كـتـاب ألموقع

• داوود كبّاي الطبيب العراقي الذي رَفعَ مشعلّ الإنسانية

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

نبيل عبد الأمير الربيعي

مقالات اخرى للكاتب

داوود كبّاي الطبيب العراقي الذي رَفعَ مشعلّ الإنسانية

(زودتني العمارة بضوء الحكمة, الفنار الذي يضيء لي الطريق حتى اليوم..العمارة تشبه في نشأتها وتطورها العديد من المدن الحدودية في العالم , فلأنها تقع على حدود البلاد الجنوبية الشرقية , تحولت منذ نشأتها إلى مركز تجاري كبير شجع على الهجرة إليها , تجار من مختلف الطوائف والقوميات والأديان جاؤوا مع عائلاتهم من جميع أنحاء البلاد , أقاموا فيها لسهولة الكسّب... المدينة هذه تبدوا اليوم مثل واحةُ جفت مياهها , تصحرت بعد أن كانت حتى لأربعة عقود ماضية , بمثابة مصحة للشفاء)البروفسور ساسون سوميخ

مدينة العمارة التي تبعد عن بغداد ما يقارب 360 كم , تلك المدينة التي صُنعَ من قصبها النبي نوح سفينة النجاة وبنى الملك كوديا معبده بأمر الآلهه, وأصبحت المحطة الأخيرة لرحلة الكاتب والقديس والنبي العزيّر ,أصبح مقامه اليوم في نفس الناحية المسماة باسمه , والتي تقع على بعد 70 كم من المدينة , هذا المكان يحظى بتقديس المسلمين واليهود على حد سواء ,وقد كان مزاراً للكثير من الرحالة العرب , وأصبح لهُ موسم للزيارة , العزيّر ذلك القديس الذي سافر من أرض بابل إلى بلاد فارس حيث توفى في هذا المكان أثناء سفرهِ عام (465-425)ق.م , أيام حكم ملك فارس كورش لبلاد الرافدين عند غزوه للعراق.

كان الدكتور داوود كبّاي أشهر أطباء مدينة العمارة , جاء مع أبيه الذي كان طبيباً أيضاً , ليستقر في مدينة العمارة , ولد كبّاي في بغداد عام (1915) لعائلة عراقية من الديانة اليهودية , تلك الديانة التي كان لها الدور الكبير في رفع المستوى التعليمي والثقافي في المدينة, لبنائها أول مدرسة ابتدائية باسم مدرسة (الإليانس) عام 1910 لتعليم أبناء المدينة من كل الطوائف والقوميات, و اسم كبّاي جاء من مهنة الجابي باللغة العبرية , وهي مهنة جباية تبرعات المعبد اليهودي ( الكنيّس) كما كان يقوم بإدارة حساباته في العصور القديمة.

تخرج داوود كبّاي من الكلية الطبية العراقية عام(1938)- الدورة الخامسة - وقد عمل في مجال الطب العام وطب الأطفال, وكان بنظر أبناء المدينة الدكتور المتخصص بجميع المجالات, كما نجح في المجال الاجتماعي بعلاقته الواسعة في مجتمع العمارة , حيث تعززت مكانتهِ بسبب مهنتهُ وعلاجهُ لجميع المرضى من كبار السن والأطفال والنساء عند الولادة , عمل في مستشفى صحة العمارة , وأصبح المَلاّك الذي هبط على المدينة , لكي يعالج كل المرضى, فتح عيادته الخاصة في محلة التوراة , كان يكشف على مرضاه الفقراء والمعدمين مجاناَ ويصرف لهم الدواء مدفوعاً من جيبه , ازدحمت عيادتهِ بالقرويين من أطراف المدينة,حيث كانوا يزوروه حتى في الليل.

كانت مدينة العمارة ذات التنوع في القوميات والأديان والمذاهب , فهي أصبحت مركزاً لجميع القوميات والأديان , أينما التَفَتَ المرءْ فيها رأى وجوهاً متنوعة وسمع لُغاتْ مختلفة , هنالك الصابئة المندائيون واليهود والمسلمين بجميع فرقهم والأرمن والأكراد والعرب , حتى ضمت مقبرة لرفات الإنكليز والهنود والواقعة في بستان" بيت جاني" عندما دخلت قوات الاحتلال الإنكليزي المدينة عام 1914 .

في يوم ما والدكتور كبّاي جالس في أحد المقاهي الشعبية في مدينة العمارة , لاحظ طفلة فاقده للبصر ترافق والدها , فطلب كبّاي من والدها أن يَجري لها العملية مجاناً , أجرى العملية بنجاح وأعاد النظر لتلك الطفلة مع تحمله العلاج مجاناً , هذا العمل رفعَ من سمعة الدكتور كبّاي في مدينة العمارة.

أثناء عملهِ في عيادته تعرض كبّاي لاعتداء من بعض النفوس الضعيفة والمريضة, فهجموا عليه عام1962 , حطموا طاولته , وكسروا أدواته , وطلبوا منهُ الرحيل ومغادرة المدينة فوراً, إلا أن زميل الدراسة في الإعدادية المركزية في بغداد وزعيم ثورة تموز 1958 عند سماعه لهذه الحادثة , طلب من مدير شرطة العمارة حماية كبّاي ,كل الحوادث التي مرت بها الطائفة اليهودية من عداء من قبل السلطة وقانون إسقاط الجنسية العراقية عام 1950 بحق الطائفة اليهودية كان كبّاي يرفض الهجرة إلى إسرائيل لحُبهُ وتعلقهُ بوطنه ومراجعيه من أبناء العمارة و لإلتزامه الأخلاقي لعدم ترك مرضاه, وحبه لمهنته وبلده ,ولكن فايروس الحقد والكراهية أصبح مرض قد غرس في بعض النفوس وصعوبة علاجه واستئصاله بسبب المدّ القومي لبلاد الرافدين.

عام 1962 تعرض دار الدكتور كبّاي للتفتيش من قبل دائرة التحقيقات الجنائية , بذريعة التجسس لإسرائيل ,وتمت مصادرة مبلغ (عشرون ألف دينار) وتوقيفهُ ثم إطلاق سراحه , فزار الزعيم وعرض عليه الشكوى بصدد المبلغ المصادر منهُ ووصّل الاستلام , فما كان من الزعيم قاسم إلا أمر مرافقهُ وصفي طاهر بإعادة المبلغ إلى الدكتور كبّاي وتسوية الأمر, لأن الدكتور معرّف من قبل الزعيم ومن غير الممكن القيام بأعمال التجسس.

عام 1964 انتقل داوود كبّاي إلى بغداد وافتتح عيادته في محلة البتاوين , وأصبحت داره الجديدة مقراً لعمله , يذكر الإعلامي والكاتب مازن لطيف في موقع الحوار المتمدن العدد(3116) " فإن باب عيادة الدكتور (كبّاية)كانت تتسم بالأمر عينه بالنسبة للعامة ولا سيما مدينة العمارة . وحينما رحل إلى بغداد , كانت جموع (أهل العمارة) على موعد مع حافلة خشبية منذ العام1965 يعلق قائدها (كبّاية ..كبّاية) , مساء كل خميس في وسط العمارة , ويشرع بتسجيل الناس ليغادروا بهم الجمعة مبكراً" , حتى جعل أبناء مدينة العمارة يخصصون يوماً لمراجعتهِ في بغداد متجشمين عناء السفر , يذكر د. علي ثويني في موقع كتابات إن الدكتور كبّاي " ما جعل النسوّة (الشرقيات) يليسنّ باب عيادتهِ بالحناء كما يفعلنها في العادة عند أبواب وأعتاب أضرحة الأولياء والأئمة الصالحين" .

عام 1968 وبعد مجيء البعث القومي , بدأت المضايقات والاعتقالات لأبناء الطائفة اليهودية فما كان من السلطات إلا الإيعاز للدكتور داوود كبّاي بإيقاف خدماته في وزارة الصحة بحجة ( إنهُ يصف مادة الكورتيزون إلى مرضاه) بهذا السبب اعتقل كبّاي وأودع في قصر النهاية بدون محاكمة حتى عام 1969 , إذ تعرضَ للتعذيب ومنعَ عنهُ الغذاء والماء عدة أيام حتى اضطر أن يشرب من بوله لشدة العطش الشديد, بعدها أطلق سراحه , ونتيجة المآسي التي تعرض لها وما تعرضت لهُ الطائفة اليهودية , قرر الهروب من العراق عن طريق إيران سيراً على الأقدام ثم الرحيل إلى لندن والاستقرار فيها , مارس مهنة الطب بشكل محدود لأبناء الجالية العراقية في لندن من أجل ديمومة العيش حتى رحيلهُ عام 2003.

حياة الراحل كبّاي وإخلاصه في مهنته تذكرني بالعديد من الأطباء المحبين لمهنتهم وأبناء شعبهم الفقراء والمعدمين, فقد كان في مدينة الديوانية فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي , شخصيات يضرب بها المثل في نكران الذات والتطوع لخدمة الآخرين منهم الدكتور محمود فريد , الذي يكشف على المريض في عيادته الخاصة مجاناً ويكتب للصيدلاني ضياء العاملي بأن حساب الدواء يسجل على حساب الطبيب, فمَنّ من الأطباء في هذا الوقت يفعل هذا !!, كذلك الدكتور المتقاعد عبد الأمير علوش في مدينة الحلة , كان سابقاً مدير صحة بابل والآن في عيادته يأخذ أجور الفحص للمريض مبلغ (500) دينار فقط , كم من الأطباء مثل كبّاي ومحمود فريد وعبد الأمير علوش!! , كم من الأطباء من يساعد الآخرين من المعدمين والفقراء, كون عمل الطبيب عمل إنساني !!,كم أتمنى أن نجعل من هؤلاء الأطباء عنواناً للإيثار والتسامح والعطاء الدائم حتى الرحيل.

يؤكد المناضل حسقيل قوجمان " إن اختفاء وزوال الطائفة اليهودية في العراق كان ضربه للعراق وللشعب العراقي برمتّهِ , ومهما تغيرت الظروف فإن تاريخ ومساهمة اليهود في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية العراقية لن تزول , لأنها حقائق تاريخية والتأريخ لا يمكن أن يمحى " , كان إسقاط الجنسية العراقية عن أبناء الطائفة اليهودية وتهجيرّهم إلى إسرائيل عام 1951 مؤامرة ثلاثية الأبعاد ,اشتركت في تنفيذها حكومة إسرائيل برئاسة بن غوريون والحكومة البريطانية والحكومة العراقية برئاسة توفيق السويدي ووزير الداخلية نوري السعيد عام 1951.