كـتـاب ألموقع

يوميات حسين الاعظمي (97)- مقامات في زمن المراهقة

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

حسين الاعظمي

 يوميات حسين الاعظمي (97)

 

مقامات في زمن المراهقة

      ذكريات لم ولن استطع نسيانها حتى اليوم..! بل هي عصية على النسيان..! ثابتة في كياني، كثبات ايماني بوجود الله سبحانه وتعالى. رغم ان قِدم هذه الذكريات من زمن عمر المراهقة التي مررت بها اواخر ستينات القرن العشرين. فالتعابير والتذوق الغنائي والموسيقي المقامي على وجه الخصوص، التي امتلكتها من البيئة الاسرية وبيئة المنطقة والمدينة والوطن ككل، هي التي هيمنت على كل مشاعري منذ بواكير حياتي. فقد سيطرت تعابير غناء وموسيقى المقام العراقي على كل حواسي وافكاري ومشاعري وتطلعاتي وانا في مقتبل العمر. بل في وقت مبكر جدا..! وبصورة اقرب الى الجنون..! والسابقون قيل عنهم الكثير، انهم مجنونون في تذوقهم لغناء وموسيقى المقامات العراقية..! ولكنني لم افهم هذه الاقوال التي كنت أهزأ منها، الا بعد أن عشت في خضم الامتلاك والانتماء الى تعابير غناء وموسيقى المقامات العراقية، التي تُـجسِّدْ كل تاريخ تراجيديا العراق واحداثه المأساوية ، وكأنني عشت كل تلك العصور..!!

 

       ما نحن فيه، فقد كنت اواخر الستينات من القرن العشرين، امتلك راديو صغير (ترانسستر) يسحب قنوات اذاعية كثيرة (هامش1) ، كانت خالتي قد اهدتني اياه. وكنت اتابع بشغف كبير جدا، برنامج المقام العراقي الذي يذاع في مساء كل يوم اثنين من كل اسبوع، ولكن في ساعة متاخرة، وهي انتصاف ليلة الاثنين على الثلاثاء..! حيث يتخلله مقاطع غنائية لبعض المغنين المقاميين، وفي هذه الفترة من حياتي كنت انام في الساعة السادسة او بعدها بقليل مساء كل يوم حسب قرارات المرحوم والدي الذي كان يفرض ذلك فرضا محكما، رغم انه كان كبير السن بالنسبة لي، وقد اخذت منه الحياة مأخذاً..! حتى اعتدت على نومي في هذا الوقت، فانا صغيرهم وآخر العنقود بين اخواتي واخوتي.

 

      كنت اصعد بعد السادسة مساءاً الى غرفتي لأخلد الى النوم، حاملا معي ذلك الراديو الاثير، وانا طبعا انتظر يوم الاثنين بشكل خاص للاستماع الى برنامج المقام العراقي الذي لا يستمر اكثر من ربع ساعة..!!! ربع ساعة لا غير، كم كانوا بخلاء حتى النخاع في زمن البرنامج، برنامج تراثي وطني اسبوعي في ربع ساعة..!؟ انه لامر عجيب فعلا. على كل حال، كنت انتظر مرور اسبوع كامل لاستمع الى هذه الدقائق القليلة التي يستمر بها برنامج المقام العراقي، بشغف كبير ما بعده شغف..! وارى نفسي الآن عاجزا تماما عن وصف حالتي مساء كل يوم اثنين، وانا انتظر حلول وقت البرنامج، فقد كنت اكثر ما اخشاه هو استمراري بالنوم ويفوتني البرنامج، ماذا افعل..؟ لا حيلة لي. وعليه كنت اغفو عشرات المرات، واصحو عشرات المرات وكأنني في احلام..! لحين ما يأتِ وقت البرنامج، (نومة تجيبني ونومة توديني) حتى احظى بالاستماع الى حلقة البرنامج الاسبوعية، التي اقضي غالبية وقتها القصير، بالغور العميق في بحر التعابير المقامية الشجية المؤثرة، حيث يغلب عليّ البكاء والحنين، وانا في عنفوان مراهقتي ومشاعري وعواطفي، الغائرة في اعماق الاحلام والخيال والتاملات..! ثم تجهض فجأةً، كل هذه المشاعر والاحلام وتقتل، عندما ينتهي وقت البرنامج..!

 

      الاغرب من كل ذلك، عندما ينتهي وقت البرنامج الذي انتظرته قاسيا على نفسي فيه، ومتكابرا على النعاس الذي يسيطر عليّ بصورة كبيرة جدا، ومتحاملا على نفسي وقابليتي الفتية بين الاغفاء تارة والصحو تارة اخرى..! واذا بي ابقى صاحيا حتى الصباح الباكر بعد انتهاء البرنامج..! حيث يغيب النعاس الذي كنت اقاومه بضراوة قبل الاستماع الى البرنامج.

 

      ذكريات لم تغادر مخيلتي حتى اليوم، ويبدو انها لن تنسى ابدا، فقد حفرت لها مكانا عميقا في فكري ومشاعري، انها فترة البواكير من الحياة، وانها فترة المراهقة من جانب آخر، والى حلقة جديدة من موسوعتنا ان شاء الله..

وللذكرى أثر عميق

 

اضغط على الرابط

اغنية داري ، حسين الاعظمي

https://www.youtube.com/watch?v=4bs2gJfU3UI

هوامش

هامش1 : انظر حلقة رقم 154 من موسوعة ملتقى الاعظمي على الفيسبوك .