كـتـاب ألموقع

• حزب البعث المتقاعد لا يريد أن يتقاعد

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

إبراهيم الزبيدي

مقالات اخرى للكاتب

·        حزب البعث المتقاعد لا يريد أن يتقاعد

 

أدخل، من حين إلى حين، إلى موقع على الإنترنيت ينطق بلسان حزب البعث (جناح عزة الدوري) لأستعرض أهم ما يُنشر فيه من بيانات وأخبار ومقالات، لا حبا ولا إعجابا، ولكن لقياس مدى التطور الذي يطرأ على فكره وخطابه في مواجهة الأزمات والاختناقات التي تعصف، دون توقف، بالعراق والمنطقة، منذ الغزو الأمريكي عام 2003.

 

وكان المؤمل أن حزبا جماهيريا بضخامة حزب البعث وعمق تاريخه وخبرته وتجاربه سيخرج من كارثة 2003 متجاوزا آثارها السيئة بأقل ما يمكن من الجروح والشروخ. مثلما حدث لأحزاب عديدة في الشرق والغرب. فقد استفاقت من الصدمة بسرعة، وقامت بدراسة الأسباب الموضوعية التي قادت إليها، وحللتها بدقة وعلمية وموضوعية، بعيدا عن التطرف والجمود والانكفاء على الذات، فغيرت ما يستوجب التغيير، وعالجت ما علق بمسيرتها من المثالب والعيوب والثغرات، وغيرت خطابها، وطهرت صفوفها من المرضى والعجزة والفاشلين والفاسدين، وخرجت على جماهيرها بروح جديدة، وثياب جديدة، وحتى بأسماء جديدة، وعاودت المسير، فانتزعت الريادة في زمن قصير.

 

وكان الواجب يُحتم على القيادات البعثية التي تسلمت المسؤولية بعد كارثة نيسان 2003 أن تسارع إلى الاعتراف، بشجاعة وموضوعية، بأخطاء الماضي، وأن تجري تغييرات وتعديلات جوهرية في خطاب الحزب ومفاهيمه، وأن تستبدل الأدوات الفاشلة السابقة بما يصلح للعمل في الواقع الجديد، وأن تتخلى عن لغة التخوين والتهديد والشتيمة، وتعتمد لغة المنطق والحوار الديمقراطي، لا مع خصوم الحزب وأعدائه وحسب، بل مع أعضائه نفسه، وتطوي الماضي المثقل بالمشاحنات والاعتداءات والانحرافات، وتعمل على إعادة الثقة المفقودة مع جماهير الشعب العراقي من جديد.

 

لكن الذي نراه اليوم من البعثيين شيءٌ آخر لم يحدث من قبلُ إلا لأحزاب طفيلية هامشية أخرى فرضتها على الجماهير سلطة غاشمة، بقوة سلاحها وأموالها. ثم حين انهار نظام تلك السلطة تمزق حزبُها، وتبعثرت قواعده وقياداته، وضاع في بحر الزمن المخيف، وأصبح شيئا من الماضي بسرعة وكأنه لم يكن، كما هو حال حزب موسليني وحزب هتلر وغيرهما من الأحزاب الفاشلة العديدة في التاريخ.

 

لكن حزب البعث، أو ما بقي منه بعبارة أدق، قد اختار أن يحبس نفسه في قمقم مذهب صنعه لنفسه بنفسه، وتمترس خلف جدرانه، لا يسمع إلا صوته، ولا يرى سوى نياشين أمسه الغارب، غارقا في أحلام اليقظة، فـرِحا بالقصور التي يشيدها من الرمل على شواطيء البحار الهادرة.

 

لا يريد أن يصدق أنه أحيل على التقاعد، وأنه أصبح عاطلا عن العمل، وأن الزمن مرَّ من فوقه مسرعا، وأن الشعب العراقي رمى أيامه، بكل ما فيها من خير ومن شر، وراء ظهره، واستقبل الشمس الجديدة وأيامها الواعدة.

 

لم يكتشف أن على قيادته وقواعده معا أن تبذل جهودا مضاعفة مضنية لكي يستعيد عافيته بسرعة، ويتمكن من الوقوف على قدميه من جديد، ويسابق الزمن لكي يعوض ما فاته من فرص المشاركة الفاعلة الإيجابية في صناعة حاضر الوطن ومستقبله، بثقافة العصر ولغته ومنطقه وليس بلغة الخنجر وكاتم الصوت أو المفخخات.

 

حين نقرأ اليوم مقالات كتاب حزب البعث ومنظريه العقائديين نُصاب بالدهشة والاستغراب. فهم مثلُ دونكيشوت يحاربون أشباحا لا يرونها. مقتنعون قناعة نهائية ومطلقة بأن ما حدث وما يحدث في العراق اليوم موجة عابرة، وأن حزبهم عائد إلى سطوته السابقة، عما قريب.

 

يؤكدون لك، وبتصميم عجيب وغريب، أن أمريكا سائرة نحو الاندثار، وأن بنادق مجاهديهم أجبرت قوات احتلالها على الرحيل، وأن عملاءها العراقيين والإيرانيين هاربون لا محالة، وأن حزبهم القائد عائد إلى القصر الجمهوري عودة الفاتحين، غدا أو بعد غد.

 

إنهم يفعلون تماما ما فعله أحمد زكي في فيلم (زوجة رجل مهم)، حين أقيل من وظيفة ضابط المخابرات، في بلد تحكمه الشرطة السرية وقوى الأمن العام، فلم يرضخ لواقعه الجديد، ولم يستطع أن يتعايش مع حياة البطالة، فظل أسيرَ وهْم القوة والجبروت، مُصرا على تمثيل دور ضابط المخابرات، ليوهم زوجته وجيرانه ومواطنيه بأنه ما زال ذلك الآمر الناهي المخيف، فاستأجر، براتبه التقاعدي الضئيل، سيارة فارهة وسائقا يفتح له الباب ويُعظمه كل صباح، وهو خارج من منزله أو عائد إليه. ومعروفة نتيجة الفيلم، فقد انهار أخيرا أمام الواقع المر، فقتل زوجته، وأنهى حياته بيده.

 

وهكذا هم رفاقنا البعثيون، لم يتخلوا عن لغة الثمانينيات والتسعينيات ونعرتها الآمرة الناهية، بشعاراتها ومفرداتها البالية.

 

ما زالوا يصدقون أنهم الأكثر من غيرهم وطنية ًوشرفا وشهامة وغيْرة. والناس، وفق معاييرهم، صنفان، أبيض وأسود، أخضر ويابس، حلو ومر، بعثي مجاهد أو عميل أمريكي أو إيراني ذليل، ولا شيء بين هذا وذاك.

 

أما ما يجري من أمامهم ومن خلفهم من أحداث متسارعة، وما يطرأ من قيم وموازين وقوى وثوابت جديدة في المجتمع العراقي فليس في قناعاتهم سوى فقاعات لا قيمة لها، وأن الباقي والثابت والمنتصر في النهاية هو حزبُهم وحده دون شريك. ومن يختلف ولو قليلا، مع توجهاتهم، حتى لو كان من رفاقهم وأنصارهم، يصبح مرتدا وفي طريقه إلى الخيانة. وإليكم هذا المثال البسيط.

 

إن الشائع، مثلا، أن القائمة العراقية، وبالذات قيادة بعض مكوناتها، حظيت بدعم رسمي من جناحيْ حزب البعث كليهما، جناح عزة الدوري وجناح يونس الأحمد، معا، على أمل أن يتخذها البعثيون واجهة يدخلون تحتها إلى المنطقة الخضراء، ويجعلونها حصان طروادة الذي يفجرون به العملية السياسية برمتها، من داخلها، وتحت قبة البرلمان فتخلو لهم الساحة ويمسكون بالسلطة من جديد. لكن تهاون العراقية مع المالكي ومع الأكراد مؤخرا، وانخراطها في صفقة (الشراكة الوطنية)، وقبول بعض قياداتها بمناصب ومكاسب ومراتب عليا سيادية أثار حزب البعث وفجر غضبه العارم على العراقية كلها، فراح يهاجمها ويكيل لقادتها البعثيين السابقين أقذع الشتائم التي لا يُجيد كُتابُه ومنظروه غيرَها في مواجهة الآخرين.

 

وإليكم ما نُشر مؤخرا في موقع حزب البعث عن العراقية:

(عذرا لأبناء شعبنا العراقي الذي صوت للعراقية، وعذرا لكل من توقع من العراقية خيرا، عذرا لأنه انطلت عليكم أكاذيب هؤلاء، واليوم شاهدناهم بأصواتكم يحققون منافع شخصية. النجيفي، وبعد أن جلس على كرسي رئاسة البرلمان بدقيقتين، هتف وقال أنا أمثل البرلمان وليس العراقية، وهكذا ضاع أمل الشعب العراقي به، لانه لولا العراقية والمحاصصة لما أصبح هو رئيس برلمان، وبالاتفاق على رفع الحظر عن الأربعة من قيادي العراقية يئس الشعب العراقي من العراقية بشكل نهائي.

 

اليوم صُدم الشعب العراقي الذي ذهب و انتخب القائمة العراقية، لأنه صدق المشروع الانتخابي، وصدق التصريحات التي كانت جميعها وطنية ومحترمة تخدم الشعب العراقي وتحافظ على هويتة العراقية ووحدة شعبه، بينما القائمة العراقية كشرت عن نواياها وأطماعها والتي هي مجرد مصالح شخصية فقط).

 

فإذا كان هذا ما يقولونه عن رفاقهم حين ابتعدوا قليلا عن مخططاتهم، فماذا سيقولون عمن يخالفهم من خصوم حزبهم، وهم كثيرون؟

الحقيقة المرة أنهم همْ همْ، كما كانوا من أربعين سنة، يرون أنفسهم سادة وقادة وأولياء، ويرون غيرهم عبيدا وأسرى وسقـْطَ متاع. فهل يستيقظون من هذه الغيبوبة المحزنة ويعودون إلى الحياة من جديد، أم إن الأمل في ذلك ضعيف؟

 

أغلب الظن أن هذا الحزب المتقاعد سيبقى على حاله هذه، متقاعدا ولكنْ في ثياب الوظيفة السابقة، يأمر ولا يطاع، يصيح ولا يُسمع، يُرغي ويُزبد وحده في قفصه الذهبي العتيق، إلى أن يذبل ويتلاشى مع الأيام، لا هو استعاد مجده القديم وأمسك برقبة السلطة من جديد، كما يحلم ويتمنى، ولا هو تواضع ونزل عن بغلته وقبل بنصيبه الذي تسمح به الظروف الجديدة، وخرج من عزلته، وسار في الشمس مع السائرين. لقد خسر المشيتين مع الأسف الشديد.