اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• القوش مُهجة العين

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 
 

نبيل يونس دمان

 

  القوش مُهجة العين

 

     بعد فراق قسري للبلدة التي أنجبتني وربتني وعلمتني، انساناً شق طريقه في الحياة الذي احاطته الصعاب، شأني شان اترابي من ابناء جيلي الذين عاشوا تقلبات العراق السياسية، وتجرعوا موجات الحروب وضراوة الجوع ومرارة الهجرات، ذلك قدرنا الذي مهما كان علقماً علينا جرعه، هكذا عدت الى احضان القوش بعد رحلة امدها 28 عاما طويلة في كل المقاييس. 

 

      كنت احلم ان انزل اليها من الجبل، او اصعد من الموصل، لكن الظروف شاءت ان آتي اليها من اربيل عبر طريق طويل نسبياً، وحال استدارت السيارة حول مفرقها ودون ارادتي ساحت دموعي، فانتبه قريبي صباح جهوري الذي اقلني، فقطع حديثه ليشاركني عمق مشاعري وآلامي.

     حال وصولي الى بيت عمتي وبعد استراحة قصيرة طلبت من اولادها مرافقتي للتجوال سيراً في ازقة البلدة، وصولا الى بيت أبي الذي لم نعد نعيش فيه، فاكتحلت عيني برؤية البيت الذي عشت فيه قرابة ربع قرن بفرح وطلب العلم من مدارس البلدة، لن اطيل عليكم كثيرا  فقصدنا نادياً يرتاده العشرات، وصرت افاجئ الجميع بالسلام عليهم وباسماء غالبيتهم المقاربة اعمارهم لي، وكأنني قد غادرتهم لاشهر وليس لعقود.

     في الايام التالية صرت ازور مزيدا من الازقة والساحات والاسواق والكنائس والاديرة، حضرت قداديسا في كنيسة مار كوركيس العتيقة وكنيسة المار قرداغ، زرت المطرانية وزرت مقرات الاحزاب في البلدة وزرت ايضا مدير الناحية وقائمقام تلكيف. لقد طرأت على البلدة تغييرات جمة، وهناك احياء كاملة كانت في السابق اراض زراعية، كما طال الخراب عديد من بيوتها القديمة في كل احيائها، رغم ذلك شاهدت البلدة تتدفق فيها شرايين الحياة بعنفوانها، كم كانت منطقة ( خووشا، ورومه د جنقا) في غرب البلدة جميلة باشجارها وشارعها الملتوي الى دير الفادي حديث الانشاء، لقد كانت مبادرة العزيز صباح توماس( ابو ليلى) رائعة وبمساعدة الاهالي لاستحداث منتزه يطرب له القلب وتنتعش به النفس، وكم كانت فرحتي كبيرة وانا ارى تلامذة المدارس في صباحات البلدة الرائعة، وهم يحملون كتبهم الى مدارس البلدة اوكليات الموصل في اوقات حرجة وصعبة للغاية، من الظروف الملابسة لتلك المدينة الأُم. 

 

     حضرت مناسبة كبرى ومتميزة في مرافقة جثمان الخالدين توما توماس وزوجته الماس زلفا الى مثواهم الاخير في بلدتهم، ليمتزج جسميهما باجساد ابائهم واجدادهم، الذين سلموا راية الاباء من جيل لجيل، حتى انتزعها البار توما توماس ليحملها الى الذرى. في تلك المراسم التي يعجز القلم عن وصفها، التقيت بالعديد من المعارف السابقين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: عزيز محمد، توما القس( ابو نضال) صبحي خدر( ابو سربست) هاشم العناز( ابو جاسم) بنيامين حداد وغيرهم. 

 

     وحضرت امسية شعرية في الجمعية الثقافية فالقيت احدى قصائدي، واستمعت الى عدد من الشعراء من داخل القوش ومن خارجها، عبق الجو بكلماتها ونظمها. كذلك امضيت عدة ساعات في الجمعية الثقافية الكلدانية، وقد احاط بي الشباب من كل جانب فكان ذلك مبعث سروري. وكان لزيارتي الخاصة الى محلة اودو وقعاً شديداً على نفسي، فزرت البيت الذي ولدت فيه قبل قرابة الستين عاما، والذي عاش فيه رئيس القوش ميخا دمان، يقابله بيت جدي لامي الذي هو الاخر يتحدى الزمن ببوابته والكتابة والزخارف على اعمدته الرخامية، والذي فيه عاش البطريرك المعروف مار يوسف اودو. كذلك زرت ضريح النبي ناحوم وشهدت الحالة المبكية التي فيها، وهو آيل للسقوط وقد سقط بالفعل جزء من سقفه، لكن مع ذلك يشمخ طوال الازمنة الصعبة التي رافقته منذ عصور سبقت ميلاد المسيح وحتى يومنا، وفيه نرى ضريحه مغطى بالناؤس الاخضر وبكتابات عديدة باللغة العبرانية في بقايا جدرانه. 

 

     كذلك زرت قرية بهندوايا التي كانت وما تزال بمثابة مصيف اهالي القوش وغيرهم، هناك رأيت آثار الملكة الآشورية( شيرو) الشاخصة الى يومنا هذا بعد ان قطعت مسيرة آلاف من السنين، ولكن أحزنني توقف الماء في طواحينها فاضحت مهجورة يابسة وكأن الدمع قد جف في مقلتيها، فراق الزمن القريب، عندما كان ماءها يتدفق ليدير دولاب الرحى، يا ايها الرحى الذي كنت مترنماً مع دوران دولابك، وخرير مائك، وشدو أطيارك، وميس أغصانك، هل يعود الماضي لأخبره ما فعل الحاضر!. 

 

          زرت دهوك بعد عبور طريق اقصر من السابق بسبب بحيرة السد، هناك التقيت زملاء قدامى منهم المهندس توما اوشانا، رئيس جامعة دهوك الدكتور عصمت محمد خالد، ومدير الطرق الاسبق الشيخ مأمون نور محمد الذي زرته في بيته فاحسن استقبالي وتبادلنا الاحاديث والذكريات الاثيرة على النفس من نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، اما زيارتي لأغا المزورية الصديق ابراهيم علي الحاج ملو، فلم اوفق نظرا لحالته الصحية. 

 

     ليلة الثالث من اذار طلب سلام تومكا، صديق الجيرة والنضال مصاحبته وولده في الصباح الى مدينة الموصل، لم اخف ترددي ومع اصراره قررت النزول وانا احمل هوية عراقية صادرة عام 1980 الى مدينة الرعب التي شهدت في السنين الماضية ذبح الابرياء من مختلف الملل والاديان، خصوصا الاقلية المسيحية المسالمة التي تلقت ولا تزال اقسى الضربات، هكذا نزلنا وعبرنا القرى والبلدات: الشرفية، تلسقف، باطنايا، تلكيف، ومع وصولنا الى مثلث الطرق شاهدت حياً جديدا عامرا قد بني في فترة غيابي الممتدة من عام 1982- 2011، ومع انحدار السيارة الى منطقة الرشيدية جلب انتباهي سوراً موازيا للشارع من الشرق فسألت عنه، فقالوا انه السور الذي بناه المقبور صدام ليحيط مساحة من الارض الغنية بالآثار وليبني قصور لهو وعبث كما كان يتصرف بأية بقعة من العراق وكأنها ملك والده... سرحت السيارة الى حي الجامعة، شاهدت جامعتي التي تخرجت منها عام 1976 وكيف تآكلت من عاملي الزمن والاهمال، فرحت لكون مبنى كلية الهندسة والعلوم والاقسام الداخلية والملعب ما زالوا قائمين، كذلك شاهدت محطة الوقود قرب ملعب الجامعة تلك المحطة التي كانت عماد تعبئة سيارات النقل في بلدتي وغيرها، لا زالت شاخصة، وقد آلمني سيل المركبات في طابور لتعبئة الوقود. لا اكتمكم كثافة العسكر في كل المناطق التي مررنا بها وكذلك السيطرات ونقاط التفتيش، ثم توجهنا الى منطقة الفيصلية الاقرب الى قلوبنا في الموصل كون فيها كراجات قرانا وفنادق يمتلكها ناطقين بلساننا امثال فندق: خننيا، فندق ثامر، وفندق خوشابا( نسيم الزهور)، كذلك نزلنا امام المحل التجاري الذي كان يملكه الاخوان هندو و حنا اسمرو والذي كان مقفلاً، بعد ان اوقفنا السيارة في احد الفروع، وفي تجوالنا كنت اقول لسلام لنعد الى السيارة قبل ان يلصق بها شيئا!! فكان يبتسم غير مبال، ويقول لو كان هناك خطر عليك ما اصطحبتك، واخيرا قفلنا راجعين عن طريق محاذ لدجلة الخير عبر الغابات الجميلة التي كان المرور فيها قليلا في تلك الساعة، عند نفق الجامعة اوقف صاحبي السيارة امام مكتب الديري للسياحة، هناك استقبلنا بحفاوة صاحبه اسامة احمد، روينا ظمئنا من ماء نينوى العظمى، وتبادلنا الاحاديث الودية خصوصا بعد معرفتهم باني قادم من اميركا واخذ احمد يسأل عن صديق لوالده يعيش في مشيگان فكتب رسالة قصيرة حملتها معي. انهينا رحلتنا الى الموصل التي ستزول عنها تلك الغمامة ان شاء الله، فتصحوا من جديد لتلحق بالمدن الاخرى، ولتصبح في مقدمتها، وهي مدينة التاريخ والعلم والربيعين. في تلكيف توقفنا لأمعن النظر في تلك الازقة الضيقة والبيوت المبنية من الجص والحجر منذ عشرات السنين، تتحدى الزمن في بقائها الى اليوم، وقد زرنا بيت المغني ساندي الريكاني( ابو يوخنا) فاسترحنا عندهم لفترة وجيزة. 

 

     القوش يا مهجة العين والفؤاد، قضيت عمري أناجيها، اخاطب شيبها وشبابها، احلم بأديمها، كل مرة كنت اصحو على سراب، فلا القدمان تطآنها ما زال مخيما عليها والبلاد طاغوت العصر، حتى زال مخلفاً ورائه الفوضى والخراب، الحيرة والارتباك! . آه يا القوش الممتدة من آشور حتى عصر الالف الثالث الميلادي، ان نارك تضطرم في داخلي، وبين جوانحي الجوى، لن آسف على عمر مضى، بل امنيتي ان اختمه فوق ثراها، بجانب من يرقد من سلفها الطيب. اتمنى ان ارى القوش على مدار الاوقات، متطورة، هادئة، سعيدة، تصارع وتتواصل مع الحياة، وان ارى من هجرها كيفاً او مضطراً، ان يشملها بالزيارة او العودة النهائية، كما يعود الطائر المهاجر الى عشه، وكل شيء رهن بالظروف، وتبقى آمالنا معلقة في المستقبل. 

 

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

March 23, 2011

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.