اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

عندما رحل القطار -//- د. هاشم عبود الموسوي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

د. هاشم عبود الموسوي

عندما رحل القطار

بعد أن غادرنا الحدود الألمانية .. وعبرنا بعدها جيكيا وهنغاريا قاصدين إسطنبول.. وقبل أن يتوقف القطار في أول محطة يوغسلافية ، أصبحنا نشعر بالعطش الشديد (زوجتي وأنا والعائلة اليونانيةالتي كانت تقاسمنا كابينتنا ) .. حتى عربة المطعم لم يبق لديها منذ يوم أمس أي شئ للشرب يمكن لها أن  تبيعه للركاب لتخفيف  وطأة حرارة ذلك الصيف اللاهب عليهم   ، فكرت بأن أستغل توقف القطار في المحطة القادمة لنتزود بماء أو أية مشروبات غازية . إستعلمت من أحد الموظفين ، الذي كان يتجول في ممرات القطار ،  وعرفت بأن توقفنا في المحطة الحدودية القادمة سيكون لمدة نصف ساعة على الأقل . .  نزلت مسرعا وبيدي مستودع صغير ، كنا قد ملأناه قبل بداية رحلتنا بالشاي المعطر بالهيل  والذي نفذ بعد ساعات من بدء رحلتنا ، ولأجل التأكد من كفاية الوقت لتنفيذ مهمتي أعدت سؤالي على أحد العاملين في المحطة ، ممن كان يرتدي لباسا رسميا، عن الزمن المتاح لإقامة قطارنا في هذه المحطة  ، فأكد  لي هو الآخر بأنه لا يقل عن نصف ساعة

توجهت  فورا الى مصدر ماء  صافي آتيا  من الجبال القريبة  ، والذي  لم يكن يبعد أكثر من ثلاثين مترا ، وإنتظرت قليلا ، حتى أتم أحد الركاب ملأ قنينة كبيرة ، حاملا إياها  وعاد الى القطار  ، نظفت ترموس الشاي الذي أنزلته معي ، وبدأت بملئه بماء النبع البارد ، ولم تمر أكثر من خمس دقائق ، وإذا بي أشاهد القطار وقد بدأ بالتحرك . خلت للوهلة الأولى أنه قد  تتم  إجراءات فصل بعض العربات أو تبديل عربة السحب. ولكنني دُهشت بأن القطار قد غادر المحطة مسرعا دون رجعة  .

لا أدري وأنا مزمع على سرد تفاصيل ماجرى لي في ذلك اليوم ، أن يكون بإستطاعتي ، أن أستجمع ذكريات حادثة مر عليها أكثر من أربعين عام .. ربما يساعدني على ذلك ، أن بعض المواقف المؤثرة بعمق في مشاعر أي إنسان ، لا يمكن له أن ينساها أبدا ما دام حيا .

كانت مصابيح المحطة تتثاءب وهي تودع آخر خيوط الظلام لتستقبل بعد قليل أول خيوط للشمس .. ووسط دهشة النازلين والمستقبلين وحتى العاملين في المحطة ، لإنطلاق القطار بهذا الشكل المفاجئ ، والغير معتاد .  أدركت بعد لحظات بأن مغادرة القطار  وبسيره المتسارع .لم يتأئربها أحد من كل هؤلاء المندهشين غيري أنا  . وجدت نفسي أنا الخاسر الوحيد .  بلا زوجة ولا وثيقة ولا نقود . وقفت مشلولا عن الحركة في تلك الدقائق المشؤومة ، وإصطخب اليأس في رأسي ، ماذا سأفعل ؟ وكيف أستطيع أن أخمن ماذا ستفعل زوجتي ؟ هل ستنزل من القطار في المحطة القادمة ، لتعود الى هنا ، و تلتقي بي في هذه المحطة ؟ إم إنها ستبقى هناك منتظرة أن أقدم إليها  ، ولكن كيف ؟ أو قد تبحث عن ممثلية للعراقين ، وتخبرها بأنها فقدت زوجها الذي لا يملك أي شئ يعينه على إثبات هويته ؟ الأسئلة تنزل على رأسي مثل الصواعق .. وفجأة تقفز الى رأسي فكرة جهنمية ، لا بد أن ألحق بالقطار. ليس لدي ما أخسره  . ولابد من قيامي بمغامرة  حتى وإن كنت لست ضامنا نجاحها .   لا بد لي  من الآن أن أرفض الهزيمة وأتحدى التهديدات التي تواجهني ، علي ألا أقتنع بواقع أجبرت أن أكون فيه ..  خرجت مسرعا من المحطة ، لأقف أمام مجموعة من سائقي سيارات  التاكسي ، سائلا إياهم : (من منكم يجيد التحدث بالألمانية أو الأنكليزية  ؟) . أجابني إثنين منهم بأنهما يفهما الألمانية ويستطيعا أن يتحدثا  بها بشكل محدود  . إخترت أن  أروي ماحدث لي للسائق الأكبر سنا ، والذي تماثل لي بأنه آنذاك كان في الخمسين عمره ، وسألته إن كان يستطيع أن يلحق بالقطار المغادر ، موضحا له بأني لا أستطيع أن أدفع له أجرته إلا بعد وصولنا بوقت مبكر الى  المحطة القادمة ، و إلا بعد نجاحنا سوية بالوصول قبل توقف القطار هناك  ،  وأني لا أحمل وثيقة سفر ولا نقود .. وكلها بقيت بالقطار مع زوجتي  .. لم أكن أتوقع بأنه سيوافق على مشاركتي بهذه المغامرة . تمهل قليلا قبل أن يجيبني على طلبي هذا ,,  ويا لفرحتي وإحساسي بالغبطة ، حين سمعته يقول : " هيا .. هيا إستعجل بالصعود الى السيارة " ..  وعندما إنطلقنا في رحلة مبهمة النهاية  ، بدأ مرافقي بتطميني بأن طريق  السيارات السريع الذي تم إنجازه قبل سنتين هو أقصر من مسافة سكة الحديد الواصلة الى محطتنا القادمة . لا تقلق سنكون هناك قبل توقف القطارفيها . وسترى زوجتك  بعد ساعتين ، وستواصل رحلتك وكأنك لم تقطعها بهذه الحادثة العرضية التي واجهتك .  ثم سألني عن إسمي ، وأين أعيش ومن أي بلد أنا ، ولشعوري بأن ذلك لا يقدم ولا يؤخر شيئا في الأمر ، وبتململ أجبته بكلام مختصر ، لكنه  إستفاض في حديثه معي ، ذاكرا أن  إسمه  "ليليان" ،و سرد لي معلومات  عن عائلته ، وعن مدينته . . في الوهلة الأولى شعرت بأن هذا السائق المهذار مهما يكن من أمره  فسوف لا يكون مهتما بي ، ولا بحزني وقلقي الشديدين .. همه  الوحيد هو أن يحصل على أجرته لا غير .  بهذه اللحظات حاول اليأس أن يقبض على كل مشاعري وكاد أن  يغرقني بإغماءة قصيرة

خارج السيارة ، كانت الريح تطاير روائحا زكية ..لكني غلفت نفسي بخواطر وخلجات ملتبسة وشعرت بأن أصابعي بدأت تتجمد واحدا بعد الآخر . والسائق الهادئ في داخله يمد يداه بين الحين والآخر الى علبة السجائر ليشعل إحدى اللفافات  صرت  أتصور وهومتلذذ بتدخينه بأنه ربما  يحلم مثلي ، ولكن بمواضيع ومشاهد أخرى .. بدأت ذكريات قديمة تداهمني .. بعضها كان حلوا ، وبعضها ذقت فيه مرارة نتائجه  ..

بعد فترة  خيم صمت محموم على حديثنا ، نحن الأثنين ، لم أعد أسمع سوى صوت محرك السيارة ، وحفيف عجلاتها على الطريق .. إستجضرت من ذاكرتي كل المحن والمواقف الصعبة التي مرت علي ، ولكني قارنتها مع هذه التي أنا فيها ، فلم أجد وجها للمقارنة .. فأنا هنا ، وكأن طيرا من السماء قد ألقى  بي في أرض لا أعرفها ، ولا أعرف فيها أي أحد ، ولا أفهم لغة ساكنيها ، وليس في يدي أي وثيقة لتدل علي (من أنا) .. ليس في جيبي نقود لأسد بها رمقي عندما أجوع أو يباغتني العطش. أنا عاريا هنا  تماما من كل أوصاف آدميتي ، وغريبا  تحت سماء الله ورحمته .

وتمر الثواني والدقائق وكأنها أيام ٌ طويلة. إستذكرت في هذه اللحظات طفولتي ومغامراتي الصبيانية، ومآزقي المتكررة .. كل تلك المحن التي إستذكرتها ، لا تشابه و لا تساوي ربع ما أنا عليه الآن من موقف كارثي، والذي لا أتمناه أن يمر به أي إنسان . وعندما كنت غارقا بالتفكير بمصيري ، لم أستطع أن أتمتع بزرقة السماء الصافية ، وغابات الأشجار الباسقة ، والجو الصيفي في أوربا الباعث على كل نشاط وسرور، و كأني لا أرى غير شجر محروق وخشب ميت وشظايا سوداء. ..عندما كنت أشاهد  كلابا على الأرض ، وعصافيرا فوق أغصان الأشجار، وعلى أسلاك الكهرباء ، كنت أحسدها لأنني صرت أخالها مبتهجة ،لأنها لم تنتسب الى البشر الذين يعانون من وطأة الجغرافية وتقسيمات الحدود، والسيطرات التي قد تعترضها في مسارات سيرها  أو طيرانها في السماء  .

إسترجعت في ذاكرتي صورة  بعض ألأصدقاء، وأهل زوجتني وهم يودعوننا  بالزغاريد في محطة القطار ببرلين ، وكأننا ذاهبان الى شهر عسل جديد ، رغم إن زواجنا قد مر عليه أكثر من نصف عام. بدأت أتصور الآن  زوجتي وهي جالسة في القطار باكية ومكتئبة. فمتى وكيف ألتقيها لأطلب مغفرتها، وهل ستقبل إعتذاري؟ ، وأنا ما زلت أمارس مغامرة لأ أعرف نتائجها. بدأت أطرح أسئلة كثيرة على نفسي . تمنيت لو تدري أمي بما أنا عليه من ضياع ، ربما ستبدا شفتاها بترديد تعاوذيها القديمة التي كانت تهدهد من خلالها مخاوف قلبي ، وقد يكون دعاءها في  صلاتها هو الأقرب الى الله   ..

أليس الناجون من التائهين من أمثالي هم من القلة ، بحيث لم تنتشر أخبارهم..

رغم أني كنت مشدودا الى النافذة ، محاولا أن أنفصم عن الفضاء الضيق في داخل السيارة وأنا أرى شاحنات على الطريق تنقل الخيول الصابرة تحت أشعة الشمس ،  لكنني لم أستطع أن أندمج حتى مع  ما أراه خارجها ، وكأن هذا العالم الذي حولي قد  صار معادٍ لي ، ولا يريد أن يتدخل في حل مشكلتي.

كانت تدور في رأسي أسئلة : كيف يبتعد النهر عن ضفته ؟ والأشجار عن الطيور؟ والغيمة عن البحر؟ وكيف يمكن لي أن أكون بعيدا عن حبيبتي في محنتها

.. نظرت الى السماء شاهدت غيمات متناثرة هنا وهناك  أحسست بأنها تشبهني في تناثر أفكاري وتَحَفزَ قلبي الى لقاء زوجتي الطيبة التي تحزنها الأيام الشتوية.. رأيت أسراب طيور عائدة من هجرتها .. طرحت السؤال على نفسي: كيف يمكن لي أن أتعايش مع هذا الظرف ؟ وما الذي يمكن لي أن أفعله هنا .. أنا خالٍ من أسلحة النجاة ، لا حول لي ولا قوة غير الله ومروءة "ليليان" ، كلما يتوجب علي هو  أن اسيطر على خوفي و أهادنه ,, يجب علي أن أختار الجمل التي لا تستفز رفيق سفري ، رغم أني في قمة مشاعري المأساوية ، فهو لا ذنب له فيها .. لقد تقبل أن يبدي لي المساعدة بكل شهامة .. وأنا الغريب الذي لا يعرف عني أي شئ ,,علي أن أعلن الهدنة معه ..لا أدري كيف أبدأ بالحديث معه .. هل يتقبل  الحديث عن الزواج أو الحب أو الشعر أو السياسة  هل سيستأنس لأسئلة ربما لا يريد التحدث عنها .. بلا إنتظار طويل قفز سؤال سخيف مني ومن دون تحضير: هل أنت متفق مع تيتو وسياسته الحالية ؟ تفاجأت بليليان وهو متحمسا للحديث عن موقفه مبتدئا بالقول : (أنا شيوعي ، وناضلت طوال حياتي من أجل العدالة والمستقبل السعيد لشعبي ولكل البشرية ، وإشتركت  مع رفاقي بحرب العصابات ضد الإحتلال الألماني لبلدنا ، وقمنا بأعمال بطولية ، سنبقى نفتخر بها ما دمنا أحياء .. ولكني حاليا محبطا ولست راضيا  عن السياسة الحالية لقادتنا التي تتسم باللعب على الحبال والتشدق بسياسة الحياد الأيجابي والإنحراف عن المبادئ التي تعلمناها وإستشهد الكثير من مناضلينا في سبيل تحقيقها، أنا منحاز حاليا للثورة العالمية التي قادها الدكتور جيفارا، ذلك الوزير الذي ترك منصبه ، وإتجه الى إشعال الثورات ضد الظلم في بقاع الأرض، ألا رأيت صورته ملصقة على سيارتي ، رغم أن سلطتنا لا ترغب بذلك) . و بغتة يتوقف ليسألني عن رأيي فيما أدلى به. وبعدما عرف بأني أحمل توجهات يسارية ،  وأنتمي الى فصيل ثوري في العراق وأن أعز أصدقائي ورفاقي كانوا قد إستشهدوا في إنتفاضة أهوار جنوب العراق ، التي لم تتاح لي الفرصة للإلتحاق بها .. قاطعني بقوله ، بأن بلاد ميزوبوتاميا  ومنذ القِدم كانت ولا تزال تصنع الأبطال .. وتحدث لي عما عرفه عن إنقلاب شباط الفاشي في عام 1963 ، وعن قطار الموت وما جرى فيه من معاناة لخيرة العراقيين.. أحسست الآن بأني أرافق صديقا ، وكأني أعرفه منذ زمن بعيد . ولا أدري لماذا أطبقت أجفاني وغرقت في نوم مفاجئ ، مثل طفل إطمأن الى حضن أمه ، وتناسى كل ما يحيط به  من مخاطر .. أفقت بعدها وصوت ليليان يناديني بوجهه البشوش ، ليقول لي أنظر الى هذه اللافتة الكبيرة على الجانب الأيمن من الطريق ، من الضروري أن تعرف قصتها ، فهي بالتأكيد ستثير إهتمامك وستنقلها الى رفاقك حتما ، لأنها تمثل إحدى المآثر البطولية التي  يجب أن يفتخر بها كل إنسان تقدمي وفيا لشعبه ومتشبع بالأفكار الأممية .  أدهشني هذا الكلام وأنا بين اليقظة والمنام فسألته عن محتوى الجمل المكتوبة بحروف كبيرة على  تلك اليافطة التي يصل حجمها الى 30 مترا . ويالعجبي حين ترجم لي تلك الجمل، التي تطلب من السائقين أن يتوخوا الحذر من الكلاب الألمانية وأن لا يترجلوا من سياراتهم ، حتى وإن أصابها العطل  بهذه المنطقة الخطرة ، وأن يبقوا بداخلها منتظرين أن تأتي سيارات الإنقاذ لهم .. أصبت بالحيرة أكثر وأنا أسأله ، ما سر هذه الكلاب الألمانية  ومن أين أتت ما دام هنالك بلدان يفصلان ألمانيا عن بلدكم؟  شاهت الشوق يومض في عيني مرافقي  ليتحدث، وهويسرد لي ما جرى من معارك على تلك الهضبة كثيفة الأشجار، قائلا :  (فوق هذه المرتفعات كانت قد إستقرت جحافل الألمان الغزاة مصطحبين معهم كلابهم الشرسة ، وبعد خطة محكمة من مقاتلينا ، تم الهجوم عليهم في أحد الليالي ، وبعد معركة طاحنة ، تم قتل كل الجنود الغزاة ، وكتب فيها النصر لمقاتلينا الأبطال، وبقيت كلابهم سائبة في هذه الغابات ، وبمرو ر الزمن إقترنت و تناسلت مع الذئاب ونتج عن ذلك جيل شرس من الكلاب المتوحشة التي تمزق أجساد البشر وتأكلها، مستكملا بالقول هذا ماتركه لنا الألمان ، لم يتركوا لهم أي ذكرى حسنة )..

بعد أن توقف ليليان عن الحديث ،قلت لنفسي  ، ما أسعد الأنسان ،عندما يمر بلحظات قاسية ، ويجد من يواسيه ، ويبعث فيه الأمل ، ويتحدث إليه بلهجة أبوية مطمئنة . ها هو ليليان ، الذي إنبثق إلي من قلب الأزمة ، وهويتحدث مثل عراف خبر حقيقة الحياة  ومفاجأتها .

وبإشارة برقية مباغتة  .. عدت أرى زوجتي وهي باكية ، متوسلة  إلي بأن أنقذها مما هي فيه .. عدت أشعر بالعار الذي قد يلحقني ، إن لم أستطع من إنقاذها .. ما جدوى هذا الحديث الممل والتطمينات المفتعلة التي يطلقها ليليان ، إن لم نكن قادرين على الوصول الى المحطة القادمة قبل القطار .

ووسط هذه الوساوس ، يضغط ليليان  بشكل مثير للأعصاب على كابح السيارة ليوقفها عند إمرأة قروية شابة، تضع بجانبها طبقا كبيرا مملوءا بالفواكه والخضار

وبلا وعي صرخت بوجهه: ( ماذا تفعل؟  لم هذه الرعونة؟، أنت لاتشعر بما أنا فيه .. أهمك الوحيد هو الحصول على أجرة إضافية، سأعطيك ما تريد عند وصولي . دعك من هذه النزوات ، ماذا تريد من هذه المرأة القروية .. لا وقت لدينا لنستجيب الى نزواتنا). لم يجيب على هيجاني ، والأنكى من ذلك أنه  دعى هذه الشابة للصعود مع طبقها  والجلوس في المقعد الخلفي  ، وتحركت السيارة ثانية ، وتبادل السائق كلمات الترحيب و التحية معها باللغة التي لا أفهمها ، ثم إستادر برأسه الى جانبه الأيمن ليتحدث معي باللغة الألمانية ، مبتدئا القول : (بعد هذا الزعيق الذي أطلقته علي كنت أستطيع أن أنزلتك من السيارة في هذا الطريق الذي لا تجد فيه من يعينك ، لولا إني أشعر بما أنت عليه من حزن وقلق ، .. أنا أعرف  تماما ماذا أعمل . ومثلما وافقتك على مغامرتك هذه ، ووعدتك بأني سأوصلك الى ما تريد . كذلك فإن هذه المسكينة ربما كانت واقفة هنا منذ وقت طويل تحت أشعة الشمس الحارقة ،  هي أيضا تحتاج الى مساعدة و ربما تتعرص الى مضايقات من سواق أخرين ، فمثلما أنت تحتاج الى مساعدة هى  الأخرى تحتاج إليها أيضا). ثم عاد يتحدث معها بلغتهم ، ولم أعد أهتم  بمحتوى حديثهم ..ولزمت الصمت ، محاولا إستعادة توازني ، وكان علي أن أستكشف صعوبة الموقف الذي حدث ، ولا بد لي  أن أحقق تفاعلا أفضل ..  بعد مواصلة سيرنا لمدة نصف ساعة ، أوقف السائق  السيارة لتنزل تلك الفلاحة الشابة ، محاولة أن تدفع له أجرة نقلها ، لكنه رفض ذلك ، معبرا بلهجة يفهم منها أن مرافقي كان في أعلى درجات  الكرم والسمو الأخلاقي  .. شعرت بأني كنت خاطئا بتقديري لتصرفه .. ومرت دقائق من الصمت ، وكل واحد منا كان يبحث عن بداية للحديث مع الآخر . عاد ليليان يداعبني بصوته الحنون قأئلا : (أتصدق إننا إقتربنا من الوصول الى القطار ، ألا تنظر الى ذلك الخط القاتم عند الأفق في الجانب الأيسر من الطريق، إنه القطار يا صديقي ، وسنجتازه قريبا).. بدأت حقا أشعر بإخضرار الأشجار، وزرقة السماء و بهاء الغابات التي تحد الطريق من الجانبين .أضاف ليليان: (ستكون قريبا بوضع أحسن، وستغمرك البهجة حين تراك زوجتك وأنت واقفا تنتظرها بالمحطة ) .. بدأت الفرحة تتسرب رويدا ، رويدا الى قلبي  .. وفكرت وأنا صامت بأني لا بد أن أدخر بقية فرحي للقاء  الحلم .  بدأت أسترجع صورة الكابينة التي ضمتني أنا وزجتي ، والعائلة اليونانية ، وأرى مكاني فيها فارغا ، وتصبيني رعشة فرح غامر ، حالما أتصور بأني قريبا سأعود لأجلس فيه .. صرت أسمع ليليان وهو يغني فرحا وبكلمات لا أفهمها ، لكنني  كنت أتذوق في صوته الشجي كل السرورالذي أغرقني بإيقاعات سماوية ، نسيت من خلالها  قلقي .. ليليان يتوقف عن الغناء ، ليشير لي أن أنتبه بأننا سنعبر سكة القطار في هذا  التقاطع الذي سيصله القطار قريبا .. دخلنا بأطراف المدينة في شارع مزدحم بالسيارات ، وضجيج باعة وزبائن على الأرصفة  ، وعند توقفنا أمام إحدى إشارات المرور، لاحظت على ليليان إنزعاجه ، وربما ساوره القلق بأنه ربما لا يستطيع أن يحقق الوعد الذي قطعه على نفسه .. فجأة ينطلق بسرعة هائلة ، ويجازف بين السيارات بأعصاب متوترة و بمهارة عالية ينهب الطريق نهبا  ، ثم يضغط على الفرامل ويوقف المحرك  أمام بناية ذات سقف مرتفع  تبدو وكأنها كانت قد بنيت قبل نصف قرن ، طالبا مني بلهجة  آمرة أن أنزل من السيارة بكل سرعتي ، وأدخل المحطة .. لأكون قبله هناك .. ويكرر: (إسرع .. إسرع يا هاشم  سيأتي القطار، سأوقف سيارتي وأتبعك).  وقفت على الرصيف متلهفا وإلتحق بي ليليان .. سمعنا نحيب عجلات القطار وهي تأن وتتلهف الى إستراحة في هذه المحطة  بعدما  إجتازت محطات كثيرة و متباعدة . . توقف القطار المنهك من رحلته الطويلة  ، وبدأ القلق ينهشني  وأنا أردد ،ربما بصوت مسموع: (ياربي ماذا جرى، ماذا أرى، وماذا أسمع)، ما للركاب يطلون من نوافذ القطار .. وينادون:  (إنظروا  .. إنظروا هذا هو الراكب الذي فاته القطار.. تعالي يإمرأة هذا هو زوجك بإنتظارك بالمحطة). نزلت زوجتي مسرعة لتعانقني . بقينا نقبل بعضنا وندور متعانقبن ، ونسمع تصفيق إحتفالي ، وبهجة من المسافرين الذين تجمهروا و إلتفوا حولنا ، كأن رحلة زفافنا قد بدأت للتو .. إنتبهت الى ليليان، وشاهدت عينيه تغرورقان بدموع الفرح . قدمته بسرعة لزوجتي ، وقلت لها لولاه لكان يصعب علينا أن نلتقي ثانية ، صعدنا الى القطار وظل ليليان يومئ إلينا بيديه ، حتى إبتعد القطارعن المحطة. ورغم الفقاعات الصغيرة والكبيرة  التي مرت علي طوال حياتي، فأني لم أنس تلك الساعتين المفزعة ولا زلت أتذكر ليليان حتى يومنا هذا، بعدما رسم في مخيلتي ووجداني رحاب الذرى الأنساني ,  ومشيئة المعجزة .

----- كان ذلك في صيف 1971 .

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.