اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• وصول غودو/ رواية للدكتور أفنان القاسم - صفحة 4

القسم الثالث

في محطة الشمال، كانت السماء تقوم ولا تقعد على غير عادتها، القطارات في حركة ذهاب وإياب لا تهدأ على أكف الغيم، والركاب يقومون بأفعال خيالية، كما لو كانوا من عُصبة الآلهة. للنزول إلى الرصيف، كانوا يجعلون من النجوم سلالم لهم، وللصعود إلى الغيم، من أجل أخذ هذا القطار أو ذاك، كانوا يركبون على ظهور الجياد الرقمية المجنحة. لم يكونوا على عجل دائم من أمرهم، ولم يكن سحبهم لحقائبهم أو حملهم لها يشكل عبئًا كبيرًا. كان كل شيء يتم كما يريدون، وكما يرغبون، كما يدونون في أجنداتهم. لم يعد هناك من ينتظرهم عند الوصول، مثلي تمامًا، ولا من يأتي لوداعهم، كان كل منهم المنتظر لذاته المودع لذاته، هذا لا يعني أن الوداع كالاستقبال لن يكون في مكان آخر غير محطة الشمال، مكان آخر لم يعد مهمًا جدًا أين يكون، طالما أنه سيكون، وسيكون دون أدنى شك. لهذا لم أكن وحدي المبتسم في محطة الشمال، حتى الابتسام لم يعد له ما يبرره بعد أن حلت إرادة الآلهة محل إرادة البشر، وانتهت كل الصعوبات، أسبابها خاصة، المنكدة. ابتسمتُ على مرأى امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ليس بسبب عسر وهمي أو خيالي، كان ابتسامي بسبب نقلها لأشيائها وحقائبها على ظهر جمل رقمي، ودون أن تطلب من أحد ذلك، حتى سيارتها. كانت لكل شيء لكل شخص إرادة الآلهة في محطة الشمال، فها هو عازف الغيتار، يتسلق طرفًا من قمر أزرق، يعزف، ويغني، صوته الملائكي يشنف الآذان، والناس في محطة الشمال تسمع، لكنه لم يكن هناك لتسمع الناس، لم يكن هناك إلا ليعزف، ويغني، كانت تلك غاية غاياته، ألا يكون هناك إلا ليعزف، ويغني. لم يكن يريد مالاً من أحد، ولم يكن أحد يفكر في إعطائه بعض المال، كان في محطة الشمال فقط ليعزف، ويغني. كان يكتفي بالعزف والغناء، ولا بأس ألا يسمع أحد، كان يكتفي بابتسامة جواد مجنح، أو عندليب يشاركه في الترنيم، أو طاووس يفرش ذيله طربًا. كان كل شيء في محطة الشمال يكون بأمر بشر إلهي، بإرادة بشر ربانية، إرادة بشر جماعية، إرادة بشر دون إرادة، لأنها عفوية وكلية. وجدتني أسير إلى جانب أم تمسك بيدها طفلة لم تتجاوز العامين أشبه بالملاك الذي كانته المتحرر من كل تاج حديديّ، وفي لحظة من اللحظات، أفلتت الصغيرة من يد أمها، وأخذت تركض كفراشة، والأم تبتسم لها غير قلقة عليها، لكن أحد الجِمال الرقمية كاد يسحقها لولا حملي لها، وإعادتها إلى أمها التي شكرتني، وابتسمت لي، وتركتها تذهب إلى أين يحلو لها، فلم يعد هناك أيُّ خطر يهدد أيًا من المسافرين. لم أفارق الأم والابنة بناظري، كانت الأم جميلة، ولم يكن ذلك لأنها كانت جميلة، بين بشر الآلهة الجمال أمر طبيعي، كان ذلك لأنها كانت أمًا، الأمومة شيء غال، والنرجس في ماء الوقت، والحب الذي يمكن أن يتحول إلى كره أحيانًا، وساعتئذ يكون الصراع، ويتحول البشر الآلهة إلى بشر من عندنا، يدمرون أنفسهم، وإن لزم الأمر يدمرون أنفسهم، ويدمرون غيرهم، يدمرون العالم لو يلزم. وهذا ما شدني إلى رجل وامرأة يبدو عليهما يأس الآلهة، ومن يقل يأس الآلهة يقل جبروتهم، وما يتبع ذلك من بطش للأقدار، التي لن يصمد أمامها ضعاف النفوس. كان كل من الرجل والمرأة يسحب حقيبتين ضخمتين دون أن يكون ذلك بذي بال، كل ما كان يرمي إليه الواحد كالآخر الانتقام، كان يبدو عليهما أنهما يحبان بعضهما البعض حبًا عظيمًا إلى حد الانتقام، لذنبٍ ارتكبه الواحد أو الآخر أو الاثنان، ذنب لا يستحق المغفرة. كان كل واحد يمر بهما من ركاب محطة الشمال يعرف ما أعرف، ويعرف أيضًا أن شيئًا رهيبًا سيقع بين لحظة وأخرى. لم تكن فائدة هناك من التدخل، كان كل شيء قد تم قبل أن يتم، وكان من الأجدى تأجيل ذلك ولو القليل، ريثما يجد العاشقان نفسيهما بعيدين عن أنظار باقي الآلهة، فللآلهة، الآلهة البشر أم الآلهة الآلهة، حياتهم الخاصة وحسهم الباطنيّ. لكن شيئًا من هذا لم يحصل بعد أن حددا النهاية التي تنتظرهما التي ينتظرانها قبل هذا الوقت بكثير. فجأة، سقطت الحجارة من بين أصابع شابين، أسود وأبيض، كانا يلعبان مع ملوك الشطرنج هناك على مقربة، فرمت المرأة حقيبتيها أرضًا، وغدت لهبًا أحرق رجلها في عدة ثوان. تم كل شيء في عدة ثوان، دون أن يكون لنا الوقت الكافي لتأمل المشهد، ولو لم تفعل هي لفعل هو، ولكانت نهايتها. هذه هي إرادة الآلهة، الآلهة البشر أم الآلهة الآلهة، عزمها، وإصرارها على الوجود، استحقاقها لتبوء العرش. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بكل أنفة وعظمة، ومجموعة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها تنحني لها إجلالاً. امتطت جوادًا رقميًا مجنحًا، وصعدت إلى حيث كانت، إلى القطار الذي جاء بها قرب راهبة حبلى على أكف الغيم. راهبة وحبلى، قالت المرأة دَهِشَةً. الملائكة تحبل أيضًا والشياطين، قالت الراهبة الحبلى قبل أن تضيف، إذا ما سمح الرب بذلك. ضحكت المرأة، يسمح أو لا يسمح، في عالم مقلوب، كل شيء جائز. زوجي هناك بانتظاري، أشارت الراهبة الحبلى إلى أحد القساوسة، فاعذريني، وذهبت ليأخذها القس بين ذراعيه بحرارة، ويطبع قبلة طويلة على ثغرها.

أول ما وضعت نجيمة السينما قدمها على الرصيف مغادرة سلم النجوم، إذا بعشرات الكاميرات تقصفها بفلاشاتها وعشرات الصحفيين والصحافيات بأسئلتهم: احكي لنا قصة تعاقدك مع شركة غومون؟ لماذا أعجبك السيناريو؟ لماذا تم اختيارك بين عشرات الممثلات المعروفات؟ لماذا كل هذا الاهتمام المفاجئ بك؟ متى سيبدأ الكاستنغ؟ متى ستبدأ البروفات؟ متى سيبدأ التصوير؟ من سيلعب الدور الأول إلى جانبك؟ من سيلعب الدور الثاني؟ من النساء؟ من الرحال؟ هل كانت لديك شروط معينة بخصوص الدور الأول الرجالي؟ أسود؟ أبيض؟ أحمر؟ أسمر؟ أصفر؟ جن جنونها، فبدأت تصرخ، وهي تبعدهم، فكل هذا لم يحصل، عقد، وسيناريو، ودور أول، ودور ثان، ودور ثالث، إلى أن ظهر المنتج الذي عزمت على عدم النوم معه، وهو يحمل العقد بيده. جذبها من ذراعها، وهو يهمس في أذنها، سأشرح لك فيما بعد. قدم لها قلمًا أمام كل كاميرات الدنيا، وقال لها وقعي، انحنت لتوقع، وفستانها يكشف عن أروع نهدين، بينما المنتج يذوب بهما رغبة.

أنا أحمل ماما، يا ماما، قال صبي سمين جدًا لأمه، وهو ينطنط كالطابة. أنت تحمل ماما، يا حبيبي؟ قالت الأم. أنا أحمل ماما، يا ماما، قال الصبي، وهو لا يتوقف عن النطنطة. كان يبدو خفيفًا كطابة. لا، أنا أحملك، يا حبيبي، قالت الأم. لا، أنا أحمل ماما، يا ماما، قال الصبي. لا، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، خائفة عليك كثيرًا، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، لست خائفة عليّ كثيرًا، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، وكبيرة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، وكبيرة عليّ، يا ماما. لا، أنا خائفة عليك، وثقيلة عليك، وكبيرة عليك، كبيرة عليك، يا حبيبي. لا، أنت لست خائفة عليّ، وثقيلة عليّ، وكبيرة عليّ، كبيرة عليّ، يا ماما. ورفعها، فإذا بها ترتفع كالبالون بين ذراعيه، وتأخذ بالقهقهة.

كما قلت منذ قليل لم يكن أحد بانتظار أحد، الانتظار في محطة الشمال غدا ذكرى من الذكريات، القطارات معلقة في السماء، وكذلك الأرصفة، لكنني لاحظت أحد وكلاء الفنادق ينتظر، كما لو كان يعيش دومًا في الماضي، قطارًا أبدًا لن يأتي. وأنا أتقدم منه، رفع الوكيل لوحته المكتوب عليها اسم نزيل في وجهي، وسألني إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الساخرة المرسومة على ثغري، قال إنه هنا منذ ساعات، ولا من قطار قادم. أخذ ينادي، وينادي، وينادي، وصوته يبدو كصوت إنسان يأتي من زمان آخر. تأملت وجهه، ووجهه يبدو كوجه إنسان يأتي من مكان آخر. كانت الجياد الرقمية المجنحة تملأ سماء محطة الشمال، وهو لم يكن يلاحظ أيًا منها. أردت أن أشرح له، لكن الأحمق لن يفهم، سيظل الأحمق أحمق، سيظل يحيا في زمن آخر، زمنه القديم، سيظل عبدًا لزمن آخر، زمن مضى، ولن يقدر على التحرر مما هو فيه، حتى بتدخل خارجي، تدخلي. تركته ينادي إلى أن بُح صوته، ولم أعد أسمع أي صدى من أصداء الماضي، كان كل الحاضر الآن يفرض على الواقع حضوره. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت شابًا يرتدي بذلة سوداء مخططة، ويضع على رأسه قبعة سوداء حريرية، الوحيد الذي ينزل من القطار، ويركض على الرصيف، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويحرك ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويقف فجأة، يلتفت، ثم يلتفت، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ولا أحد هناك لاستقباله.

في محطة الشمال، لم يعد البشر الآلهة بحاجة إلى الكلام الكثير، كانت إشارة من الرأس ومن اليد تكفي، وبعض الكلام الوجيز. لم يعد هناك مكبر صوت يمارس الإرهاب على المسافرين، فلا أحد منهم بحاجة إلى معرفة ساعة وصول هذا القطار ومغادرة ذاك، كان كل شيء للآلهة من البشر معروفًا، وهم ليسوا بحاجة إلى وسيط أيًا كان، كانوا وسطاء أنفسهم إلى العالم وإلى ما في العالم من أشياء. والحال هذه، رأيت فتى وفتاة جالسين حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وهما لا ينطقان بكلمة، كانا يتبسمان لبعضهما، وفقط. وهناك ليس بعيدًا منهما كان طبيب الأسنان قد وجد كل الوقت للاعتناء بأسنانه، فلم يكن لديه أي زبون، وكذلك حال الكاتب، وقد أخذ من عظيم الفراغ يقص صفحاته، فتنبثق منها الصور والشخصيات، وتتركه هاربة. وعن سمك القرش، كانت قد نبتت له أجنحة كالجياد، وعندما كان أحدهم يحتاج إليه، ينقله بين أسنانه دون أن يؤذيه، حتى سمك القرش قد حبا نفسه بخصال الآلهة. كان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما إلى ما لا نهاية، ولم يكن يبدو عليهما أنهما سيأخذان القطار، كانا هناك لأنهما يريدان التبسم لبعضهما، وفقط. وصلتني ضربات على البيانو، كان شوبان، وكان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، وشوبان هناك لأنهما كانا يتبسمان لبعضهما، كل هذه الضربات الرقيقة على البيانو لأنهما يتبسمان لبعضهما، وليس لأنهما في محطة الشمال، أو لأنهما سيفترقان. أخذت الفتاة جرعة من قهوتها، وعادت إلى التبسم، وكذلك فعل الفتى، أخذ جرعة من الكوكاكولا، وعاد إلى التبسم. ربما لم يكونا من البشر الآلهة، لكنهما كانا يحسنان التبسم، وكان هذا شيئًا عظيمًا.

جاءت فتاتان، وكل منهما تسحب حقيبة، وأخذتا مكانًا قرب الشابين العاشقين. طلبتا قهوة، وأمسكت الواحدة بيد الأخرى، قبلت إحداهما الأخرى من فمها، دفعتا، ثم نهضتا. كان هناك جواد رقمي مجنح بانتظارهما، وما هي سوى عدة ثوان حتى غادرتا المكان إلى قطار يقف على أكف الغيم. جاء أحد لاعبي الرُّغبي مباشرة صوبي، وسألني إذا كنت أرغب في اللعب معه، لم أكن أرغب، وقلت أرغب. كانت الحركة في محطة الشمال فوق، وتحت كانت المحطة شبه فارغة. لعبنا حتى مللنا، بعد ذلك ودعني لاعب الرُّغبي، وشكرني على لطفي. جاء رجال المطافئ، ونظروا هنا وهناك، ثم ما لبثوا أن غادروا المكان. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت عربات حمل الحقائب بالمقلوب بينما يقودها صاحبها دون خوف من أن يصطدم بأحد، وعند سماعي لصفارة المراقب، رأيت القطار بالمقلوب، وكل الناس الذين كانوا على رصيف الغيم، صعدوا كلهم ما عدا شيخ عجوز لعجزه على الصعود، مما جعل القطار يتأخر عن الإقلاع حتى ساعده الناس على الركوب، وهم يحملون حقيبته. وبلمح البصر، بعد ذلك، غادر القطار على خطوط الغيم.

هنا تحت، دفع شاب من أمامه عربة جده المُقعد، وهو يقول له إنهما سيسافران معًا، وإنه سعيد لأنهما سيسافران معًا. وأنا أيضًا سعيد، يا جان، قال الجد. ستكون مفاجأة لها، قال الشاب. لأمك؟ سأل الجد. ستكون مفاجأة لها، قال الشاب. نعم، ستكون مفاجأة لها، قال الجد. لم أرها منذ مدة طويلة، قال الشاب. نعم، منذ مدة طويلة، قال الجد، منذ أن ماتت. منذ أن ماتت أمي لم أرها، قال الشاب. نعم، منذ أن ماتت، قال الجد، منذ مدة طويلة. لم أرها منذ مدة طويلة، قال الشاب، منذ أن ماتت، وستكون مفاجأة لها. نعم، ستكون مفاجأة لها، قال الجد، المسكينة، ستكون مفاجأة لها... ولم أعد أسمع ما يقولان. وهناك، لا أحد من أمام شبابيك بيع التذاكر، كان الكل يشتري تذكرته على إنترنت، فلم يعد بالركاب حاجة إلى عمل صف طويل يدوم ساعات، حتى أن البعض كان يشتري تذكرته على ظهر القطار، إذا وجد على ظهر القطار مكانًا، من أحد المراقبين الذين ينقلون في جيوبهم شبابيك بيع التذاكر الإلكترونية. رحلة على ظهر الغيم، قرأت بخط عريض، السماء ملك للجميع. هذا هو عالم الآلهة الجدد، همهمت. وعلى مقربة ليست بعيدة، كانت ماكينات تبديل النقود، ولم يعد أحد بحاجة إلى تبديل نقوده بعد أن توحدت العملة في كل أوروبا. جاء عمال برافعاتهم، واقتلعوها من جذورها تحت حراسة شرطيين، وذهبوا، بينما أخذ متسولان أحدهما شريف والآخر غشاش بالبكاء.

البكاء لا ينفع شيئًا في عالم البشر الآلهة، قلت، وأنا أرفع رأسي إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها بالمقلوب، فمحطة الشمال الحقيقية فوق، والناس فوق يقفون بالمقلوب، ينظرون إلى تحت. لم يكن يهمني أي إعلان كان، كانت الفتاة كل ما يهمني، شعرها المتطاير وفستانها الكاشف عن ساقيها. حتى الآلهة يحبون السيقان العارية! هل سيقان المرأة هي التي خلقت الآلهة أم الآلهة هم الذين خلقوا سيقان المرأة؟ لو كنت إلهًا يختار خالقه لاخترت سيقان المرأة. كانت مواعيد القطارات تتلاحق على لوحة بالمقلوب إلى جانب صورة الفتاة المتطايرة الشعر والفستان، وكانت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات بالمقلوب، وتنظر إليّ، وتضحك عليّ. إنجليزيات. إنجليزيات قمريات سفيهات ينظرن إليّ بالمقلوب، ويضحكن عليّ، لأني أميل برأسي كي أرى البنطال القصير للفتاة التي يتطاير فستانها دون أن أتمكن من ذلك، فكل شيء فوق بالمقلوب، كل شيء فوقَ أكفِّ الغيم بالمقلوب. أخذت الإنجليزيات يشرن إليّ بالصعود، بالذهاب معهن إلى لندن لو أريد، لكني كنت في محطة الشمال كآخر محطة، فلنقل حتى الوقت الحاضر، آخر محطة حتى الوقت الحاضر، كانت الفتيات السفيهات يشرن إليّ بالصعود، وهن بالمقلوب دون أن تكشف فساتينهن عن سيقانهن، سيقان النساء هي الخالقة للآلهة، وأنا لعجزي عرفت أني لست إلهًا من صنع سيقان النساء.

أمسكني أحدهم من رأسي، ورفعه إلى ناحية في السماء فيها هرم رأسه إلينا، وعلى بابه رجل يبكي دون أن يكون الألم سببًا. كان تنين يمزق صدره دون أن يمكنه الإجهاز عليه على الرغم من إنجاز الرجل لمكان موته. كان يبكي لأنه أنجز بناء قبره، ولم يكن يمكنه الموت. كان التنين يسعى إلى عونه على الموت، وفي السماء، لا يوجد موت في السماء، يوجد الموت على الأرض.

أنا سأموت على الأرض، على رصيف في محطة، كي أداوم على سماع الأحياء. سمعت شابًا أحمر البشرة يسأل موظفًا في المحطة عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى فوق، وقال على الشاب أن يمتطي جوادًا رقميًا مجنحًا. وهو يبحث عن جواد رقميّ مجنح، اعترضته فتاة حمراء، وسحبته من ذراعه إلى رصيف أرضي فارغ من البشر. تركته ينتظر القطار هناك، قطار لن يجيء أبدًا، وجاءتني، وهي تبتسم لي. ابتسمت لها، لابنة الخديعة، وأنا أقول لنفسي خديعة المرأة سماوية، لها غاية سامية. أعرف لماذا فعلتِ هذا؟ قلت للفتاة الحمراء. أما هو، فلا يعرف، قالت الفتاة الحمراء. سيعرف عندما يدرك أن القطار لن يقلع أبدًا، قلت للفتاة الحمراء. عند ذلك ستكون كل القطارات الأخرى قد غادرت محطة الشمال، قالت الفتاة الحمراء، وستكون الصدمة. أنا هنا لأصدم، وأهدم، وأقطع كل صلة بالعالم القديم. أنا هنا لأعذب لو يلزم، ليعرف الناس أننا لسنا كلنا ملائكة، أضافت الفتاة الحمراء. لسنا كلنا آلهة، قلت للفتاة الحمراء مصححًا. تعلقت الفتاة الحمراء بكتفي، وطبعت على خدي قبلة. رافقني أرفق بك، سألتني الفتاة الحمراء. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي على آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان بدا منقطعًا عن عالمي المحطة القديم والجديد، مكان منسيّ. كان هناك مركز للشرطة مفتوح لا أحد فيه، ومكاتب متفرقة، مفتوحة، لا أحد فيها، كانت تبدو مهجورة، لا فائدة من وجودها. داومت الفتاة الحمراء على سحبي، وكأنني حقيبتها أو كلبها، إلى أن دخلنا منطقة تتقاطع فيها خطوط السكة الحديدية كخطوط اليد، القطارات المحطمة والصدئة فيها كثيرة، قالت الفتاة الحمراء عنها المقبرة القديمة للقطارات. والجديدة؟ سألت. أشارت إلى فوق. وفي اللحظة ذاتها، انبثقت من بعيد سفينة تبحر على ارتفاع عدة أمتار من خطوط السكة الحديدية، توقفت عند مستوى رأسينا، وما لبث أن أطل منها قرصان يضع على عينه عُصابة. قال إنه أعمى، لا يرى شيئًا، ومع ذلك، رفع العُصابة، وأخذ يجول بعين جفنها مغلق في كل الأنحاء. هل هذه محطة الشمال؟ سأل القرصان. أكدت الفتاة الحمراء أنها محطة الشمال، هنا المقبرة، أضافت محددة، وهناك المحطة. أطلق القرصان ضحكة مجلجلة، ونادى على خادمه، وهو يقول إنها المرة الأولى التي لم يخطئ في قيادة السفينة رغم فقدانه لبصره، وإن إبحاره لم يذهب سدى. أطل الخادم، وهو يحمل حبلاً طويلاً لفه حول رقبة القرصان، وجذبه منه، فسقط هذا أرضًا، لكنه نهض كالجني بعد ضَرْبِ خادمه له عدة ضربات بالسوط، وأَمْرِهِ إياه بحمل حقائب أربع كانت هناك، ونفذ ما أُمر به في الحال ليتفادى لسعة السوط. تعثر لعماه، فقاده الخادم بالحبل، إلى أن حطا أرضًا. لم تكن الفتاة الحمراء راضية عما يجري، خاصة وأن الخادم لم يتوقف لحظة واحدة عن لسع سيده بسبب أو بغير سبب. غدا لونها الأحمر ناريًا، غدت الشر، إلهة للشر غدت، وأنا لهذا وقعت في أحابيلها، وتركتها تفعل ما تشاء بالضرير وخادمه المتجبر. دفعت الفتاة الحمراء عربة قطار توقفت السفينة على جناحها، وأسقطت السفينة على رأسيهما. تخلصنا منهما، قالت الفتاة الحمراء، وهي تنفض الغبار عن يديها، وسحبتني إلى شجرة لم يبق منها سوى جذعها.

خرج من تحت قاطرة قطار محطم توأمان سياميان برأسين وذراعين وساقين وبطن واحد، فكأنهما مخلوق تحت أرضي مثير للقرف والاشمئزاز. ما أن وقعا على الفتاة الحمراء حتى سألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالإيجاب، وهي تقدم لهما بلطة فهمت في الحال مغزاها، فعبدت إلهة الشر التي كانت، واختلجت كل أعضائي اغتباطًا. ولكن هذه بلطة وليست حبلاً، قال التوأمان السياميان، نحن نريد حبلاً، حبلاً، لنشنق نفسينا، نريد حبلاً نربط به عنقنا هكذا هكذا وليس بلطة. أشارت الفتاة الحمراء إلى الجذع، لم تعد الشجرة شجرة، قالت الفتاة الحمراء. لم يفهم التوأمان السياميان كلامها، فتركتهما، وهي تسحبني من يدي ككلبها. لم يفهما، ولكنهما سيفهمان، قالت الفتاة الحمراء. هل تريدينني أن أفهمهما على طريقتي، سألتُ واغتباطي يصل إلى حد متعة الجماع. إذا اضطررنا إلى ذلك، تركتك تفعل، قالت الفتاة الحمراء.

قطعنا أنا والفتاة الحمراء المقبرة إلى جهة أشعلت فيها نارًا، وما هي سوى عدة دقائق حتى برز من اللهب رجل رماديّ الشعر ذو وجه تملأه الغضون، ركضت الفتاة الحمراء إليه، وعانقته بشوق، والرجل ينظر إليّ، وبيده يداعب نهدي الفتاة الحمراء وإليتيها. خاطبته الفتاة الحمراء بيا أبي، وخاطبها الرجل الرمادي الشعر ذو الوجه المليء بالغضون بيا ابنتي. سألها إذا ما كنت عشيقها الأخير، فقالت إنني لست بعد عشيقها. إياك أن تجعلي من النار مسكنه، يا ابنتي، قال الأب. النار مسكنك أنت، يا أبي، قالت الابنة. تعالي، يا ابنتي، قال الأب. جذبها من ذراعها، وهي تنظر إليّ راجية إياي بعينيها ألا أبالي، دخل معها النار، وضاجعها. بعد قليل، خرجت الفتاة الحمراء وحدها، وهي تتوهج بالشر والشرر، وأنا أشتهيها كجهنم. أردت أخذها كما أخذها أبوها، فأوقفتني. لنذهب إلى مسكني، قالت الفتاة الحمراء، هناك لا توجد ملائكة من حولنا. وهل بقي من الملائكة شيء؟ سألتها. بقي. ماذا؟ وَدْفُ أبي. عادت تسحبني ككلبها إلى قصر مبني من القطارات القديمة، أرضعت ولدًا كان لها في التاسعة عشرة، وصرفته، ثم اشتعلت جنسًا وجهنم في حضني وهمجية وشيطانية. بقيت أضاجعها طوال تسعة وتسعين عامًا، هكذا خيل لي. في الصباح، قالت إنها سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فالعلوي المعلق على أكف الغيم الكل يعرفه، أما السفلي فللاكتشاف حالاً.

عدنا أدراجنا والنار التي أشعلتها الفتاة الحمراء تتأجج دون انقطاع والجذع الذي فصم التوأمان السياميان عليه رأسيهما يغرق في الدم والسفينة التي سقطت على صاحبيها تغوص بنصفها بين القضبان. كانت هناك بعض الطيور الغريبة التي لا تتحرك، وكأنها صنعت من شمع، وكان الوقت منتشرًا هنا وهناك انتشار خطوط السكة الحديدية الصدئة. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة لتستقبلنا سماء محطة الشمال مقلوبة، كان العالم كله مقلوبًا، لكنه كان العالم. دفعتني الفتاة الحمراء إلى درج يهبط تحت الأرض، فرأيت في الطابق الأول السفلي طيورًا إفريقية ملونة عملاقة تتسلى بنقر أربابها من البشر، أمام المستودع على اليمين، وكأن ذلك شرط إيداعها في أقفاص إلى حين استردادها، ممن؟ سألت. مني، أجابت الفتاة الحمراء، وهي تداعب بيدها عنق نعامة. جاءت ببغاء، واحتضنت الفتاة الحمراء، وكذلك فعل طاووس بدا عاشقًا لها، فأثار غيرتي. كل هذا لم يكن غريبًا والحال تلك. على اليسار، رأيت عددًا من رجال الفضاء أمام شبابيك الصرف، كائنات أشبه بسكان المريخ، ومن الناحية الثانية للشبابيك كان الصرافون، في ثياب الملاحين الكونيين. ذكرتني الفتاة الحمراء أن عملتنا لا تشمل سكان الفضاء، لهذا أبقوا على هذه المكاتب مفتوحة بعد أن اقتلعوا آلات الصرف، فمحطة الشمال العليا تستقبل اليوم الكثير من سكان الكواكب الأخرى. أصدقاؤك الطيور لا ينقرون إلا البشر كما أرى، قلت للفتاة الحمراء. لم يتعود أصدقائي الطيور بعد على لحم هؤلاء، علقت الفتاة الحمراء، وهي تشير إلى رجال الفضاء. كنا قد وصلنا إلى نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها فيلة على أشكال الأرقام. لم أبد للفتاة الحمراء دهشتي، وكل الكائنات الرقمية المنتشرة اليوم في محطة الشمال. أما تحت، فدهشتك ستكون أكبر من كبيرة، قالت الفتاة الحمراء، وهي تتقدم من خزانة حديدية فتحتها بمفتاح كان تحت ممسحة الأرجل على بابٍ في داخلها أدخلتني منه أولاً كي تعيد غلق الخزانة من ورائها. وكانت الدهشة بالفعل أكبر من كبيرة، فالفيلة الضخمة الثقيلة الوزن ترتفع عن الأرض محلقة، وصهاريج البترول الضخمة ترتفع عن الأرض محلقة، وبواخر الرحلات البحرية ترتفع عن الأرض محلقة، والأغرب من كل هذا ما رأيته من تماسيح عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وكلاب عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وديوك عملاقة، وأرانب عملاقة، وفئران عملاقة، وسحالي عملاقة، وصراصير عملاقة، ونمل عملاق، و... و... و... كلها ترتفع عن الأرض محلقة كأنها بالونات منفوخة، ومتروكة هناك بين الأرض والسماء. من الناحية الأخرى وجدنا ناطحات سحاب ترتفع عن الأرض محلقة، وجبال جليد ترتفع عن الأرض محلقة، وجزرًا بأكملها ترتفع عن الأرض محلقة، و... و... و... هذا وألقينا نظرة عاجلة على قطوف العنب أو البلح العملاقة المحلقة، وحبات الأجاص، والبصل، والباذنجان، واللوبياء، إلى آخره، إلى آخره... تفاجأنا بأقزام عمالقة، كلهم مافيا، الدم يشربونه كالماء، وبنساء عملاقات يبترن كل عضو في أجسادهن يردن تبديله، أما أكثر ما أثار دهشتنا أنا والفتاة الحمراء دهشتنا الأكثر كون الراهبات يسعين إلى تطهير كل مومسات باريس كي يجعلن منهن بناتٍ للرب صالحات. كانت المومسات عندهن بالآلاف، من كل الأجناس، وكانت فضيلة الفضائل بالنسبة لهن هذا التعدد العرقي والثقافي، وهدفهن التوصل إلى إنشاء سوربون جديدة، سوربون عملاقة في رؤيتها المتعددة وفلسفتها المتغربة.

أشارت الفتاة الحمراء إلى كبار رجال الأعمال والوزراء، رجال الجهالة والبهيمية ووزراء الكره والعنصرية، قالت الفتاة الحمراء، وهي تتلظى كالحمم. يعملون كل ما في وسعهم لإفشال مشروع الراهبات الديني الثقافي الإنساني الراقي، وإبقاء الباب بين فخذي النساء مفتوحًا. كانت الراهبة الحبلى فريستهم، ربما لا، فهي قد أخذتهم كلهم بين فخذيها كما لو كانوا شخصًا واحدًا. رحنا أنا والفتاة الحمراء نلاعب الفيلة المحلقة في الأجواء ونلعب بها ونحن نضربها كالبالونات والفيلة تطلق صيحات الجذل، وذهبنا مع عشرات غيرنا نصعد على سطوح ناطحات السحاب لنرى كل العالم حتى نيويورك حتى نيودلهي حتى بيكين حتى مكسيكو حتى هافانا حتى هونولولو. جربنا بعد ذلك حظنا مع سباق صهاريج البترول، فانفجر أحدها، لكن شفاطات عملاقة شفطت كل شيء. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي إلى مصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. عند خروجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الهامات، مصاصي الدماء. اجتمع بعضهم ضدي لست أدري لماذا، ربما لملوحة دمي، فأصلتهم الفتاة الحمراء بنار من جهنم، وعلمت بهم غيرهم. كانوا يتعانقون عناق الدمويين عندما لا يجدون دمًا آدميًا يلعقونه، وهم بالمناسبة أقاموا للفتاة الحمراء حفلاً طنانًا تعاطوا فيه كل أنواع المخدرات والكحول. وعند آخر الليل، أحضروا بعض الحيوانات العملاقة، ومصوا دمها، ثم هدأوا، رأيتهم ينامون، وعيونهم مفتوحة.

سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب كلبها إلى المصعد، وأنزلتني في الطابق الوسط، طابق بين بين. كانت شعوب لا أصل لها ولا فصل تنهض من سباتها الطويل، وتهدم كل شيء. بهمجية كانت تهدم كل شيء، ولكن بجمالية بودلير وهيغل وماركيز. بهمجية. وبظمأ الهامات إلى الدم. إلى الحرية. إلى الضوء. بهمجية النيل، ووحشية الفرات ودجلة. شاركتهم الفتاة الحمراء في الهدم، وأبدًا في التعمير. قالت عن التعمير ليس من مهماتها، وأنا مثلها قلت عن التعمير ليس من مهماتي، وكنت ثملاً على مناظر الهدم والتدمير والتغيير، كنت أشعر بأسعد لحظة في حياتي.

لمتابعة الرواية اذهب الى الصفحة الخامسة / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.