها غير الفنانين من تذوقهم تكون غير منتجة.

أضف إلى ذلك أن المران الذي يمارسه الفنان من حين لآخر، للتعبير في حدود الإطار لابد أن يساهم في تنظيم هذا الإطار أيضاً، وبالتالي في زيادة قدرته، لأنّه كلما كان الكل أكثر انتظاماً كان أقوى أثراً، ويكفي لتحقيق هذا الرأي أن نشهد الفرق بين تذكرنا لمحاضرة "فهمناها" أي تلقيناها تلقياً منظماً، ومحاضرة سمعناها دون أن نُتقن فهمها. وازدياد انتظام الإطار ورسوخه معناه تغلّب تأثيره في السلوك التعبيري على الأطر الأخرى. وقد حدّثنا بعض الفنانين عن كثير من الأعمال ألّفوها ثم مزّقوها، وأحاديث "توفيق الحكيم" في هذه المسألة منتشرة في رسائله في "زهرة العمر"، فهو يقول في أحد المواضع: "... وبعد ذلك كله انكببتُ أكتب وأكتب مخطوطات... كان مصيرها كلها التمزيق، إن ما جعلتك تقرؤه منها.. لا يوازي جزءاً من عشرة أجزاء مما أخفيته عنك وانتهيت إلى تمزيقه قبل أن تطّلع عليه عين... إنها سهول من الصحاري والرمال تصوّر لنا سراباً بعيداً... وغير ذلك كم من الفصول التمثيلية كتبت ومزّقت.. ولكنني لم أقنط مع ذلك، لقد استمرت الحمى بعدئذٍ سنتين كاملتين تعاودني قاسيت فيهما كثيراً. لقد كان القلق مستحوذاً عليّ إلى درجة مروّعة، لأنّي كُنتُ أظنّ في الأدب مستقبلي...".

ولكن هل يكفي هذا الحديث عن التنظيم الخاص للإطار لدى الشاعر لكي نفهم مهمته على حقيقتها؟ الواقع أن فهم الإطار عند الشاعر لا يتأتى إلا بإدراك دلالته في الكل النفسي لهذا الشاعر. وإلا فالحدود لا تزال مختلطة بين الإطار لدى المتذوق والإطار لدى المبدع، وقد كان الأصمعي وحماد عجرد من خير من رووا شعر العرب، ومع ذلك فلم يُعرف عنهما إبداعٌ يستحق الذكر. هاهنا نتقدّم خطوة أخرى في سبيل إكمال الفرض الذي وضعناه.

فنقول أن مهمة الإطار كعامل نوعي في عبقرية الشاعر لا تتضح إلا بأن نضع هذا الإطار في بناء شخصية تعاني توتراً دائماً من ضغط الحاجة إلى النحن. فإن مثل هذه الشخصية التي تبدو مدفوعة إلى استعادة النحن لابد منها كأرضية يقوم فوقها الإطار المبدع، بحيث يُعين هذا الإطار الطريق إلى هذه الاستعادة.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.