اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• وصول غودو/ رواية للدكتور أفنان القاسم - صفحة 6

عدنا، أنا والفتاة السمراء، أدراجنا والمقبرة تتوهج بالأضواء، التقينا بالرجل الرمادي الشعر والوجه المغضن، وعلى عينه عُصابة القرصان، حيانا تحية الغرباء قبل أن يعطينا ظهره، ويتجاوزنا إلى الشجرة اليافعة للتوأمين السياميين التي اقتلعها. جاءت طيور غريبة من الجهة التي ذهب منها، ووقفت على جثة أحد القطارات، وهي تتابعنا بنظراتها دون أن تتحرك. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى قلب محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات، كانت الحياة، حياة اسمها الحياة العابرة. دفعتني الفتاة السمراء إلى درج يهبط تحت الأرض، فواجهني صف من الإفريقيين الأثرياء، وهم يحملون إفريقيين آخرين مدقعين في أقفاص يتركونها في المستودع. كان الإفريقيون الأثرياء يزينون صدورهم بقلادات ضخمة من الذهب، وأصابعهم بخواتم ضخمة من الذهب، وآذانهم بأقراط ضخمة من الذهب، وكانوا يرتدون أفخر الثياب، وأغلى الأحذية. على اليسار، رأيت كيف يبدل الإفريقيون الأثرياء قطع الماس والذهب بقليل اليوروات من أمام شبابيك صرف كان الصرافون فيها كلهم صرافات بنات شقراوات، وكلهن يرتدين ثيابًا براقة كثياب الملاحين الكونيين، ولم يكن بينهن رجل واحد. واصلنا السير، أنا والفتاة السمراء، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها قرود أخذت أشكال الأرقام. لم يكن هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال، عالم المجانين الرقميين والملعونين التكنولوجيين. لم تبتسم للعدم، كان العدم يبتسم لها. تقدمت الفتاة السمراء من خزانة حديدية مهملة، وفتحتها بمفتاح أخرجته من جيبي، وإذا بباب في داخلها أدى بنا إلى عالم هو بالفعل سفلي، عالم من القرود الرقمية. كان القرود يملأون الدنيا، ويحكمون العالم. كانت حضارة القرود، ليست الحضارة بمعنى الهمجية، فحضارة القرود تظل همجية على الرغم من كونها حضارة. همجية رقمية، لقرود رقمية. أدغال رقمية، لهذا كانت الأدغال الرقمية حدائق غناء. عقول رقمية، لهذا كانت العقول الرقمية مصانع وجامعات. عضلات رقمية، لهذا كانت العضلات الرقمية ملاعب ومسارح. أخذنا ننتقل من مكان إلى مكان انتقال المعجب الحاسد لا الشاكر لفضل الآخر عليه، الحاسد والحاقد. وما أن اعتدنا على الأجواء حتى أخذنا نكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي الذي يجدر دعوته بالعلوي، لنقل المتعالي لمحطة الشمال. ثلاثة أماكن أسرتني، المكان الأول للمافيا، حيث كان أفرادها يستقبلون رجال العلم، ويغدقون عليهم الأموال الطائلة في سبيل تحقيق أعظم الإنجازات. باحثون وأمخاخ وعظماء يخضع الكون لهم خضوع الطبيعة لابن سينا فيما مضى. المكان الثاني للتجميل، حيث كان يدخل كل ذي عاهة ويخرج دونها. رأيت الأحدب يدخل بظهر أحدب ويخرج بظهر مستقيم كعرق البنفسج، الأحول بعين حولاء ويخرج بعين حوراء كعيون اليمنيات، الأصلع برأس أصلع ويخرج بحرير أسمر كحرير الشام. المكان الثالث للحب، المومسات فيه ذات رسالة قدسية، يردن تثوير الرهبنة الأنثوية على طريقتهن، طريقة معاصرة ترضي كل الرغبات المقموعة، وتؤسس لعبادةٍ الجسدُ فيها يحل محل الروح. أعطين الراهبة الحبلى لهن مثالاً، ورفعنها إلى درجة القداسة.

أشارت الفتاة السمراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء، أخشى على المومسات والراهبات استغلالهن من طرفهم، قالت الفتاة السمراء كمن تقول عن أخواتها. لم يكونوا يسعون وراء المتعة الهادفة للتحرر، كانوا يريدون المتعة الهادفة للتعبيد. كنا قد دخلنا ميدان سباق للقرود الرقمية، فراهنت على هذا القرد الرقمي أو ذاك، وكذلك فعلت الفتاة السمراء، وربحنا نحن الاثنين. ليس هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال، قلت للفتاة السمراء. سحبتني الفتاة السمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، تعال، قالت لي.

أنزلتني الفتاة السمراء في مصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف المتدينين المتزمتين، خليط من أتباع الديانات التوحيدية الثلاث. كانوا كلهم يشبهون بعضهم بلحاهم وثيابهم، بطقوسهم وصلواتهم، بأدعيتهم ونظراتهم إلى العالم، نظرات من ليس في رأسه شيء اللهم إلا الله، لا الله كما يراهم، وإنما كما هم يريدون أن يروه. لهذا لم يكن الله ليغضب منهم أبدًا على ما يفعلون من حماقات إنسانية، فالله الذي لهم ليس الله، كان الله الذي لهم هم، فكيف إذن سيغضبون هم أنفسهم من حماقاتهم على أنفسهم. لم أكلم أحدًا منهم، كانوا يتكلمون كلهم خطابًا واحدًا بثلاث لغات يفهمونه، وكأنه يقال بلغة واحدة. رأيت بينهم الملائكة يكذبون، والشياطين يكذبون، ورأيت بينهم الأطفال يكذبون، وقطاع الطرق يكذبون، ورأيت بينهم الأنبياء يكذبون، وجلادو أغشية المهابل يكذبون، ورأيت بينهم الغزلان تكذب، والذئاب تكذب، ورأيت بينهم القطط تكذب، والكلاب تكذب، ورأيت بينهم الفراشات تكذب، والضباع تكذب، ورأيت بينهم الأثداء تكذب، والقضبان تكذب، ورأيت بينهم الخدود تكذب، والأقدام تكذب، ورأيت بينهم البطون تكذب، والأكفال تكذب، ورأيت بينهم الآيات تكذب، والأحاديث تكذب، ورأيت بينهم المُدْرَجات تكذب، والمزامير تكذب، ورأيت بينهم الأناجيل تكذب، والصلبان تكذب. تفاجأت بالفتاة السمراء تصيح بهم، وهم لا يردون عليها. إنهم لا يسمعون شيئًا غير صلواتهم، قالت لي الفتاة السمراء، وهي تسحبني من يدي كما تسحب حقيبتها إلى المصعد ثانية، لننزل في الطابق الوسط، طابق بين بين، الطابق الذي لم يكن طابقًا. كان الطابق سورًا يبدأ من الصين وينتهي في القدس القديمة. لفت انتباهي شخصان في شبه الظل كلٌّ في ناحية من ناحيتي السور، كانا يتحادثان دون أن يسمع أحدهما الآخر، كان الحوار يدور حول العفة والشرف والصمود، كان الرجل يشكو الوضع، ويقول لولا السور لكان إلى جانبها، لأحبها أكثر، للبى كل طلباتها، لصنع لها طفلاً... ومع مرور الدقائق أخذت أتبين في الظل الخفيف بطن المرأة المنتفخ، كانت حبلى، وكانت تبكي بصمت، كانت حبلى، وكانت تعرف أنه لا يعرف أنها حبلى، وكانت تبكي بصمت، كانت حبلى، وكانت توافق رجلها على كل ما يقوله، وتتمنى كل ما يتمناه، وكانت تبكي بصمت، كانت حبلى، وكانت تبكي بصمت...

القسم الخامس

في محطة الشمال، لم يكن أخذ القطار مجرد أخذ القطار، ولم يكن النزول منه مجرد النزول منه، كان المرء في محطة الشمال يقوم بفعل يتجاوز الفعل الخاص، يجاور الأفعال الأخرى، يداورها، يملأها أو يمتلئ بها، ويكون فيها خدشًا كخدش المخلب أو يحفر فيها عميقًا عمق البراكين في البحار، ليسيطر على الكون، ليغزو العالم. وكان المرء في محطة الشمال بفعله اللايذكر يستطيع أن يهدم الجبال، ويسقط العروش، ويغير مجرى الأنهار. كل تواريخ البشر صُنعت في محطة الشمال، كل قصص الشياطين، كل رسائل الأنبياء. كل المعاهدات وُقعت في محطة الشمال، كل الدساتير كُتبت، كل القوانين سُنت. كل الأحلام تحققت في محطة الشمال، كل الكوابيس، كل الأوهام الجميلة منها والمهلكة. كل النيران اشتعلت في محطة الشمال، كل القلوب، كل النفوس السَّنِيَّة منها والرذيلة. كل الحرمات انتهكت، كل العذراوات افتضت، كل الرغبات اغتيلت، ونهضت بعد أن سقطت في الدم والموت، لتتحقق أو من جديدٍ لتُغتال. لم تكن محطة الشمال حركة التاريخ، كانت التاريخ، التاريخ بكل ما فيه، التاريخ بأسوده وأبيضه، التاريخ بأحمره وأزرقه، التاريخ بذهبه وفضته، التاريخ برماده وغباره ووحله وصخره وقيئه وقيحه وبرقه ورعده وزلزاله وبركانه أممية بركانه وشمسه وليله بل ولياليه. كانت محطة الشمال التاريخ، وأنا كنت فيها لئلا يعيق أحدهم حركة التاريخ، وعندما رأيت نابليون على رأس كوكبة من الخيالة يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف لأن امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى تعيق تقدم الإمبراطور وكوكبته معه كان عليّ أن أفعل شيئًا. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون، وهتلر على رأس كوكبة من السيارات العسكرية المصفحة يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف من وراء نابليون. كان الزمن يجري بسرعة في محطة الشمال، السنون بثوان، القرون بدقائق، والحال هذه، لم تمهلني حركة التاريخ أكثر مما أمهلتني لأبعد المرأة بحقائبها وأشيائها وظلالها، وأعيد للتاريخ حركة التاريخ. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون وهتلر، وساركوزي على رأس كوكبة من السيارات الليموزينية الفخمة يتقدم في محطة الشمال. كان التاريخ قد توقف بعد ساركوزي وكوكبته، وكان عليّ أن أتصرف بسرعة. وأنا ألتفت من حولي، وقعت على عازف غيتار شاب، كان قد توقف عن العزف منذ مدة، وهو يتابع بعينيه ماذا سأفعل. أشرت إليه بالمجيء بسرعة، فجاء بأقصى سرعة يقدر عليها. وضعت في يده ورقة نقد كبيرة، ففتح عليها عينيه ذاهلاً. أشرت إلى المرأة، ففهم أن عليه من أجل فتح الطريق أمام التاريخ في محطة الشمال التخلص منها. رماها هي وحقائبها في عربة، ودفعها ليرميها في جهنم. عندئذ، تحركت الكوكبات الثلاث، وواصل التاريخ حركته.

ومن التاريخ إلى تواريخنا ذهبت، فلكلنا التاريخ في محطة الشمال، ولكل منا تاريخه. وجدتني وجهًا لوجه مع أم بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين، والطفلة شبه غائبة عن الوعي. ابنتي لا تحتمل السفر في القطار، قالت الأم. كانت تكذب. كان السبب الأم. أم لا تطيق الحيوية. ابنتها كانت شيطانة من الشياطين الصغار، وهي، الأم، ذات طبيعة حساسة، طبيعة وهابية، طبيعة دينية. كلما أرادت ابنتها اللعب والتحرك في كل الاتجاهات كانت تضربها. ضربتها إذن حتى جعلتها شبه غائبة عن الوعي، فخلصتُها إياها. كان علي أن أحررها. خلصتُها إياها على الرغم من صراخها، واحتجاجها الذي لم يثر اهتمام القادمين، وجعلتُ الصغيرة تجري كما يشاء لها التاريخ بين أقدامهم. انتظري، لا تبتعدي، تعالي إلى ذراعي ماما، رددت الأم، وهي لا تستطيع اللحاق بابنتها. بعد قليل، لم أعد أراها، لم أعد أسمع صوتها. كان رجل وامرأة شديدا التجهم قد لفتا انتباهي، كلاهما على خطأ، قلت لنفسي. إذا أنهى لعبة الشطرنج أحد الشابين اللذين كانا يلعبان هناك بين يدي الملوك والعظماء، شاب أسود وآخر أبيض، تغلب الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل، التاريخ لا يمزح. كان على الشابين أن يربحا اللعبة كليهما، فكيف يربح كلاهما اللعبة، مستحيل هذا. إذن لتستمر اللعبة إلى أجل غير مسمى أو لتتوقف. في تلك اللحظة، مضت مجموعة صاخبة من الشبان والشابات قلبت رقعة الشطرنج بأقدامها، فخسر الاثنان. هذا أسهل أن يخسر الاثنان. نظرت إلى الرجل والمرأة، لم يكن لا الواحد ولا الآخر هناك. جرفتهما حركة التاريخ. بحثت بعينيّ عنهما إلى أن وقعت عليهما، لم يكونا معًا، كان كل منهما في ناحية من نواحي محطة الشمال. ومن ورائي، وصلتني صرخات راهبة حبلى تضرب بقبضتها بطنها تريد إسقاط الجنين، فأمسكت بها، سأعاونك، قلت لها، ولكن لماذا تريدين إسقاطه ألأنك راهبة؟ بالطبع لا، أجابت الراهبة الحبلى، لأني امرأة. طننت لأنه اختار حركته، الجنين، قلت، ولأن ذلك غَضَبًا عليه منك. قهقهت الراهبة الحبلى، سأحتفظ به، قالت قبل أن تدفعني، وتذهب.

رأيت نجيمة سينمائية تتقدم مع القادمين بخطوات عازمة، رأيت ساقيها البيضاوين في بنطال لصوق ممزق ألصقته بصبغ الأظافر، رأيت صدرها الناهد من تحت صدارة قطنية انكمشت وتقلصت، رأيت حذاءها الزهري الأهوج المثقوب، رأيت حقيبتها البلاستيكية العدمية المرقعة، رأيت حياتها المهترئة المبتدَعة المبتدِعة، رأيت ظهرها المعطي لأبواب الكباريهات، رأيت بطنها المتهدل على حافة كؤوس الشمبانيا، رأيت وركيها اللذين انتحر عليهما فان غوغ، كانت تتقدم بخطوات عازمة، وهي تمد إصبعها إلى هذا أو ذاك ثم تشير إلى نفسها، كمن تريد القول لمعجبين افتراضيين، ها أنا، كانت تتقدم بخطوات عازمة على هامش التاريخ، على هامش التاريخ كانت تتقدم، ها أنا، ها أنا، والتاريخ ينظر إليها باحترام، ها أنا، ها أنا، ها أنا، هامشٌ دونها لن يكون للتاريخ، لن يكون التاريخ.

وفي الهامش غالبًا ما يمضي الفاجع دون أن نشعر به، كلعبة يمضي، يمضي الفاجع كلعبة، ومعه استحالة السلب والإيجاب معًا، لتغدو أعمارنا ساحة مفتوحة على كل شيء، على كل شيء: لماذا لم تأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي؟ كانت الأم مع ابنها السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، السمين بسمن الفيل. فتحت حقيبتها أول ما وجدت مقعدًا، حقيبة ملأى بالساندويتشات، وجعلت ابنها يأكل. ستأكل كل هذا، يا حبيبي، قالت الأم. سآكل كل هذا، يا ماما، قال الابن. ستأكل كل هذا، كل هذا، يا حبيبي، قالت الأم. سآكل كل هذا، كل هذا، يا ماما، قال الابن. ستأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي. سآكل كما يوجب الأكل، يا ماما. ستأكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا حبيبي. سآكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا ماما. ستأكل إلى أن تشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تصرخ من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أصرخ من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت أموت من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما. ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن أموت أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما. بدأ الابن يتحشرج. ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي. سآكل إلى أن.. عاد الابن يتحشرج، إلى أن أموت، يتحشرج، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، أموت، أموت، يتحشرج، أموت، أموت، أموت، أموت، أموت، يتحشرج، يتحشرج، يتحشرج... حملته أمه، فوقعت به على الأرض، وأخذت تقهقه. أنت تضحكني، يا حبيبي. رفعته، فوقعت به على جانبها الأيمن، وهو فوقها، وهي تقهقه. أنت تضحكني، يا حبيبي. رفعته، فوقعت به على جانبها الأيسر، وهو فوقها، وهي تقهقه. أنت تضحكني، يا حبيبي. عرفت فجأة أنه مات بالفعل، فدفعته بعيدًا، وهي تقف دفعة واحدة على قدميها، وتصرخ بهستيرية.

في محطة الشمال لم يكن الاستقبال سهلاً كما يبدو، لم يكن كل المنتظرين لغيرهم فرحين بلقائهم، كان منهم الفَرِح، وكان منهم التَّعِس، وكان منهم لا الفَرِح ولا التَّعِس، كانوا وجوهًا للتاريخ، فللتاريخ وجوهنا. من المنتظرين الفرحين، رأيت مجموعة من الرهبان، وهم يستقبلون الراهبة الحبلى المرتدية لثياب البابا كالربة على درب التبانة، كانت تتقدم بعد أن نزلت من قطار آخر، والرهبان كانوا يستقبلونها، يقبلون يديها، وبعضهم قدميها، ويرمون بأجسادهم على الأرض من أمامها رمي المسيح على الصليب لتطأها. ومن المنتظرين التعسين، رأيت شابًا في بذلة سوداء مخططة يغطي رأسه بقبعة سوداء حريرية، وهو عابس عبوس شيخ أضاع حياته، مرت به أجمل الفتيات، وأجمل الفتيان، وهو دومًا عابس، دومًا ينظر إلى القادم التالي. ومن المنتظرين لا الفرحين ولا التعسين كان بعض نزلاء الفنادق المجهولين. رأيت أحدهم يبحث عن وكيل فندقه، كل وكلاء الفنادق كانوا هناك، وكانوا يرفعون لوحات كتبوا عليها أسماء نزلائهم. لما رآني النزيل المجهول أنظر إليه، جاءني يسأل إذا ما كنت وكيل فندقه. أجبت بالنفي. رسم الرجل ابتسامة طفيفة على شفتيه، وقال آه! سألته عن اسم الفندق، كان لا يعرف. عن الدائرة التي فيها الفندق، كان لا يعرف. إذا ما كان يعرف أحدًا يمكن الاتصال به، كان لا يعرف. رسمت ابتسامة طفيفة على شفتيّ، وقلت آه! تركني، وراح يقرأ الأسماء على اللوحات المرفوعة، الشيء الذي فعله أكثر من مرة. قام بدورة، ثم عاد، وعاد يسأل إذا ما كنت وكيل فندقه. أعطيته ظهري، وتركته يلغ في دم محنته.

في محطة الشمال، كان مكبر الصوت جزءًا من أوركسترا الصخب العام، لا يلبث المرء أن يعتاده. أما ما لا يعتاده المرء أبدًا، فهو صمت مكبر الصوت المفاجئ، الصمت الذي يطول، والذي يغدو مقلقًا لأنه يطول على غير العادة، ولأن المحطة تتحول إلى مقبرة فرعونية، صمت يصل إلى حد القداسة، صمت مرهب، ثقيل، يشعر المرء بضغطه على صدره وكل عمره وكل كيانه، صمت يلبس المرء، يلبس الكون، يلبس التاريخ. عند ذلك، كان المرء يبحث عن البديل، بديل الصخب في هذا الصمت المرهب، فلا يجد من بديل، كل شيء يضغط عليه الصمتُ بثقله الطام، فيأخذ المرء بالتحايل على وضع اضطر إليه اضطرارًا، بالتمثل، لأجل الاحتمال، احتمال الصمت المطبق وثقل الصمت الطام، بالاستيعاب، استيعاب ما لا يُستوعب واحتمال ما لا يُحتمل، أن يطلب المرء فنجان قهوة لا يشربه، أو يشتري جريدة لا يقرأها، أن ينظر إلى امرأة ويغمزها، هكذا، يغمزها، كل هذه احتمالات لاحتمال الصمت المفاجئ والطويل لمحطة الشمال. وما تم أمام عينيّ كان أفظع، فتاة وفتاة كانا يجلسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، قهوة وزجاجة كوكاكولا أمامهما، كان يبدو عليهما أنهما يتحابان، وبدافع الصمت المرهب لمحطة الشمال، دفع أحدهما الآخر عنه بعيدًا، وهما يقلبان الطاولة، وذهب كل منهما إلى باب من أبواب المحطة. أسعدني الأمر كثيرًا، كان في المشهد انفعالية تراجيدية أدت إلى الحسم الأرسطوطالي، القطع في اللحظة المناسبة، والانتصار للّحظة الفاجعة، للعاطفة المدمرة. حتى طبيب الأسنان الذي كان يقيم عيادته غير بعيد من هناك كان يقاوم الصمت على طريقته، فيقضم بأسنانه الذئبية فك المريض، حتى أحد الكتاب الذين يبيعون كتبهم لمن لا يشتريها كان يتحدى الصمت بتلاوة كتبه بصوت عال، حتى سمك القرش في حوضه غير البعيد كان ينشج ويعلي العويل على سمكة أكلها. وقفت فتاتان مترددتان على باب المحطة، وصرحُ الصمت يحول دون دخولهما، بكيتا، وقبلتا بعضهما من الثغر قبلاً عديدة، ثم سحبت كل منهما حقيبتها، وغادرتا المحطة.

وفي الصمت الساجي الصمت المرهب الصمت المهلك مر رجال المطافئ من أمامي، وهم يحملون على نقالتهم كرة رغبي. كانوا شديدي الحزن، وكان بعض الموجودين في محطة الشمال شديدي التأثر، وليخفف ناقل الحقائب قليلاً من ثقل الجو، أخذ يقود عرباته بعيدًا عن الممر المخصص لذلك، أخذ يقودها بيننا كيلا يتوقف عن إطلاق النفير. ابْتَسِمْ! صاح ناقل الحقائب، وهو يمر بشيخ عجوز كان يجلس على حقيبته، ويبكي.

لفت انتباهي شاب جاء عنيفًا، وبشكل فظ أراد أن يأخذ مكانه على عجلة التاريخ، مكان مُقعد في عربة. ادفع، قال للمُقعد، وهو يقذف حقيبته أرضًا. حمل المُقعد الحقيبة بيد، وبيد أخذ يدفع العربة. لا يسافر قطاري الآن، يا جان، قال المُقعد. ادفع قلت لك، ادفع، أمر الشاب. أخذ المُقعد يدفع. أقوى، أقوى، ردد الشاب. والمُقعد يدفع، والشاب يقلد بذراعيه عبور الطائرة، وبلسانه صوتها، غير مبال بالناس، والناس، يبتعدون، ويخلون المكان للعربة. ادفع، ادفع، ووو... وووووو... ادفع. سقطت الحقيبة من يد المُقعد، فتوقف ليأتي بها، والشاب يداوم على القول ادفع، عجل، عجل، ووو... وووووو... إلى أن وجدا نفسيهما قرب قطار سيأخذه المُقعد. فحص الشاب لوحة الذهاب. لم يبق على إقلاع القطار سوى بضع دقائق لا كما قلت أيها العجوز المغناج، صاح الشاب بالمُقعد بعنف، ونهض جاذبًا من يده الحقيبة، ثم ذهب يجري. تسلق القطار، وما لبث القطار أن قام، والمُقعد يقف في مكانه ساكنًا ساكتًا غير مدرك لما يجري.

هذا هو، أن لا ندرك ما يجري من أحداث، أو أن ندرك ما ندرك بقوة الأشياء. لم يكن هناك أحد من المسافرين على شبابيك بيع التذاكر بعد أن أخذوا يشترونها على إنترنت، رأيت الموظفين، وهم يتسلون ما بينهم، كانوا يتمازحون، يأكلون، يعلكون، أو يركضون من وراء بعضهم، ليمسك الرجال بأكفال النساء. وكان الأمر كذلك مع ماكينات تبديل النقود، كانت هذه الماكينات تعاني من حدة البطالة بسبب الأزمة. لم يعد رجال الشرطة يمرون من أمامها، لم يعد ما يستوجب الحراسة. جاء أحد المتسولين العابرين، وفتح إحداها، أدخل يده فيها، ولم يفعل سوى مسح الغبار.

غبار. التاريخ غبار. رأس المال غبار. البشر غبار. حتى الصور الجميلة. الصور غبار. رفعت رأسًا مفعمًا بالغبار صوب إعلان عملاق لفتاة يطير فستانها وشعرها في زوبعة من الغبار، وفي غبار الصمت الساجي، لم يشدني شعرها، لم تثرني ساقاها. كانت لها ساقان من غبار، والاستثمار الذي يدعو إليه البنك صاحب الإعلان خلال أزمة كهذه يبدو نكتة سمجة، نكتة من غبار. أنزلت عينيّ لأقع على مجموعة من الإنجليزيات اللواتي بَدَوْنَ ساذجات إلى حد الإهانة، إلى حد الغبار. كان النمش لا يزحف على وجوههن البيضاء زحف النمل المدغدغ للذات وللكيان، كان النمل يموت على خدودهن، ويتساقط على حلماتهن الصغيرة، فلا يعضها، يتساقط كالغبار.

لم تغادر خيالي صورة النمل الميت المتساقط على الحلمات الصغيرة كالغبار، كانت في الأمر مأساة. تجنبت الغوص في متاهات فرويدية، ومشيت صوب هرم رأسه إلى أعلى، وقاعدته إلى أسفل، ككل الأهرامات. هرم من حجر لا من غبار. وأنا أتأمله بعين الإعجاب، جاءني من داخله صوت ينادي، ويقول: الرحمة، الرحمة... أطللت برأسي، فإذا برجل عاري الصدر يجثم عليه عُقاب دموي، وبمخالبه يحاول انتزاع قلبه دون أن ينجح. الرحمة، الرحمة... ظننت أنه يرمي إلى التخلص من العُقاب الدموي. إنه سرطاني الذي لا يريد القضاء عليّ، أوضح الرجل، سرطان رئتي. وعاد يطلب: الرحمة، الرحمة... بسطت كفي، وخنقته.

كان عليّ أن أفعل ذلك، ولأول مرة في حياتي شعرت بالارتياح. كنت خارج التاريخ، خارج الوقت، خارج كل إرادة غير إرادتي، خارج الغبار. كانت إرادتي مجرمة، لكني كنت أشعر بالارتياح. كل الدم المسفوح في أوسترليتز كان إرادتي، لكني كنت أشعر بالارتياح، بالإصغاء، بالإصغاء إلى نفسي، بالإصغاء إلى غيري. أصغيت إلى فتى أصفر البشرة، وهو يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فقال المراقب إن القطار قد أقلع. ابتسم الفتى الأصفر، وقال إنه سيأخذ قطارًا آخر، فلم يفهم المراقب، تركه، وتابع طريقه. إلى نفس الوجهة، ليس هناك قطار آخر، قالت فتاة صفراء للفتى الأصفر. واصل الفتى الأصفر الابتسام، الوجهة لا تهمني، قال. فكرت الفتاة الصفراء قليلاً ثم انفجرت ضاحكة، وراحت تنحني للفتى الأصفر، وتبالغ في الانحناء.

جاءتني الفتاة الصفراء، وهي تبتسم، وتنحني. الوجهة، لا تهمه، قالت الفتاة الصفراء، ما يهمه هو المكان أيًا كان. التنين الأصفر سيلتهم العالم ذات يوم، همهمتُ. هذا قدر كل حضارة صاعدة، كل الحضارات التي صعدت عبر التاريخ كان هذا قدرها، ردت الفتاة الصفراء، وهي تسحبني من يدي كما تسحب حقيبتها. ذهبت بي حتى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة، ومنه إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات. كان هناك مركز للشرطة، كل الشرطة فيه صفر الوجوه، وكانت هناك بعض المكاتب المفتوحة، في واحد فتاة هندية ترتدي الساري، وفي ثان فتاة برازيلية ترتدي البكيني، وفي ثالث فتاة سعودية ترتدي الحجاب. كانت الفتاة الصفراء تحيي كل واحدة منهن بلغتها، وكل واحدة منهن تجيبها باللغة الصينية، والفتاة الصفراء تسحبني، وأنا أتبع من ورائها إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكة حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، كانت مقبرة القطارات. انبثق من وسطها حصان يركبه قرصان أعمى يضع على عينه عُصابة، وبحبل عقد ظهره بظهر خادم كان يتدلى برأسه المهتز مع مشية الحصان نائمًا، ومن فترة لفترة كان القرصان يلوح سوطه في الهواء دون أن يفوه بكلمة. سألت الفتاة الصفراء إلى أين هما ذاهبان هكذا، فشرح القرصان أنه أعمى، وأن هذا المربوط إلى ظهره خادمه، وهما بعد أن لفا الدنيا بحثًا عن الإنسانية دون أن يجداها، تركا أمرهما للحصان يقودهما إلى حيث يشاء. رفع عن عينه الميتة العُصابة، وتظاهر بالنظر إلى كل الأرجاء، ثم طبطب على عنق الحيوان ليتابع بهما التجوال على هواه. سار الحصان قليلاً، فضرب القرصان الهواء بسوطه، والخادم دائمًا لا يتحرك، ويهتز مع حركة الحصان. لا يفكر إلا في النوم، فهو لم ينم منذ أكثر من مائة وتسعة وتسعين عام، مائة وتسعة وتسعون عام شيء كبير، كبير جدًا، رمى القرصان كلماته، وكأنه يعتذر لنا قبل أن يبتعد.

رأينا، أنا والفتاة الصفراء، توأمين سياميين يركبان سيارة فيراري حمراء، وهما في أبهى الحلل. لم أحضر الحبل، قالت الفتاة الصفراء، نسيت الحبل ككل مرة، فقهقه التوأمان السياميان. الآن وأنتما لديكما الفيراري، هل ستتوقفان عن محاولات الانتحار؟ سألت الفتاة الصفراء. أوضحا أن الانتحار ليس المشكلة وإنما الانتظار. الحبل ليس المشكلة وإنما الشجرة. شجرة الانتحار كما قالا. شجرة الانتظار. انتظار من سيعينهم على الانتحار. خرجا من السيارة الأسطورية، وراحا يسقيان شجرة يافعة. انتظار أن تكبر هذه الشجرة التي سنتعلق عليها بعنقينا أمر لا يصدق، قال التوأمان السياميان. الفيراري لهذا السبب، لتزجية الوقت، لأنهما سينتظران على أي حال، وهما سينتظران، سينتظران إلى الأبد لو يلزم.

ما أن قطعنا، أنا والفتاة الصفراء، خطوط السكة الحديدية حتى وجدنا نفسينا في عربة معلقة بين أرض وسماء. نظرنا من نافذتها، فوجدنا رجلاً رمادي الشعر بوجه تملأه الغضون يجلس على كرسي يُطوى، ويكتب على طاولة تُطوى. رفع رأسه إلينا، وابتسم. كان يكتب، ويتحقق في الوقت ذاته كل ما يكتب. كتب أننا، أنا والفتاة الصفراء، في عربة معلقة، لهذا كنا في عربة معلقة. ابتسم بخبث، وكتب أننا نُقَبِّلُ بعضنا، أنا والفتاة الصفراء، فقبلنا بعضنا. شطب بسرعة ما كتب، فابتعدنا عن بعضنا بسرعة، أنا والفتاة الصفراء، وكتب أنني رفعت ثوبها حتى خاصرتيها، وحاولت تمزيق بنطالها القصير، فصفعتني بقوة ألزمتني الطاعة، وكل هذا وقع كما كتب. رجوته ألا يكون قاسيًا، لكنه كان يريد أن يتسلى. تسلى كطفل لا كبالغ، قلت له. ضحكت الفتاة الصفراء، بل كبالغ، قالت الفتاة الصفراء، وفي المرة القادمة اتركه يمزق بنطالي القصير، ويمزقني، الحياة معركة. ضحك الرجل ذو الشعر الرمادي والوجه المغضن، وكتب لتلتقمه من رجولته، ففعلت الفتاة الصفراء، لكنه بسرعة شطب ما كتب، فكسر مزاجها. إنساني جدًا، همهم الرجل الرمادي الشعر والوجه ذو الغضون. كتب لتُلقمه ثديها، ففعلت الفتاة، وبسرعة شطب ما كتب، وهو يهمهم إنساني جدًا، إنساني جدًا. ليذهبا عني إلى الجحيم، كتب، وعندما رآنا على وشك الدخول إلى الجحيم، والاحتراق كالملعونين، شطب ما كتبه بسرعة، وأنقذنا. لم تضحكه حالتنا هذه المرة، بدا عليه الضجر منا لا من الكتابة، كانت الكتابة كل حياته. جعلنا نغادر المكان، وراح يفكر في مسرحيته القادمة.

لمتابعة الرواية اذهب الى الصفحة السابعة / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.