اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. أفنان القاسم

تحليل قصيدة صفد لسالم جبران

نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا

غريب أنا يا صفد

وأنت غريبة

تقول البيوت: هلا!

ويأمرني سكانها: ابتعد

علام تجوب الشوارع

يا عربي، علاما؟

إذا ما طرحت السلام

فلا من يرد السلاما

لقد كان أهلك يومًا هنا

وراحوا

فلم يبق منهم أحد

على شفتي جنازة "صبح"

وفي مقلتي

مرارة ذل الأسد

فوداعاً.

وداعاً صفد!

 

التحليل النحوي

 

تبدأ القصيدة بالبيت "غريبٌ أنا يا صفد"، ويبدأ البيت بصفة مفردة "غريب" تسبق الموصوف "أنا" ضمير متكلم للمفرد يُكنى به عن الشاعر، وصفة الغريب للشاعر هنا ذات صفتين، صفة حقيقية وصفة مشبهة، تغلب الحقيقية على المشبهة في هذا السياق كيلا تظهر مطلقة غير مقيدة بزمان، وكذلك مدينة صفد كما جاء في البيت الثاني "وأنت غريبة"، لأن الشاعر لا يسعى إلى التعبير عن أزلية الغربة أو الغربة الأزلية، فالمعبر عنه غريب عابر في لحظة عابرة، سواء أكان الشاعر أم المدينة، وهذا ما يشير إليه البيت الثالث "تقول البيوت: هلا!" لأن البيوت كفاعل ليس جامدًا ترحب بقادم لم تره منذ مدة، وهي لهذا ترحب. وتبعًا للنهج الشعري الحقيقي الواقعي نقرأ في الأبيات الرابع والخامس والسادس: "ويأمرني سكانها: ابتعد / علام تجوب الشوارع / يا عربي، علاما؟" ما يهمنا في هذا التعبير المعبر عنه، سكان صفد اليهود (نستعمل المصطلح العلمي ليهود مقابل عربي في النص)، "سكانها" كتركيب تعبيري مناقض لتركيب تعبيري آخر "بيوتها"، فالبيوت هي البيوت التي بناها الفلسطينيون قبل أن يتم ترحيلهم، وهي لهذا السبب ترحب بالشاعر، بينما السكان، السكان اليهود لصفد في الوقت الحاضر، سكانها، يأمرونه بالابتعاد، وهاء الغيبة، الضمير المتصل المبني على الفتح في محل جر بالإضافة، تتصل بها ألفُ التأنيث، وهي ألفٌ للإطلاق، لا ألفٌ للمطلق، لنعود إلى النهج الشعري الحقيقي الواقعي، ونحن لهذا من الطبيعي أن نقرأ في البيتين السابع والثامن "إذا ما طرحت السلام / فلا من يرد السلاما"، فالتاء في "طرحت" فاعل مستتر وجوبًا تقديره أنا، أي الشاعر، وليس الغريب الأزلي، على الرغم من كونه مستترًا، فيسعى إلى الظهور كمعبر عنه عن طريق انعطاف لغوي يذهب بصفد إلى الماضي مخاطبًا في الأبيات التاسع والعاشر والحادي عشر "لقد كان أهلكِ يومًا هنا / وراحوا / فلم يبق منهم أحد"، الكاف في "أهلكِ" ضمير متصل يلحق بالفعل كان، أي أهل صفد القدامى، الغائبون، والهاء في "منهم" هي دائمًا هاء الغيبة والميم حرف دال على الجمع، أهل صفد القدامى، الغائبون دائمًا، فالشاعر يعقد عن طريق الضمائر مخاطبًا أو متكلمًا بضمير الغائب ما يخص ماضي صفد الفلسطيني، وبنبرة النهج الشعري الحقيقي الواقعي، البطريركي هذه المرة، يقول "راحوا"، فواو الجماعة والضمير هم يطلقان على العاقل من الذكور، لينهي بتركيب تعبيري، التعبير فيه والمعبر عنه واحد، لأنه يلجأ إلى صيغة ياء المتكلم في الأبيات الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وليربط بالتالي لغته نحويًا بعلاقاتها الحقيقية الواقعية وعباراتها التي هي صورية هنا عندما يقول "على شفتي جنازة "صبح" / وفي مقلتي / مرارة ذل الأسد / فوداعًا." "جنازة صبح" علاقة حقيقية واقعية لمضاف ومضاف إليه ماديين، وكذلك "مرارة ذل الأسد"، فلو اكتفى بقول "مرارة الذل" لعارض نهجه الحقيقي الواقعي بنهج نفسي، لكنه سياقيًا لا يمكنه ذلك. النقطة بعد "فوداعًا" من وضع الشاعر، وهي النهاية النحوية الأولى، والبيت السادس عشر والأخير "وداعًا صفد!" النهاية النحوية الثانية، وذلك لفك ما عقده الشاعر بين صفد وأهلها الفلسطينيين القدامى، وفي الوداع المركب مرتين تسليم بعدم عودتهم.

 

التحليل المنطقي

 

يوجد في القصيدة منطق حقيقي واقعي يقوم على العقد والفك بين ماضي المدينة الفلسطيني وحاضرها الإسرائيلي، وبكلام آخر واقع يقوم على النفي والإثبات، لكني أفضل شخصيًا مصطلح "التعارض" بين واقعين، كيف يدركان، وكيف يتم تخيلهما شعريًا، وخاصة كيف يتم ابتكارهما، دون أن يكون هذا التعارض غرضًا لذاته، وهكذا تطرح الهوية الكونية نفسها بقوة كعلاقات تعبيرية للغة. والعكس كل العكس ما نجده في القصيدة، إذ هناك، تبعًا لهذا المنطق الحقيقي الواقعي، تعارض كلاسيكي تقليدي بين غربة تقريرية، غربة لغوية "غريب أنا يا صفد / وأنت غريبة" وغربة عابرة ظرفية ارتبطت بذهاب الشاعر إلى صفد، وبسبب هذا الظرف، كان الشعور بالغربة، وهناك تعارض كلاسيكي تقليدي بين الترحاب "تقول البيوت: هلا!" وعدمه "يأمرني سكانها: ابتعد"، وهو بالأحرى تعارض بين تركيبين تعبيريين، وكذلك الأمر بين طرح السلام وعدم الرد على السلام "إذا ما طرحت السلام / فلا من يرد السلاما"، فنبقى عند المستوى التقريري لا التشعيري للغة، ويستمر هذا التعارض التقليدي على مستويين آخرين، تاريخي عندما نقرأ "لقد كان أهلكِ يومًا هنا / وراحوا"، وصوري عندما نقرأ "على شفتي جنازة "صبح" / وفي مقلتي / مرارة ذل الأسد". مما أدى إلى تعاقب للإشارات المعبر عنها، الإشارة تلو الأخرى، كنهج للمنطق الحقيقي الواقعي طبعًا، دون بناء جديد للواقعي الحقيقي، بناء يعتمد قوة الخلق التخيلي والإعجاز الشعري. وعندما اقترب الشاعر من عقله الباطن -من البيت الثاني عشر إلى البيت الخامس عشر- لم يستغل ذلك نفسيًا أو استعاريًا أو ترميزيًا، "كلامحدودية ممكنة" كما تقول جوليا كريستيفا.

 

التحليل الدلالي

 

لا يوجد تطابق دلالي بين الصفة والموصوف في "غريب أنا"، بداية القصيدة،  بل نحوي، فصفة الغريب كما سبق لنا وقلنا مرهونة بالظرف –كل شعر المقاومة هو شعر ظرفي- ووعي الأنا ليس وعيًا دلاليًا –كل شعر المقاومة هو شعر مزبلة الوعي الوطني- لهذا السبب يقدم النص الأنا (والأنتِ، والهي، والهم) تحت أشكال عدة للضمير المتصل: يأمرني، سكانها، أهلكِ، منهم، شفتي، مقلتي، ليحد الضمير المتصل من مدى الأنا (والأنتِ، والهي، والهم) كضمير يتجاوز البعد الشخصي أو الوطني إلى البعد الكوني أو الميتافيزيقي، ويربطها بدلالة غيرها، ففي "يأمرني" هناك دلالة للتسلط الذي تتكبده الأنا، وفي "سكانها" دلالة لمن اغتصب مدينة صفد، وفي "أهلكِ" دلالة لسكان مدينة صفد القدامى، وفي "منهم" دلالة دائمًا لسكان صفد القدامى، وفي "شفتي" (على شفتي جنازة "صبح"، يضع الشاعر صبحًا بين قوسين لتفيد بالتالي صبح الصباح وصبح الرجل الميت الذي ذهب سالم جبران إلى صفد ربما لحضور جنازته) دلالة لموت الزمن بالنسبة للأنا، وفي "مقلتي" (وفي مقلتي /  مرارة ذل الأسد) دلالة لهوان الأنا... من أجل الدلالة إذن لا بد من المضي بوسيط للأنا كمعبر عنها، وسيط كابح للأنا، ليس تحت دلالة القمع العام وإنما القمع الخاص، القمع الذاتي، وفي هذا معنى مضاد لكل الادعاءات النقدوية حول ما يدعى بشعر المقاومة، وعند ذلك تتحدد دلالة الغربة في النص التي هي بالأحرى غرابة: صفد غريبة بأهلها الجدد، وهي تعامل الشاعر لا كما كانت في الماضي، فأمرها غريب، وهو غريب عنها بصفته العربي الوحيد فيها، وقس على ذلك كل النص تحت دلالة الغرابة / الوداع، النفي / التأكيد، كلاهما قاطع، وكلاهما يدلل على عدم عودة صفد إلى ما كانت عليه، بمعنى الخروج عن السائد من شعر المقاومة، ومن هذه الناحية يحقق سالم جبران "قفزة نوعية". أضف إلى ذلك، يخرج سالم جبران، في هذا النص بالذات، عن دائرة "العلاقات بين النصوص"، لأن نصه هذا عند قراءته لا يقترح نصوصًا أخرى للقاسم مثلاً أو لزيّاد أو لدرويش، فيفك القارئ من عقدة هذه النصوص المفرقعة، ويحرره من تراث مجاني يطارد ذاكرته. لكن القارئ الموجب يفرض على الشاعر، أي شاعر، أول ما يفرض، المعقد / اللامعقد في آن، والدلالي / اللادلالي المجبولين معًا، بين صفد المدينة وصفد الأصفاد مثلاً، صفد شِكال الجواد.

 

باريس الجمعة 2012.01.06

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.