كـتـاب ألموقع

كمال يلدو: بعد ١٠٠ عام على مذابح الأرمن والآشوريين والكلدان، الجرح مازال نازفاً !

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

كمال يلدو:

بعد ١٠٠ عام على مذابح الأرمن والآشوريين والكلدان، الجرح مازال نازفاً !

 

  يظهر جلياً لمن يقلّب أوراق التأريخ القريببأن بعض القوى المهيمنة في المشهد السياسي، من نخب وأحزاب وحركات ترفض استيعاب الدروس التأريخية، فتعيد انتاج وتكرار المآسي في محاولة  لتثبيت أوضاعها وضمان مصالحها، ليس بتقديم الأفضل لجماهيرها وشعوبها، بل بالمزيد من القمع والقهر والأرهاب، لابل حتى بالأتكاء على الماضي المظلم وسطوره المغمسّة بدماء الأبرياء، الذي لم يكن لهم ذنب، سوى الأختلاف بالرأي أو العقيدة أو المذهب مع حامل السيف!

لقد كان من الممكن ان تكون أوضاع الشرق، ومن ضمنها العراق أفضل بكثير لو أيقن الحكام، وبخاصة منهم حكام الجمهورية التركية، بأن دماء الضحايا تبقى أثمن من كل شعاراتهم البراقة التي يزوقون بها مؤتمراتهم وخطبهم، وبأن المجرمين يمكن أن يكون لهم اسطراً في اوراق التأريخ، لكنهم لن يكونوا مَن يكتبهُ بل انه يُخط بأقلام البناة والحالمين بغد افضل للأنسانية. اما سياسة المراوغة والكذب والتدليس، فربما تنجح لبعض الوقت، لكنها قصيرة بتأريخ الشعوب، وحينما تندحر، فأنها تسقط للأبد.

لم يعد سراً عناد القيادة التركية الحالية والممثلة بحزب (الحرية والعدالة) الوريث الشريعي للدولة العثمانية وأفكارها، بأن ينكر على شعبه أولاً وعلى ضحاياه والعالم الجرائم التي اقترفها الحكام آنذاك، بحق الأرمن والآشوريين والكلدان واليونانين في تلك المجازر الشنيعة التي يهتز لها الضمير الأنساني كلما مر على ذكرها ،او راح يشاهد مناظرها المؤلمة وضحاياها الأبرياء. اما انكارهم لها ومحاولة التنصل منها، فأنها تدلعن جهل سياسي تضع المراقب في حالة التساؤل: فإذا لم يكن (حزب اردوغان) هو الذي قام بتلك الجرائم، فلماذا انكارها وعدم تحميل مسؤليتها للفاعل الأصلي؟ اما لو اخذنا الصورة معكوسة، وإعتبرنا ان (حزب اردوغان) يمثل عقلية وسياسة ونهج وفكر القادة الأتراك آنذاك، فسيكون من السذاجة بمكان مجادلته وطلب اعترافه بالجرائم، بل الأحرى بالعالم الحر، العالم الذي يدعي الدفاع عن الأنسانية ومُثلها السامية تقديمه هو (وكل من يسانده) للعدالة، كي ينالوا جزائهم. فكيف يمكن لأصحاب العقل المستنير ان يوجدوا المعادلة مابين، حكومة ترغب بالأنضمام للأتحاد الأوربي (رمز الديمقراطية في الغرب) وهي ذاتها تنكر بأن اسلافها العثمانين قد اقترفوا جرائم القتل والتصفية العرقية والدينية، وهي ذاتها من يقود حرب ابادة ضد الشعب الكردي، في الوقتالذي كانت ومازالت تعتبر أكبر حاضنة وداعمة وممولة لأشهر منظمة ارهابية شهدها التأريخ الحديث (داعش ودولتها الأسلامية المزعومة).

 انها المفارقة بعينها، فهل يستفيق لها العقل البشري؟

 

بعد مئة عام على تلك المشاهد التراجيدية المؤلمة، لا يسع المرء إلا أن يسجل اعلى درجات الأعجاب والتقدير والتضامن مع نضالات الشعب الأرمني، مع قواه الحية ونخبه، مع فنانيه ومثقفيه وحتى مع كنيسته التي ابقت على شعلة الحقيقة وقّادة ومستعرّة، وأن تحافظ على حق المطالبة بتقديم القتلة والمجرمين للعدالة وأرجاع حقوق الشعب الأرمني، وجعلها واحدة من الأولويات مهما تبدلت الأنظمة والحكومات وخارطة العالم السياسية .

فقد احتفلت دولة أرمينيا، وكل شعبها المتوزع في أركان الدنيا الأربع، متمثلا بمنظماته ومؤسساته وكنائسه في هذه الذكرى المؤلمة رافعين شعارا كبيرا ومتميزا هذه السنة:

(( نحن نتذكر ....ونحن نطالب))

وعلى الرغم انهم لا يدعون للأنتقام من اسلاف العثمانيين، لكنهم لا يظهروا اية رغبة بالمساومة على دماء ودموع وآلام هذا الشعب المسالم والبرئ الذي وقع ضحية الثقافات البدائية المتخلفة، وحيث مازال اخوتهم في الدين المسيحي  يدفعون ذات الفاتورة الغالية إن كان في العراق أو سوريا وفلسطين ومصر وغيرها من بلدان الشرق المعتمر بالعقليات العنصرية الحاقدة.

لقد اضحتالحقيقة ماثلة لكل ذي عقل راجح، فبحجم الصبر والثقة بالنفس والتضحيات  التي قدمها الأرمن،  كان  يقابله حجم أكبر من التعاطف والتضامن العالمي الذي ابدته الشعوب والحكومات والأحزاب والحركات التي ترفض تطرف (المنظمات الأسلامية)، وتدين استعمال القوة والأرهاب تجاه المكونات غير المسلمة، لابل انها تدين العقليات العنجهية والمتكبرة التي يتصنعها حكام انقرة الذين يحاولون اظهار انفسهم كأناس حضاريون، فيما هم غارقون في اوهام الحقد والكراهية التي تعود للعصور الحجرية المظلمة.

ولأن احتفالات هذا العام اقترنت بمرور مئة سنة على تلك المجازر المروعة، فأنها اكتسبت طابعا وزخما اضافيين، وربما كانت البداية في حضرة الفاتيكان والقداس الذي ترأسه الحبر الأعظم، البابا فرانسيس وبحضور بابا الطائفة الأرمنية الأرثذوكسية، حينما حدد بكل وضوح واصفا ما قامت بها تركيا العثمانية وسلاطينها آنذاك بأنها (كارثة انسانية وإبادة جماعية عرقية ودينية) ، مما اثار حفيظة حكام أنقرة.

انطلقت الأحتفالات الرسمية يوم الرابع والعشرين من نيسان من مدينة يريفان، عاصمة أرمينيا وبرعاية رئيس الجمهورية وبحضور الرؤساء الروسي والفرنسي والألماني وجمع كبير من المسؤولين وممثلي مختلف الكنائس في العالم، وأمتدت الأحتفالات للكثير من عواصم ومدن العالم ومنها بغداد، إذ شهدت أول تظاهرة للطائفة الأرمنية وبمؤازرة من قوى التيار المدني والكنائس، توجهت نحو السفارة التركية بغية تسليمها برقية احتجاج آثرت أن لا تتسلمها!

اما في مدينة ديترويت الأمريكية، فقد كانت كنيسة (سانت جورجـ مدينة ليفونيا) عصر يوم الجمعة على موعد مع ابناء الطائفة الأرمنية ممثلين بكنائسهم الأربع، وفي قداس  قاد مراسيمه المطران الأكبر خدمة (آلين فكنيرون ـ من مطرانية الروم الكاثوليك بديترويت)، حيث ابتدأت المراسيم بإيقاد (اثنا عشر شمعاً) تيمناً بالمقاطعات الأثني عشر التي احتلتها تركيا من أراضي أرمينيا التأريخية بعد أن قتلت وهجّرت سكانها، ثم توالت الصلوات وسط افراح الحضور، حيث تم ترقية (٣٠٠) من قادة الشعب الأرمني الذين اعدموا عشية بدء الأبادة  لمرتبة القديسين.

 وللحقيقة، فما كان يمكن لأي شخص ان يخطئ الظن بأن أمراً كبيراً يحدث هنا، فقد دخل الكنيسة زواراً مثلوا ربما ثلاثة أو اربعة اضعاف سعتها ، لكن الأبهى من كل ذلك كانت المسيرة التضامنية الرمزية من قبل كل الكنائس المتواجدة في ديترويت ممثلة بكهنتها ومطارينها. فقد كان منظرا مؤثرا وهم يخترقوا حشود الحاضرين متوجهين لمقدمة الكنيسة في موقف انساني مؤثر، مؤكدين على  المطالب المشروعة لهذا الشعب، وبالترحم على ضحاياه، وحتى الذين يسقطون لليوم على يد الأرهابيين.

 

شـــهادات

يقول الأب هرانت كيفوركيان من الكنيسة الأرمنية الأرثذوكسية في هذه المناسبة: "لقد استوعب شعبنا الدرس، وسرنا في اتجاهين، الأول هو في بناء دولتنا وبلدنا، والثاني  في جمع اكبر قدر ممكن من التضامن مع عدالة مطالبنا، وبسبب وجود دولة عضو في الأمم المتحدة تساندنا (دولة أرمينيا) فقد تمكنا من رفع الدعوة للأمم المتحدة وسنظل نلاحق المسؤولين ونطالب بمحاكمتهم على جرائمهم، وإعادة الحقوق الى الشعب الأرمني. نحن لسنا طلاب ثأثر، فالدين المسيحي يرفض ذلك، لكننا طلاب حق" .

 

مذابح "ســــيفو" ضد الآشوريين والكلدان

لايبدو الأمر سهلا حينما تُرجع عقارب الزمن عقودا للوراء، وليس لغرض نكأ الجروح من جديد، بل لأنها  ما كادت أن تلتئم حتى تجد من يغرس فيها خنجره السام من جديد. هكذا يبدو المشهد اليوم مع المسيحيين العراقيين من ابناء الشعب الآشوري الكلداني السرياني. فبعد أن نجا بعض اجدادهم من تلك المجازر المروعة (يقدر عدد الضحايا بحوالي ٢٥٠ ألف ـ نصف مليون) ، ها هو المشهد يتكرر على يد عصابات (داعش) الأجرامية التي عملت قتلا وسبيابسكان بلدات سهل نينوى،مما اضطرتهم هذه الأوضاع للنزوح طلبا للأمان، ومن ثم  قامت ذات العقليات الحاقدة، بحرق كنائسهم وأديرتهم وتجريف مقابرهم، وتدمير آثار اسلافهم.

 

يقول الباحث والكاتب السيد حبيب حنّونا في هذه المذابح: " كانت (مذابح سيفو) على يد اتراك الدولة العثمانية محطة مهمة، وهي لم تكن الأولى بل سبقتها مجازر كان من بينها في العام١٨٤٦ في منطقة (أشيثا ومنيانيش) ، بعدها (المجازر الحميدية) نسبة للسلطان عبد الحميد عام١٨٩٥  ثم مجازر (سيفو) عام ١٩١٥ ، وقد سميت كذلك نسبة الى استخدام السيوف في تلك الجرائم. ولابد هنا من القول بأن عملا كبيرا ينتظر النخب المثقفة والسياسية وكل اصحاب الشأن في تثقيف ابناء الشعب العراقي ، و (الكلداني السرياني الآشوري) على وجه الخصوص من أجل ان لا تُطمس هذه القضية العادلة، وأن تجري المطالبة بأقرار ما جرى  ك(ابادة جماعية) وأن يحاسب ويدان المسؤلون عن ذلك وتعاد الحقوق الى اصحابها"

 

أما الأب أمير بريخا من كنيسة مريم العذراء الآشورية فيقول في هذا الحدث: "ان كنيستنا تتضامن مع كل الضحايا، إن كانوا أرمناً او آشوريين وكلدان، ونقيم لذلك القداديس والصلوات، لكن المؤلم في تأريخنا المعاصر، بأن تلك الجرائم لم تتوقف عند ذلك التأريخ، بل وللأسف انها تواصلت ولحد هذا اليوم.  فبعد مذابح سيفو  طال القتل الشعب الأشوري في (مذابح سميل ١٩٣٣) فأضطر الناس الهرب حينها وعبروا الحدود نحو منطقة الخابور في سوريا، وها هي مناطقهم تقع بيد الأرهاب ويسقطوا  اسرى من جديد. تلتهامذبحة (صوريا) في عام ١٩٦٩. 

وها نحن نشهد ونعيش اليوم كيف ان شعباً بأكمله يُجبر على مغادرة مدنه  وكنائسه وأديرته ويخليها للمجهول، يخليها لنيران الحقد والكراهية، فيما الناس تعيش اقسى الظروف في الخيم والكرافانات وبمستقبل غامض، بعيدا عن أرضها التأريخية التي احبتهم وأحبوها. ان أمراً يجب ان يتغير في هذه المنطقة حتى تعيش شعوبها المتنوعة بسلام ووئام، ولا بديل عن اقامة الدولة المدنية، لابديل عن النظام العلماني وفصل الدين عن الدولة، انه الضامن الحقيقي للمساواة والعدالة بين كل المكونات صغيرها أم كبيرها".

 

كان يمكن لهذه الذكرى ان تمضي، كحال الكثير من فصول التأريخ، لكن يبدو ان المصالح السياسية تبقى أهم بكثير من النفس البشرية، اهم من كرامة الأنسان او سعادته.  إذ كيف يعقل ان لا يتعلم العالم من تلك الأحداث، وكيف يسمح للقتلة ان يظهروا من جديد ويقوموا بذات الجرائم إن لم تكن أبشع منها. كيف يُعقل ان لا تتحصن هذه الشعوب من العنصرية والطائفية والحقد والكراهية وأحترام الآخر، وكيف يمضي مشروع تهجير وأستهداف وقتل ابناء المكونات الأصيلة للعراق من الكلدان والآشوريين والسريان والشعب الأيزيدي وأبناء الطائفة المندائية، وأقتلاع جذورهم، على يد الغرباء الذين لايمتون للعراق وشعبه وثقافته بصلة، فيما العالم يقف متفرجا على مأساة النساء الأيزيديات والمسيحيات المختطفات من قبل الأرهابيين.

إن الوازع الأخلاقي لدى الحكام والدول بحاجة الى مراجعة، قبل ان نفقده ونخسر الأمل ببناء دولا مدنية ترعى وتسهر على راحة وسعادة ومستقبل شعوبها، اكثر بكثير من الأعلام السوداء، أو تلك الملطخة بدماء الأبرياء.

 

كمال يلدو

 

نيسان ٢٠١٥