كـتـاب ألموقع

• في العراق الجديد: محنة المسيحيين.. محنة وطن

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

كمال يلدو

في العراق الجديد: محنة المسيحيين.. محنة وطن

يصعب على المواطن العراقي المسيحي ، او من الديانات غير الأسلامية ان يجد نفســه في مواجهة دولة وقوانين تقنن هويته الوطنية ، وتدخلها من ثقب ابرة اسمها – الخمرة ، أو الخمر .

فكلما ضاقت الأمور برجال السياسة ، وأستعصى حل معضلات البلاد الكثيرة ، والرقي بمستوى شعبها ، يلجأون الى رفع شعار ( محاربة الخمر والخمارين) ، ووضع المسيحين في خانة المتهم ، وتحميلهم المسؤلية عن "الرذيلة" و " التسكع " و " العربدة" ان جاز التعبير ، في المجتمع العراقي . في الوقت الذي يتغاضى هذا البعض عن حقيقة الأرقام التي تفصح عن ماهية شراب ( الراح) في العراق . فأستنادا الى اكثر الأحصائيات تواضعا ، فأن نسبة ابناء الديانات غير الأسلامية في العراق لا تتجاوز 3% ، وأن معظمهم يعمل في مجال الخدمات ، اذن ، من الذي يرتاد البارا ت، ومن يحتسي الخمر في العراق؟ ناهيك بأن علاقة العراقي بالخمر ، هي اقدم بكثير مما يتصور البعض ، وحتى قبل تأسيس كل الأحزاب العلمانية والقومية والأسلامية ، فلم هذه المزايدات اليوم ؟ الخمر كانت موجودة ، وكانت الناس تحتسيها منذ ايام السومريين والبابليين وصولا للدولة الأموية والعباسية وحتى العثمانية والى يومنا هذا ، فكان هناك من يستمتع بها ، وكان هناك من يناطح الحيطان !

لكن ، ايا من تلك الدول او الحضارات والأنظمة ، لم تتحطم او تنهار ( كما يقول كتاب التأريخ) بسبب الخمر! بل انها انهارت وتحطمت وتلاشت ، بسـبب الفساد الأداري ، وعدم الأيفاء بوعودها تجاه شعبها ، وأزدياد الفوارق الأجتماعية ، وخيانة المصلحة الوطنية ، وتغليب مصالح الأجنبي على مصلحة الوطن ، اي بمعناه الحديث ، العمالة للأجنبي ، اقليميا كان او من دول الجوار!!

يغفل العديد من ساسة اليوم وتجار الدين ، حقيقة تأريخ بلادهم والدور المشرف لكل مكوناته ، وخاصة ابناء الطائفة المسيحية ، وأنهم سليلو ارقى الحضارات الأنسانية في المنطقة ،و شاركوا ابنائه في السراء والضراء ، وكان لهم مثلما لغيرهم دور في العلوم والأقتصاد واللغة والطب والتعليم والسياسة، في العمل والبناء ، وانهم شاركوا العراقيين في محاربة الدكتاتورية، وأقتسموا معهم القبور الجماعية ، وأختلطت دماء وأجساد شهدائهم سوية ، رغما على كل من يريد تزوير الحقائق ووضعها بغير نصابها ، وتنسيب القبور الجماعية الى طائفة بعينها زورا وبهتانا .

ان وقفة متأنية امام السياسة التي اتبعها ويتبعها قادة معظم احزاب الأسلام السياسي في العراق تجاه المسيحين وأبناء الديانات الصغيرة الأخرى من المندائيين والأزيدية ، تكشف حقيقة خيبة الأمل التي اصابت هذه المكونات بعد التغيير ، واليأس الذي يضرب اطنابه في صفوفها ، من جراء تكرار الأعتداءات ، وتدمير دور العبادة والمضايقات اليومية وعلى كل الأصعدة ، ومحاربتهم بأرزاقهم وحرمانهم من العيش الكريم . ان هذه السياسات لا يمكن ان ينظر اليها بأعتبارها احداثا منفردة او طارئة ، بل هي سلسلة مترابطة لها غايات صارت معروفة لمعظم العراقيين ، بقصد اخلاء العراق من هذه المكونات ، تنفيذا لمشروع ظلامي حاقد ومعاد للعراق تشترك فيه جهات عراقية وبأسناد ودعم من دول الجوار ،جنبا لجنب مع الميليشيات المنفلته ، وتجار العقارات العطاشى للأستيلاء على املاك وعقارات المسيحيين بأرخص الأثمان .

تجري هذه الأحداث ، التي لا يبدو ان لها نهاية قريبة ، في ظل اوضاع عراقية صعبة ، يحتاج فيها الوطن الى قدرات وأختصاصات كل ابنائه ، وليس الى تشتيتهم ودفعهم للهجرة ومغادرة العراق . فيما تؤسس هذه الثقافة – الفاشلة – لعلاقة غير متوازنة بين الحاكم والمحكوم ، وتعيد المشهد مرة تلو الأخرى ، لصورة النظام الدكتاتوري الذي كان يرفع الشعارات القومية والوطنية بينما يقتل ويهجر ابنائه باليد الأخرى .

قد تكون المصائب التي تضرب العراق ، وتهدد كيانه السياسي والأجتماعي ، دافعا للقوى الوطنية ، اليسارية والعلمانية والقومية وممثلي الطوائف والأديان الصغيرة ، للتأكيد على أن تحالفها حتمية تأريخية لتجاوز هذه المرحلة ، عبر البديل الوطني الديمقراطي الداعي لبناء الدولة المدنية ، وفصل الدين عن الدولة ، قبل ان يكتب النجاح للمشروع التدميري القائم اليوم .ان الموقف من حقوق وحرية هذه المكونات ، وخاصة المكون المسيحي، اضحى الميزان الذي يمكن من خلاله الحكم على طبيعة هذا النظام او ذاك . فالأغلبية لا تتكامل حقوقها بأستعداء الأقلية ، بل العكس ، اذ ان الأغلبية تتكامل حقوقها حينما تتمكن الأقليات من ممارسة حقوقها وواجباتها كأغلبية في وطنها .

اما للسادة الذين تهمهم التقوى ، ومحاربة الرذيلة ، فربما محاربة الفساد الأداري ، وكشف السراق وأصحاب الشهادات المزورة ، وتوفير مواد الحصة التموينية ، والعيش الكريم للفقراء ، ومحاربة البطالة ، وحماية الطفولة ، والحفاظ على حقوق الأرامل والأيتام ، ربما ترضي الخالق اكثر من محاربة " الخمر" ! اما التظاهر بالتعبد والتدين على حساب حياة ودماء ودموع المسيحين وغيرهم ، فلن يجلب لصاحبه الا اقذع الأوصاف .

في النهاية ، لقد مـرّت على هذا الوطن جيوش وأحتلالات ومآس وفيضانات وحروب وأوبئة وأمراض ، لكنه عاد وتعافى ، وأملي بأن يجتاز هذا الوطن الغالي ، حملة الطاعون والجراد ، التي تنهش به اليوم ، ويعود لأبنائه نظيفا ومتعافيا وخاليا من هذه الأمراض الفتاكة !

كمال يلدو

الولايات المتحدة