اخر الاخبار:
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• القصص الأخيرة - الكابوس السابع: الدولة -//- أفنان القاسم

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

القصص الأخيرة - الكابوس السابع: الدولة

أفنان القاسم

يمّا، هل أنت هنا، أم أن الموت يمنعك من المجيء؟ ها أنا في قلب الدُّوَّار، هل تذكرين الدُّوَّار في نابلس، مدينتك؟ كم كان كبيرًا، الدُّوَّار، قبل أن أترك مدينة أحلامي وهذياناتي، وكم غدا صغيرًا، بعد أن عشت غير بعيد من ساحة الكونكورد، أكبر ساحة في العالم، بعد أن عشت كل تلك السنين عنه بعيدًا. لكن شوقي إليه بقي كبيرًا، إلى ابتسامة فيه قطفتها عن ثغور حبيباتي، وإلى حكاية من حكاياتي الكثيرة على أرصفته، حكايات دون نهاية. هكذا كنت أنا وحكاياتي، حكايات دومًا دون نهاية. ليس هذا لأني لا أتقن صنع النهايات، وإنما لأني كنت ولم أزل أهرب منها. النهايات ما أصعبها، وأنا كنت ولم أزل أهرب منها. كي تبقى، الحكايات، نعم، كي تبقى. تَسَهَّلْ، قلت لسائق سيارة الأجرة المرسيدس. لم يزل لي راكب، قال السائق، وهو ينظر إليّ عبر المرآة الارتدادية، وإلى حبيبتي التي تجلس إلى جانبي، والتي لم يكن أحد يعرف أنها حبيبتي. قلت لك تَسَهَّلْ، فَتَسَهَّلَ. دار من حول الدُّوَّار، واخترق شارع المستشفى. لم يكن يهمني إلى أين يذهب، كل ما كان يهمني أن أقضي بعض الوقت إلى جانب حبيبتي، قربها، أتنسم رائحتها، وأنعم بحضورها. ذاك الحمار لا يعرف القيادة، صاح السائق، وهو يتفادى الاصطدام بسيارة قادمة من الناحية المقابلة. كلهم حمير، قال الراكب الجالس إلى جانبه، كلهم لا يعرفون القيادة. كلهم لا يعرفون القيادة، أكد السائق. حذار، حذار، نبه الراكب السائق، فاضطر السائق إلى الكسر يمينًا، مما جعل حبيبتي تميل عليّ، وفخذها تلتصق بفخذي، وعلى الشتائم التي تساقطت من فم السائق شلالاً ابتسمنا لبعضنا. أن نبتسم لبعضنا، كان ذلك منتهى الوثنية. ذهب السائق والراكب في نقاش طويل لا ينتهي عن رخص القيادة، وعن الرشاوي، وبكل حذر وحيطة مددت يدي، وأمسكت يد حبيبتي. أن أمسك يد حبيبتي، كان ذلك منتهى التدلُّه.

في شارع فلسطين، شارع الملعونين والمجانين، أحد شوارع الدُّوَّار، غالبًا ما كنت أشعر بالتأثير السيء للأشياء عليّ. لأنني كنت مجنونًا وملعونًا، يمّا. في الماضي، كانت تخنقني رائحة بناياته الجديدة، واليوم تخنقني رائحة العفونة. تتفجر العفونة من جوانبه، شارع فلسطين، وأنا كغيري من العابرين أشمها، بلذة أشمها، وأمضي إلى قدر ليس قدري. رائحة العفونة. رائحة الزمن العفن. أتذكر المكتبة التي اشتريت منها لوليتا نابوكوف، فأبحث عن المكتبة. لم تعد مكتبة هناك، لم أجد في كل شارع فلسطين مكتبة واحدة. لوليتا. نابوكوف. لوليتا نابوكوف. كانت أول رواية قرأتها، أول رواية قضيت طوال الليل حتى أنهيت قراءتها، فهي لم تكن حكايتي. حكايات الآخرين أعرف نهاياتها كلها. ومنذ تلك الساعة، جعل مني نابوكوف عبدًا بعد أن عداني، نقل الجرثومة إلى دماغي، وأذلني، وها أنا إلى اليوم أعاني، أطلب الموت الذي لا يجيء، أستعين بالشياطين. قضيت كل عمري، وأنا أستعين بالشياطين. كانت الشياطين تستجيب لي أحيانًا، وأحيانًا لا تستجيب لي، بل وأكثر، كانت تعمل على قهر رغباتي. تعالي إلى حجرتي، قلت لجارتنا الصغيرة في رسالة طويلة كتبتها لها. جارتنا الصغيرة. لم يعرف نابوكوف جارتنا الصغيرة. الحمراء الشعر، البيضاء الوجه، المنمشة. عرفتها أنا، ولم يعرفها نابوكوف. جارتنا الصغيرة. كما لو كنت أرغب في كتابة لوليتا التي لم يكتبها. ظلت تدور حول بيتنا طوال النهار، وأنا أراها من وراء الستارة مترددة متعثرة، ملهمة ملجمة، حارقة حائرة، فتّانة شيطانة، قوادة خلاقة، الرسالة بيدها، تفتحها، وتقرأها، وتدور. تفتحها، وتقرأها، وتدور. تفتحها، وتقرأها، وتفكر. تفتحها، وتقرأها، وتتكلم مع نفسها. تفتحها، وتقرأها، وتبتسم لوحدها. تفتحها، وتقرأها، وتذرف الدموع. جارتنا الصغيرة. انثال شعرها الأحمر في الليل، وتلألأ النمش على وجهها. رأيتها فضية بلون القبر، فقلت لن تجيء.

سلكت طريقًا مختصرًا إلى شارع الشويترة، وأنا أفكر في سينما غرناطة، مهد الخيال، وملتقى اللوث، ودوام كل محال حتى المحال. كانت المفاجأة الكبرى عندما وجدتهم، وقد صنعوا منها مسجدًا. سينما غرناطة، يمّا. صرت كبيرًا في سينما غرناطة. صرت جميلاً في سينما غرناطة. هناك كانت تجلس، في الناحية الخاصة بالنساء، وكانت تنظر نحوي. صرت كلبًا صغيرًا في سينما غرناطة. بعد أن تعلمت العواء. كانت لا تبتسم لي، كانت تنظر نحوي. كالغرباء كنا، وكانت تنظر نحوي. كانت تقول لي أحبك، وكانت تتجاهلني. ككلب صغير بين باقي الكلاب. كان الفيلم يبدأ، فنعرف أنه بدأ، ولا نعرف أنه انتهى. كانت تنظر نحوي. كان فيلمنا نحن أن ينظر أحدنا إلى الآخر. أن نعوي دون أن يسمعنا أحد. أن نبتهل إلى الثدي. كنا في قلب الصور، يمّا. هل ينجزون على الصور بالإيمان، فقط لأنها صورنا؟ والأحلام بالخشوع، فقط لأنها أحلامنا؟ والعواء بالدعاء، فقط لأنه لغتنا؟ ألهذا السبب ترفضين المجيء كيلا تري صورنا المنكل بها؟ كيلا تنوحي على أحلامنا القديمة؟ كيلا تعوي معنا؟ يا يمّا، في شارع الشويترة جنازة طويلة. لا شمس في شارع الشويترة، ولا فساتين قصيرة. في شارع الشويترة حجاب أسود يغطي نهدين خجلين ما بينهما آية قرآنية. آه، يا ليتني كنت آية قرآنية! في شارع الشويترة قلم حمرة يبحث عن شفتين همجيتين منذ غادرتُ نابلس، فليست للدين شفتان همجيتان. قلم دموي يبحث عن شفتين همجيتين ليضاجع التوت فيهما. كان التوت في نابلس كثيرًا، وكانت البنات تحب التوت لفاجعة التوت وقلبي. اليوم، الحجاب هو الفاجعة.

طلعت طلعة المدرسة الفاطمية إلى بيتنا المعلق بإصبع الله في شارع كلية النجاح القديمة. أخذت ألهث تحت وطأة سني عمري، وأنا أنظر من حولي، فأرى ظلال السفلة. أصدقائي. ابتعدت الظلال عني بدل أن تقترب مني. لم تكن ظلال أصدقائي السفلة سعيدة بمقدمي، كانت الظلال بمقدمي تخشى التجسد بعد أن تَرَكْتُ الماضي البعيد يذهب كما تذهب السفن في الملاحم. لهذا لم تَرُدِّ الظلالُ عليّ السلام، وأنا أسلم عليها، لم تشد على يدي، لم تضمني، لم تشأ النظر في عينيّ لئلا تقع على ابن يجلد العميرة أو صديق دَيّوث. كانت في عينيّ فاجعةُ الوقت، بينما الوقتُ من حولي كل الفاجعة. كانت الفاجعة الحجاب الأسود والأبيض والأزرق، وكل رداء آخر بلون آخر يمشي. كانت الفاجعة ألا تبدو أية فاجعة هناك، ألا يكون هناك شيء غير طبيعي، ألا يصرخ الطفل على أبيه، ألا يصدح العصفور وقت الجنازات، ألا تكشف المومس عن فخذها في المحراب. كانت الفاجعة أن نكون كغيرنا، يمّا، أن نفكر كغيرنا، يمّا، أن نعمل الكابوس نفسه، يمّا، نعم، يمّا، الكابوس نفسه، يمّا، يا يمّا، ألا نفرق بين احتلال ودولة، يمّا، الكابوس نفسه، الحلو، كالعسل، يمّا. كالغائط. الحلو، كالغائط، يمّا. يا يمّا، يا يمّا، هل تسمعينني على الأقل، يا يمّا؟ الكابوس الحلو كالغائط، كابوس حلو كالغائط، يمّا، كالتين، كابوس حلو كالتين الخرطماني، يمّا. كشقائق النعمان. كالدولة للناس. كالاحتلال للناس. أن يأكل الناس، ويشربوا، ويناموا. أن يأكلوا، ويشربوا، ويناموا. كابوس حلو كالعلقم، يمّا. أن يأكلوا، ويشربوا، ويناموا. كالخراء في التوراة. كصلاة السفلة، يا يمّا، يا يمّا، يا يمّا.

وقفت أمام بيتنا مذهولاً، لم يتغير فيه شيء، لون شبابيكه الأصفر هو هو، ولون درابزينه البني الغامق هو هو، ولون زمنه الفستقي هو هو، وطفولتي التي ظلت تنادي عليّ. طرقت الباب، فخرج لي ملتح قبيح الوجه، قلت له هذا بيتنا. دَفَعَتْهُ ظلال السفلة، أصدقائي، وجعلتني أدخل. وأنا أبكي في حجرتي، سمعت بكاءها معي، وهي ترجوني ألا ألمس ثديها، ألا ألمس بطنها، ألا ألمس فخذها، ألا أبحث عن الأسرار في قبلة من قبلاتها. أخذتني، هي، بين ذراعيها، أخذتني بعصبية، كقبيلة من الجرذان أخذتني، وقبلتني، ثم جلست على كرسي، وراحت تصرخ، وهي تضغط يدي على ثديها، وعلى بطنها، وعلى فخذها. وبحركة الهوجاء والحمقاء، ضربتني دون أن تشاء على أنفي، وأسالت دمي. كان على الدم أن يسيل ثمنًا لقبلة. سمعت الجلاد، وهو يعذب امرأة وانية الشبق كانت زوجته. كان يشتهيها أكثر من زوجاته الأخريات، لأنها كانت وانية الشبق، ولأن الدم أبيض في ذاكرته. قالت لي النساء الثلاث، حرٌّ هو، كالسيف الهنديّ، يفعل فيهن كما تفعل في الناس نيودلهي. امتطاها، وهو يبتسم لي ابتسامة كريهة، فلم أبقَ. في الحديقة، رأيت الهند، رأيت الهند في الحديقة، ورأيت الهنود. سمعتُ امرأة، يعذبها أحدهم، فاقتربتُ لأرى، وإذا برجال من عندنا وعندهم يقذفون فيها قذاراتهم، وما صرخات المرأة إلا بدافع اللَّذة. اللَّذة، يمّا. اللَّذة. الشرف أم اللَّذة؟ اللَّذة، يمّا. اللَّذة. الفرج، يمّا. الفرج. الله أم الفرج؟ الفرج، يمّا. الفرج. تسيبي ليفني، يمّا. تسيبي ليفني. الوطن أم تسيبي ليفني؟ تسيبي ليفني، يمّا. تسيبي ليفني. كانت تأخذهم كما تأخذ عشاقها، وكانت سعيدة، كانت سعيدة أكثر من مرحاض. أنتَ، هناك، انتهرني أحد الهنود، ماذا تفعل؟ لا شيء، أجبت. من أنت؟ عاد الهندي ينتهرني. أنا لا أحد، أنا كاتب. هب الهندي بي صارخًا: اذهب، وبغائطك، اكتب على قبر أمك أناشيد الأحياء.

خليهم هيك أحسن لهم، يمّا. الحرية لماذا؟ الحرية هَمّ. خليهم مدعوسين ومبسوطين أحسن لهم. أريح لهم. زمان، كنا نريد ألا يكون لهم شرف ولا دين. خليهم هيك أحسن لهم. ألا يكون لهم أصل ولا شتاء. أن يدوسوا القوانين، أن يحطموا النواميس، أن يعاندوا الأقدار. أن يتحولوا إلى ذئاب تتقن العواء، يمّا. أن يتحولوا. أن يتحولوا، على الأقل، إلى بنات آوى، كتلك التي كانت تعوي في الجبل الشمالي، في بليبوس، أيام زمان، يمّا، تلك التي كانت أعينها تضيء في الليل عندما يدلهم الليل، فنخاف. الحرية لماذا، يمّا؟ لمن؟ الحرية لمن يستأهلها، وهم لا يستأهلون الحرية. الحرية لمن يموت من أجلها، وهم لا يموتون من أجلها. الحرية شيء آخر لا يعرفه إلا من يتركه من ورائه. الحرية عاهرة، عاهرة حريتنا. لهذا، في طرقات نابلس الكثير من الظلال العارية. الظلال العاهرة. في طرقات نابلس الكثير من الظلال الحبيبة التي أبكي عليها.

يبدو أن هذا من طبيعة الأشياء، يمّا. لتكون، غيرك يجب ألا يكون. يدخل الكل في المرآة، وتغدو للكل صورة الكل. هذه باختصار قصتنا مع حكامنا. تغدو للكل مصلحة واحدة، ولا يبقى إلا التبرير، لا تبقى إلا القبلات على كشحٍ وحشيّ. هناك تبرير وتبرير، يمّا، وهناك تدوير وتدوير، وهناك تعهير وتعهير، بشرط أن تبدو وطنيًا. هكذا أنت تخدم الكشحَ الوحشيّ، تخدم كشحك الفأريّ، وتحافظ على الأمر الواقع. إلى الأبد، يمّا. تحافظ على الأمر الواقع إلى الأبد، وتغدو الخيانة تفاحة نقضمها كل يوم، ونحن نجلس على حافةِ الكشحِ الوحشيّ. اغتصاب الأرض شيء كارثي، يمّا، ولكن اغتصاب جوهر الإنسان كارثي أكثر. بأمر الكشحِ الوحشيّ. من أجل ذلك هذا الخزق الذي اسمه فلسطين، هذا الماخور الذي اسمه القدس، هذا الوطن الذي اسمه الجدار. أحب العيش في بانتوستان، يمّا. أموت حبًا في البوينت شيك. أحلم في الليل بطيز تسيبي ليفني. أصرخ دون كلل: نتنياهو! هذا الوطن الذي اسمه ليبرمان. التوت أزرق على شفتي مارين. الوصايا العشر أحن علينا ألف مرة أكثر من هيلاري. يقدس الأرض المستوطنون، ونحن نقدس الكشحَ الوحشيّ. سوار دو باري. خراء دو باري. الثورة. المقاومة. الحجارة. خراء دو باري. كل هذه الحجارة، أين الحجارة؟ لن ننهض في الأرض، وكل هذه الحجارة. العاصيات. أقلام الحمرة. العاصيات، يمّا، هن الحياة. النزهة على جواد. هن الخطاب. المفيد. المُجدي. كل ما دبجه المفكرون العرب ثرثرة، يمّا، لا شيء غير الثرثرة، غرغرة، كل ما خربشه الشعراء العرب، لا شيء غير الغرغرة. الكشحُ الوحشيّ.

أهلاً نابلس! أين الدبابات التي كانت تقمعك؟ أين القنابل؟ أين عشاق الموت؟ أهلاً نابلس! أيتها المومس! هل تذكرين لما كنتِ أحلامي؟ هذياناتي؟ هل تذكرين لما كنتِ الخراء؟ أنت لا تذكرين شيئًا. السأم يطحن الحجر في نابلس، يطحننا، نحن، كل السفلة اليوم. السأم، السقم، اليأس. لكننا لم نزل نحتاج إلى حبك، حب من اختار الحرية. أعطينا الحب، لا تعطينا الصمت. أعطينا الحقد، لا تعطينا التين. التين الخرطماني. أهلاً نابلس ! في الشك، وفي الصمت. كنت قد طاردتها من رفيديا، من أرض العاصيات التي كانتها رفيديا، إلى السرايا، إلى أرض أقلام الحمرة التي كانتها السرايا. كنا في قلب نابلس القديمة، في قلب اللؤلؤة السوداء، ولم أكن أتوقع أن تصعد ذات النقاب الأزرق درج الجامع الكبير. لم يكن الوقت وقت صلاة، وربما لهذا السبب، فالقدم من حولنا كانت كثيرة، لأن الوقت لم يكن وقت صلاة، والمسجد كان خاليًا. في الداخل، كان بعض المؤمنين بين الأعمدة هنا وهناك. بحثت عنها بين الأعمدة دون أجدها، كانت في الطابق العلوي الخاص بالأساور، وكانت تشير بيدها إليّ كي أصعد، فصعدت، وأنا أسعى من وراء رنين الأساور. كانت وحدها، في زاوية معتمة. كانت تنتظر أن أجيئها، فجئتها. ككل أحرار العالم جئتها. فجأة، دوى صوت المؤذن، فابتهلت ذات النقاب الأزرق. تأوهَتْ كمختنق، كشيطان، كمكبوت، كزقاقي، كزقاق، كحمام، كحصن، كحصنٍ مومسيّ، كعصرٍ جاهليّ، منحط، قديم، بعيد، متقدم. بعد ذلك، والمؤمنات قد بدأن يتواردن، نظرَتْ إليّ من تحت نقابها، وهي ترمقني بعينيها المكحلتين، الشاكرتين، فقرأت فيهما كل القصة، القصة التي لم تنته إلى اليوم.

لماذا جئتَ بي من الجحيم، صاحت أمي غاضبة، وأنا أنقل القدم في أزقة نابلس القديمة الخالية من كل قدم، فالوقت وقت صلاة، وقتٌ معلق، ومكانٌ معلق. يمّا، هتفتُ، وأنا أريد أخذها بين ذراعيّ. منعتني من أخذها بين ذراعيّ، وتابعت بعدوانية: أنا سعيدة هناك. في الجحيم، يمّا؟ همهمتُ مندهشًا، أنت سعيدة في الجحيم؟ الفردوس لا يوجد، أوضحت أمي، يوجد الجحيم. الجحيم غير ما تتصور، خاصة في الشتاء. الأنبياء وكل المرسلين يقضون عطلة الشتاء عندنا. والله؟ سألتُ مترددًا. قُلْ لعبادِهِ الله امرأة، طنت أمي بصوتها الملعلع إلى الأبد. هم، لهذا، يقدسون الفرج دون أن يعلموا، همهمتُ. على طريقتهم، قالت أمي، لكنهم يقدسونه تقديسهم لله. هم بشر كغيرهم، همهمتُ، لهذا هم يجهلون. لا جاهل على الأرض بعد اليوم، ألقت أمي، وهي تهم بالعودة إلى الجحيم. ولكن، تلعثمتُ، لم تسأليني عني، ولا عن بناتي. هذا العالم المقلوب على رأسه ليس لك، قالت أمي بلهجة قاطعة، ليس لهن، فعد إلى عالمك، عد إليهن. لم أقل لها: فوّتُ قطاري، فوّتُ حياتي. رأتني أقف حائرًا في مكاني، فأشفقت عليّ، وبيدها لمست خدي، فجبيني، فشعري، وهمهمت: آه، يا ولدي، كم أشتاق إليك! يمّا، سارعت إلى القول، لماذا لا تبقين، يمّا؟ في هذا الجحيم؟ تهكَّمَتْ، تريدني أن أبقى في هذا الجحيم؟ الجحيم فوق أهون بكثير. سكتَتْ، وبعد قليل، سألَتْ: وما حال كلبة ابنتك الصغرى؟ مرفهة معززة مكرمة أكثر من فلسطيني، أجبتُ. سلم لي عليها. على ابنتي؟ على كلبتها. وعادت من حيث جاءت، وعدت من حيث جئت، بعد أن قضيت خمسين عامًا بعيدًا عن نابلس، دون أسف.

الكابوس القادم: الأسْوَدُ

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.