اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• زرافة دمشق - رواية

 

د. أفنان القاسم

الأعمال الكاملة

الأعمال الروائية (30)

د. أفنان القاسم

زرافة دمشق

LA GIRAFE DE DAMAS

رواية

إلى مقاتلي الذهب

القسم الأول

شهر يوليو في باريس بِئْسَ الشهر، مطر وبرد وكثير من السياح في الشوارع وعلى أرصفة المقاهي، والأنكى هو أن تكون مكلفًا بحماية إحدى الشخصيات الهامة التي من الأفضل لها أن تقضي الصيف على شواطئ الريفييرا. رفع فرانك لانج رأسه إلى سماء ساحة شاتليه الرمادية، لم يكن هناك أقل أمل في بزوغ الشمس. شد قبة مشمعه حول عنقه، وتفحص بعينيه الساحة العريقة. كان السوريون يتواردون إلى المكان الذي اعتادوا فيه على التعبير عن غضبهم، وبسبب الجو كانت الكآبة تبدو على وجوههم. ليس فقط بسبب الجو، قال رجل التحري الخاص لنفسه. كانت الهموم تساورهم، لأن في بلدهم لا شيء يمشي. كل التظاهرات، ولا شيء يمشي. كل التضحيات، ولا شيء يمشي. كل المجازر، ولا شيء يمشي. تفقد فرانك لانج المنصة التي أقيمت أمام مسرح شاتليه، منصة سيخطب منها سفير قطر، الشخصية الهامة التي يحميها، وتأكد من أن كل شيء على ما يرام: الحراس الخاصون، رجال الأمن، رجال المخابرات. ألقى نظرة على المسرح البلدي في الوجه المقابل، ورأى فوهات البنادق الراصدة لكل حركة. امتلأت الساحة بالسوريين وبغير السوريين ممن يؤيدهم، ولم تعد تبين في وسطها أسود النافورة القاذفة للماء من أفواهها. ردد بعض الشبان هتافات تندد بالجَوْر تارة، وبالرذيلة تارة، لكنهم، بسبب الكآبة العامة، ما لبثوا أن سقطوا في الصمت. صعدت شابة محجبة على المنصة، بيضاء الوجه، خضراء العينين، وبعد أن تبادل فرانك لانج النظرات والمسئولون عن النظام السوريون المنتشرون حول المنصة، تركها رجل التحري الخاص تلقي كلمتها.

- أولاً وقبل كل شيء أريد أن أحيي من هذا المنبر العالمي أبطالنا الصامدين في وجه أعتى نظام في التاريخ، صاحت الفتاة المحجبة ذات الوجه الأبيض والعينين الخضراوين، وأن أترحم على شهدائنا البررة، ولا تحسبن الذين قتلوا أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون، صدق الله العظيم. ثانيًا أريد أن أنوه بأهمية الموقف الفرنسي العادل من قضيتنا العادلة. ثالثًا وأخيرًا أريد أن أشكر الأحرار في العالم أجمع، وأن أطمئنهم، كما أريد أن أطمئن شعبنا البطل، وذلك بالتوجه إلى كافة طوائفه ومذاهبه، وأن أقول له إننا سنقضي على رموز الفساد، وأولها رأس الفساد، وسيكون النصر حليفنا بإذن الله.

والشابة المحجبة البيضاء الوجه الخضراء العينين تقول كلماتها الأخيرة، حدثت ضجة حول شاعر معروف، فالبعض لا يريده أن يأخذ الكلمة، والبعض لا يريده أن يبقى في الساحة، ومع ذلك تمكن من الصعود على المنصة، وذهب يشكك فيمن قام بالمجازر التي ارتكبها النظام (واجبه الأخلاقي وما واجبه الأخلاقي وكأن نظامًا كهذا يعرف الواجب الأخلاقي) تحت صيحات السُّخط، مما اضطر فرانك لانج إلى قطع الميكروفون، وإنزاله. تلقفه الساخطون، وطردوه شر طردة.

وصل موكب سفير قطر، فاستقبله رجل التحري الخاص، وهمس في أذنه أن كل شيء على ما يرام، وهو يصعد به سلم المنصة. كان هتاف الحاضرين عاليًا، لسوريا الحرة، ولقطر الشقيقة، ولفرنسا الصديقة. لم يعد للكآبة مكان على الوجوه، وكأن شمس دمشق تشرق في ساحة المسرحَيْن.

- يسعدني أن أكون بين أخوتي الأحرار، بدأ سفير قطر الكلام مع صمت الحضور وأولى ومضات البرق وتفجيرات الرعد، وفي هذه اللحظة التاريخية من لحظات سوريا، ومن قلب باريس، أقول لكم على مسمع العالم إن قطر لن يدخر وسعًا في سبيل تحرير الشعب السوري الحبيب من الطغيان، ونحن أميرًا وشعبًا ونفطاً في خدمة الأهداف العليا التي قامت من أجل تحقيقها أعظم ثورة –وأطول ثورة هذا صحيح- في التاريخ، وأبشركم بالحرية، إن يوم الحرية لقريب، لقريب جدًا...

دوت الهتافات بشيء من الشيزوفرينية مع هطول الأمطار، ومن حيث لا يدري أحد، أطلق رجل على السفير القطري بضع طلقات متتالية، فأصابه في أنحاء عديدة من جسده قبل أن يسقط الحراس الخاصون عليه ورجال الأمن والمخابرات، ويتم تحييده، بينما ظل فرانك لانج يرفع مسدسه، ويصوبه إلى الجاني، دون أن يطلق للسرعة التي وقع فيها هذا الحادث الطارئ، فهل الحادث طارئ بالفعل؟

تعاون الجميع، وفي المقدمة رجل التحري الخاص، على حمل سفير قطر إلى سيارته تحت أطنان الأمطار، وانطلق موكبه محفوفًا بسيارات رجال المخابرات والأمن إلى أقرب مستشفى.

* * *

إلى جانب كاتدرائية نوتردام، كان مستشفى فندق الرب، وفي قسم الاستعجالات، كان استقبال سفير قطر المخرق جسده بالرصاص. لكن ما أثار دهشة فرانك لانج وجود أبولين دوفيل هناك، وكأنها كانت بانتظارهم.

- هل هي محض صدفة، كابتن دوفيل، أم أن المعتدي يعرف رقم هاتفك؟ بادر رجل التحري الخاص إلى القول، وهو يخلع مشمعه، ويمسح ماء السماء عن شعره.

- لن أقول إن رجالي هم الذين أخبروني بما وقع، أجابت ضابطة المخابرات الخارجية، فالمسافة بين ساحة شاتليه ومستشفى فندق الرب يقطعها عصفور بدقيقتين، وأنا هنا منذ ساعة.

- وفوق هذا كنت تعرفين أننا سنأتي بسعادة السفير إلى هنا.

- إنه المستشفى الأقرب.

- طبعًا.

- كل شيء مرسوم بدقة.

- ولماذا تريدين قتل سفير قطر؟

- أنا أريد قتل سفير قطر!

- أنت، أنتم.

- حتى ولو كنت أنا، أنا يد منفذة، فقط.

- ماذا سيفيد قتله المنتفضين السوريين؟

- المنتفضون السوريون لا وإنما فرنسا.

- كل شيء واضح الآن.

- كنا نعرف في الدي جي إس إي أن هناك من سيرمي إلى قتله، فعملاء النظام يترصدونه.

- وتركتموهم يفعلون.

- هكذا سيبدل القطريون رأيهم، فيشترون الإيرباص لا البوينغ.

أطلق فرانك لانج ضحكة هازئة، ورشق قبل أن يذهب إلى داخل قسم الاستعجالات:

- كل هذا يثير اشمئزازي.

- لانج، نادته ضابطة المخابرات الشقراء، فلم يلتفت.

خفت إلى اللحاق به، وجذبته من ذراعه:

- لانج، لم أقبل، لكنهم قرروا كل شيء بناء على تعليمات من الإليزيه. وعلى أية حال، مقتله على يد أحد عملاء النظام سيضرم لظى الهيجان، ويضطر قطر إلى المساهمة الفعلية في تحرير البلاد.

- كلام كهذا جميل على الورق، رد فرانك لانج حانقًا، فسوريا ليست ليبيا القذافي، سوريا ليست مصر مبارك، سوريا كإيطاليا موسوليني، الفاشية جعلت من السوريين غالبية صامتة إلى الأبد ربما.

جاء أحد الحراس الخاصين، وقال له إن سعادة السفير يريد رؤيته.

- هل يستطيع التكلم؟ سأل فرانك لانج مهتمًا.

- هذه إشارة حسنة، رمت أبولين دوفيل، وهي تسرع من ورائه.

- هل فكرتم في هذا، كابتن دوفيل؟

- فكرنا في هذا.

- إذا لم يمت، طارت طائراتكم الإيرباص في مهب الريح.

- هكذا لن تطير بالفعل، وسأكون سعيدة.

التفت رجل التحري الخاص إليها، وابتسم، فابتسمت له، وأفقدته ابتسامتها عقله.

- أنا مستعد للموت بدله في الحال من أجل هذه الابتسامة، همهم فرانك لانج.

- أحبني فيما بعد، أيها الفُطر، همهمت أبولين دوفيل، وهي تسير إلى جانبه. لأنني لا أريدك أن تموت الآن.

- لماذا؟ هل لديك خطة لقتل أمير قطر؟

- ليست لدي أية خطة غير خطة غزوك لقلبي.

- أبولين، هتف فرانك لانج، وهو يقف، ويشدها من كتفيها. صحيح ما تقولين؟

- ولماذا لا يكون الأمر صحيحًا، أيها الفُطر؟

- هذا يعني أنني سأحظى في الأخير بما أحلم به كل ليلة؟

- ومع ذلك لا أريدك أن تتعذب، لانج، ستتعذب، وستكرهني.

- أن أتعذب هذا أمري، أما أن أكرهك، فإنه لمن المستحيل.

- سنحكي في ذلك بعد أن نرى ما يريده سفير قطر منك.

- امنعيني من تقبيلك أرجوك، فلا المكان يسمح بذلك ولا الظرف.

دفعته من أمامها، وهي تمنع قهقهاتها، فالمناسبة لا تسمح بذلك أيضًا.

دخلا الحجرة التي يوجد فيها السفير القطري، فقال لهما الطبيب إنه على وشك الموت، لا وسيلة هناك لإنقاذه، وخرج مع ممرضتين توقفتا عن الاعتناء بالضحية بينما الأمطار يتواصل هطولها من خلف زجاج النافذة.

- ولماذا استدعاك إذن؟ همست أبولين دوفيل.

- ربما من أجل وصيته، همس فرانك لانج، وهو يلقي مشمعه على مقعد.

ابتسم كلاهما، والشقراء الساحرة تهمس:

- من الأفضل أن أبقى بعيدة لئلا أزعجه، فهو طلبك أنت، ولم يطلبني أنا على الرغم من معرفته لي.

وإذا بسفير قطر يهمهم:

- لم أكن أعرف أنك هنا، مدموزيل دوفيل.

- كيف لا أكون هنا، يا سعادة السفير؟ ابتهلت ضابطة المخابرات الخارجية. أنا آسفة من أجلك، يا سعادة السفير! لو كان بإمكاني أن أفعل شيئًا...

- موسيو لانج، همهم السفير القطري بصعوبة.

- أنا تحت أمرك، يا سعادة السفير.

- موسيو لانج، عاد السفير القطري يهمهم، وهو يمسكه بيده.

- ماذا، يا سعادة السفير؟

- مائة طن من الذهب...

- تقول مائة طن من الذهب، يا سعادة السفير؟

- موسيو لانج، أنا لا أهلوس، أنا في كامل قواي العقلية.

- مائة طن من الذهب، يا سعادة السفير.

- هذا السر لا يعرفه أحد غيري.

تبادل فرانك لانج وأبولين دوفيل نظرة من يباغته الأمر.

- خمسة مليارات دولار.

- خمسة مليارات دولار، يا سعادة السفير.

- أينها يا سعادة السفير؟ سألت أبولين دوفيل باهتمام كبير.

- أراد أميرنا أن يبني لامرأته تاج محل من الذهب الخالص...

- أينها أطنان الذهب المائة، يا سعادة السفير، سأل فرانك لانج بنبرة مرتعشة.

- ...فكلفني بعقد صفقة مع الإسرائيليين.

- هل هي في إسرائيل، أطنان الذهب المائة؟ عاد فرانك لانج يسأل بنبرته المرتعشة.

أخذ سفير قطر يلهث، ويبصق الدم، والسماء تبرق، وترعد، فنقلته أبولين دوفيل بين ذراعيها الربانيتين مهدهدة لم تكن تدري أم مهدمة.

- مدموزيل دوفيل! مدموزيل دوفيل! أخذ السفير القطري يردد، وهو يكاد يغشى عليه.

وفرانك لانج يسأل بنبرته المرتعشة من جديد:

- أينها المائة طن من الذهب، يا سعادة السفير؟

- للإسرائيليين معظم مناجم جنوب أفريقيا...

- ولكن أينها المائة...

- ...وذهب جنوب أفريقيا أغلى ذهب في العالم.

غاب عن الوعي، فراحت أبولين دوفيل تهزه، وتقول له:

- إياك أن تموت قبل أن تكشف عن سرك بأكمله، يا سعادة السفير.

- أينها أطنان الذهب المائة، يا سعادة السفير؟ طلب فرانك لانج بعنف، وقد ذهبت عن نبرته الرعشة. قل لنا، أينها؟

- في دمشق، همهم السفير القطري بصعوبة، وهو يعود إلى الوعي.

- في دمشق أين؟ سألت أبولين دوفيل، وهي تشد وجه سفير قطر على نهدها، وتكاد تخنقه بجماله.

- في قصر المهاجرين، قال الرجل المحتضر بصعوبة كبيرة.

- في القصر الرئاسي؟ سأل رجل التحري الخاص وضابطة المخابرات الخارجية بصوت واحد.

- بعد تسرب بنزين الطائرة التي تنقل الذهب من إسرائيل إلى قطر من صدع لم تُعرف أسبابه، طلب القبطان، وهو في الأجواء السورية، النزول إلى أحد المطارات، ولكنهم عندما اكتشفوا كل أطنان الذهب تلك، صفوا القبطان وكل الطاقم الذي كان معه، وبأمر من الرئيس نفسه، أرسلوا الذهب إلى قصر المهاجرين.

انقطعت أنفاس السفير القطري، ولم يصح على صرخات شقراء المخابرات الخارجية ورجل التحري الخاص. وفي الخارج، كان الصيف الباريسي يندب على طريقته موت صاحب السر برقًا ورعدًا ومطرًا غزيرًا جارفًا لكل شيء.

* * *

في فناء كاتدرائية نوتردام، تحت سماء ذات غيوم متفرقة تترك لأشعة شمس خجولة التسلل ما بينها، كان فرانك لانج وأبولين دوفيل يتبادلان الكلمات التالية:

- ونحن أميرًا وشعبًا ونفطاً في خدمة الأهداف العليا التي قامت من أجل تحقيقها أعظم ثورة –وأطول ثورة هذا صحيح- في التاريخ! تهكم فرانك لانج.

- نعرف الآن لماذا زرافة دمشق لا تريد التخلي عن الحكم، قالت أبولين دوفيل.

- زرافة دمشق؟

- هكذا يسمونه، زرافة دمشق.

- زرافة دمشق.

- نعم، زرافة دمشق.

- لن توزع كل هذا على الفقراء، زرافة دمشق.

- ولن تحمل كل هذا على ظهرها.

- خمسة مليارات دولار من سبائك الذهب شيء ضخم، شيء ضخم جدًا.

- وإذا حملت، فأين ستذهب؟ لن يقبلها أحد إلا الذين سيأخذون كل هذا منها، وهي لن تعطي شيئًا، ربما أعطت بعض الشيء.

- لن تعطي شيئًا، والآخرون سيأخذون كل شيء.

وبعد قليل من الصمت، سأل فرانك لانج:

- وما رأيك؟

رفعت أبولين دوفيل رأسها إلى الشمس الخجولة، وقالت:

- إنها اللحظة التي تكون فيها الأشعة من ألطف الأشياء.

وبدوره، رفع فرانك لانج رأسه إلى الشمس الخجولة، وأكد:

- صحيح ما تقولين.

توقفا، وعرّض كل منهما وجهه للأشعة. بعد قليل، تنهدت أبولين دوفيل، وقالت:

- الذهب لم يزل موجودًا في دمشق، وإلا لِمَ كل هذه الضراوة الوطنية من طرف القطريين؟

لم يجبها، وهو يترك وجهه لأصابع الشمس الخجولة.

- هل تسمعني؟

- أسمعك، همهم رجل التحري الخاص.

- ماذا تقول؟

- أنا أستلهم الشمس.

- أنا أم هي؟

ابتسم، وهو يرميها بكل نظره.

- وهل هناك غيرك؟ همهم فرانك لانج.

ابتسمت أبولين دوفيل بسعادة، فسمعته يسأل:

- هل ما قلته لي صحيح في فندق الرب منذ قليل عن خطة غزوك لقلبي؟

- قليل من الجد، لانج، نبرت شقراء المخابرات الخارجية.

- إذن كل ذلك لم يكن سوى...

- خراء، لم يكن سوى خراء، يلعن دين! قليل من الجدية، يلعن دين!

- إذا كنت تفكرين كما أفكر، فلن أسمح أبدًا لأحد غيري من أخذ القيادة حتى ولو كان رب رب الشمس بنفسه، مفهوم كابتن دوفيل؟

رمى كلماته بغضب، وأعطاها ظهره، فصاحت به:

- هيه! لسنا في أرض الميدان بعد.

وسارعت بالسير إلى جانبه، وهو يركّب رقمًا على هاتفه المحمول، ثم ما لبث أن قال بصوت خفيض:

- كولونيل عابدين؟ فرانك لانج. يجب أن أراك لأمر هام جدًا جدًا جدًا. لم تعد الملحق العسكري التركي. هذا أجمل خبر، بالأحرى ثاني أجمل خبر أسمعه اليوم، لأنه يصب في قلب ما أريد التحدث به معك. هذا المساء في السفارة التركية بمناسبة الحفل الخاص بتوديعك؟ اتفقنا. إلى هذا المساء إذن.

وأقفل.

- لم أفهم شيئًا، قالت أبولين دوفيل.

أشار رجل التحري الخاص إلى نفسه، وقال "واحد"، ثم أشار إليها، وقال "اثنان"، وبعد ذلك قال:

- الكولونيل عابدين الملحق العسكري التركي السابق "ثلاثة".

- لم أكن أعرف أنك بدأت التجنيد على مثل هذه السرعة، قالت ضابطة المخابرات الخارجية.

- حملتنا ستبدأ من الحدود التركية، ودون الكولونيل عابدين لن يتم لها النجاح.

- وهل أنت واثق من قبوله إلى هذه الدرجة؟

- هل أنا واثق؟ سيبيع كل تركيا من أجل مليار دولار.

- هذا لأننا سنكون خمسة على رأس الحملة؟

- من الناحية التركية تم كل شيء، ومن الناحية السورية...

- غادة.

كانا يقطعان قنطرة السان ميشيل، والسين من ناحيتيها يبدو ضحلاً، والسيارات تزمر لعرقلة السير.

- من؟

- كابتن غادة عجيلي، عميلة سورية-فرنسية مزدوجة، أوضحت، وهي ترفع صوتها.

فتحت تلفونها المحمول، وتكلمت معها، دون أن يسمع فرانك لانج شيئًا مما تقول، وما لبثت أن أقفلت. كانا قد تركا القنطرة من ورائهما، فقالت أبولين دوفيل، وهي تريد أن توقف تاكسي.

- إنها بانتظارنا في الميريديان حيث تقيم بشكل دائم.

وصاحت:

- تاكسي.

توقف التاكسي، وقبل أن تمتطيه، استدارت نحو فرانك لانج، ورفعت أصابعها الأربع، وهي تقول:

- أربعة.

فابتسم فرانك لانج لها ابتسامة الإعجاب، ثم رمى بنفسه إلى جانبها، لينطلق التاكسي بهما إلى باب مايو، أحد أبواب باريس البعيدة آلاف الكيلومترات عن المعركة الحاسمة التي ستجري في حي المهاجرين.

* * *

تفاجأ فرانك لانج، وهو يدخل جناح الكابتن غادة عجيلي، بامرأة ذات قَدٍّ ممشوق لم تبلغ الثلاثين من عمرها، بيضاء ساحرة الابتسامة، شعرها الأسود يصل حتى خاصرتها، وعيناها الواسعتان بلون العسل المصفى. قبلتها أبولين دوفيل من ثغرها، وقدمت لها أعظم رجل تحر في العالم.

- أخيرًا، قالت غادة عجيلي لفرانك لانج، والسعادة تغمرها، أشد على يد الرجل الذي لا تتوقف أبولين عن الكلام عنه.

- لأجل أن أثير في قلبك الغيرة، قال فرانك لانج لغادة عجيلي بينما تطوق العميلة المزدوجة بذراعها كتفي الشقراء الفرنسية.

- لا تبث الشقاق ما بيننا، لانج، قالت أبولين دوفيل، وهي تطبع قبلات عديدة على وجنة غادة عجيلي وشفتيها.

- أدخلا، طلبت المضيفة، كل الجناح تحت تصرفكما، هناك كل أنواع الكحول، فرانك، تسمح لي بأن أدعوك فرانك؟

- بالطبع، وأنا لن أدعوك مدام زرافة.

- غادة، قالت، وهي تقهقه.

سحبتها أبولين دوفيل من يدها إلى الحمام، وسمع رجل التحري، وهو يصب لنفسه كأس ويسكي، همساتهما وقبلاتهما. ترامى على أريكة وثيرة، وأخذ جرعة من كأسه، ثم صاح بهما:

- من قلة الذوق أن تتركاني وحدي.

لم تستجب المرأتان له، وبعد جرعة ثالثة، ظهرت غادة عجيلي تتبعها أبولين دوفيل، وغادة عجيلي تقول لفرانك لانج، وعلى شفتيها ابتسامة أكثر من ساحرة:

- من أجل مليار دولار، فرانك، حتى القمر أحرره لو طلبت مني ذلك.

- لن أطلب منك تحرير القمر، رد رجل التحري الخاص باسمًا، وإنما تحرير مائة طن من الذهب، هذا كل ما في الأمر.

- تحرير مائة طن من الذهب أصعب بكثير من تحرير القمر، لانج، قالت أبولين دوفيل، وهي تجلس إلى جانبه. أنت تعرف جيدًا هذا.

- أعرف جيدًا هذا، همهم فرانك لانج، وهو يأخذ جرعة من كأسه.

- ربما كان الأمر صعبًا جدًا لكنه ممكن والظروف الراهنة، قالت الكابتن عجيلي بنبرة واثقة. وهل من أحد يعرفها أكثر منا؟ ربما... وترددت، وهي تجلس مقابل فرانك لانج: هناك واحد يعرفها أكثر منا، واحد من جوه، جنرال.

- جنرال؟ سأل رجل التحري الخاص.

- لا تقولي لي "وحيد القرن"، رمت أبولين دوفيل.

- هو بعينه، أكدت غادة عجيلي.

- الجنرال الفار من الجندية إلى تركيا؟ سأل فرانك لانج من جديد.

- هو وكل فرقته، أكدت غادة عجيلي من جديد، ثلاثمائة على ما أعتقد، مع أسرهم.

- وحيد القرن، همهم رجل التحري الخاص.

- إنه هنا.

- في باريس؟ سألت ضابطة الدي جي إس إي.

- حقًا لو لم أكن "مزدوجة" لما عرفتم شيئًا، تهكمت الكابتن عجيلي.

- يجب أن أرى وحيد القرن، قال فرانك لانج، وهو يضع كأسه جانبًا.

رفعت غادة عجيلي سماعة تلفونها الثابت، وركّبت رقمًا، أعقبت ذلك بقول:

- أنا سيدي. أريدك لأمر هام سيدي. متى سيدي؟ بعد ساعة عندي سيدي؟ عندي محلبية بالجوز سيدي. أهلاً وسهلاً بك سيدي.

وأقفلت، وهي تغدق على فرانك لانج وأبولين دوفيل الكثير الكثير من سحر ابتسامتها. فتح رجل التحري الخاص أصابع يده الخمس، وهتفت أبولين دوفيل:

- خمسة.

* * *

وصل فرانك لانج بسيارته الفيراري الحمراء إلى باب السفارة التركية، وإلى جانبه أبولين دوفيل، ولحقت به غادة عجيلي بسيارتها الفيراري الصفراء، وإلى جانبها الجنرال وحيد القرن. صعد الأربعة درج المدخل بكامل أناقتهم، الشقراء الفرنسية في فستان سواريه طويل أحمر، والبيضاء السورية في فستان سواريه طويل أصفر، ورجل التحري الخاص في بذلة سموكن سوداء، والجنرال الفارّ في بذلة سموكن رمادية. أول ما رآهم الكولونيل عابدين في قاعة ملأى بالمدعوين، خف إلى استقبالهم.

- هذا شرف عظيم لي أن تكونوا هنا، قال الملحق العسكري التركي، وهو يقبل يد أبولين دوفيل ويد غادة عجيلي، ويسلم بحرارة على فرانك لانج والجنرال وحيد القرن.

- كابتن أبولين دوفيل وكابتن غادة عجيلي وجنرال وحيد القرن، قدمهم رجل التحري الخاص بينما الكولونيل عابدين لا يتوقف عن ترداد: هذا شرف عظيم لي.

ذهب بهم إلى السفير التركي، وقدم بدوره الجميع، والسفير التركي يرسم ابتسامة صغيرة على فمه، وفي الأخير قال هذا الأخير:

- أصدقاء ملحقنا العسكري هم أصدقاؤنا.

شكروه، والسفير يطلب من الكولونيل عابدين:

- اعتن بهم كل العناية، كولونيل.

- أشكرك، يا سعادة السفير، همهم الملحق العسكري، وهو يرجو الجميع التوجه إلى البوفيه.

كانت على طاولة لا يبين أولها من آخرها كافة أنواع الكنايف والقطايف بانتظارهم، فصفق الجنرال وحيد القرن على منظرها، وهو يدفع كرشه من أمامه:

- بشكل استثنائي لا رِجيم هذا المساء.

وراح يعبئ صحنه منها، والحلويات ترتفع طابقين أو ثلاثة.

- سأكتفي بواحدة من هذه، همهمت أبولين دوفيل في أذن غادة عجيلي، ما هي؟

- بقلاوة، أجابت الفاتنة السورية.

- أما أنا، قال فرانك لانج.

- أما أنا، قالت غادة عجيلي، كسيدي الجنرال من كله، وهي تملأ صحنها.

- أما أنا، عاد رجل التحري الخاص إلى القول.

- أما أنت ماذا، فرانك؟ سأل الكولونيل عابدين.

أعاد صحنه، وقال:

- أما أنا فيما بعد.

ثم بصوت خافت للملحق العسكري التركي:

- أين يمكننا الاختلاء لخمس دقائق؟

- اتبعني فرانك، أجاب الكولونيل عابدين بصوت خافت، وهو يشير إلى الخدم معطيًا أوامره لصب الشمبانيا لضيوفه المميزين.

وهما في طريقهما إلى إحدى الحجرات الجانبية، مرا برجلين طويلي القامة يرتدي كل منهما قبعة.

- لا تعط بالك إليهما فرانك، عاد الكولونيل عابدين يقول بصوت خافت.

- ولماذا السي آي إيه هنا؟ همس رجل التحري الخاص.

- ليس هذا لأنني مسافر، فهم دومًا هنا.

وأدخله في الحجرة الجانبية، وهو يغلقها بالمفتاح.

- ما سأقوله لك سيبقى سرًا ما بيننا، قال أول ما قال فرانك لانج.

- أنا أعرف كيف أخفي السر تمامًا، رد الكولونيل عابدين، هل هو على غاية الأهمية؟

- جدًا.

- إذن النتائج معروفة، وتجدني كلي آذان صاغية إليك، برهان على التزامي حتى قبل أن أعرف.

- دومًا ما كنتَ جنتلمان معي، عابدين.

- جنتلمان فقط؟

- بل وأخ.

- أفرغ ما عندك فرانك.

- ما عندي شيء كثير، مليار دولار.

أخذ الكولونيل عابدين يضحك، ولا يدري من الدهشة كيف يضحك معبرًا عن اغتباطه.

- مليار دولار! غمغم الملحق العسكري التركي، لنا نحن الاثنين؟

- لك وحدك.

عاد الكولونيل عابدين يضحك ضحكًا متقطعًا تمنعه عن الانسياب دهشته.

- هل سنسرق البنك المركزي؟

- لن نسرق أي بنك.

- إذن من أين كل هذا المال؟

- من قطر.

- من قطر؟

- أمير قطر كان يريد أن يبني تاج محل لزوجته من الذهب الخالص، فاشترى مائة طن من الإسرائيليين الذين لم يتمكنوا من إرسالها بسبب صدع في خزان بنزين الطائرة اضطر قبطانها إلى الهبوط في أحد المطارات السورية، ولما علم زرافة دمشق ب...

- زرافة دمشق؟ آه! زرافة دمشق.

- لما علم زرافة دمشق بالأمر، أمر بتصفية القبطان وكل الطاقم معه، والآن كل هذه السبائك في حوزته.

- أين في حوزته؟

- في القصر الرئاسي.

- قصر المهاجرين؟

- قصر المهاجرين، القصر الرئاسي.

- مائة طن ذهب!

- علينا أن نذهب لاقتسامها.

- حتى قلب دمشق؟

- من الحدود معكم حتى قلب دمشق.

حل صمت لبضع ثوان، وفجأة أشرق كل وجه الكولونيل عابدين.

- اعتبر كل أطنان الذهب هذه في جيبك، في جيبينا، رمى الملحق العسكري التركي، وهو ينفجر ضاحكًا على دفعات.

- في جيوبنا نحن الخمسة، صححه فرانك لانج.

- نحن الخمسة، قال الكولونيل عابدين، وهو يحرك أصابعه خلف رأسه باتجاه الضيوف الثلاثة الذين اصطحبهم رجل التحري الخاص معه.

- ولكل واحد منا مليار دولار.

هذه المرة تفجر الكولونيل عابدين بالضحك الطويل المنساب المتواصل.

وهما يعودان إلى القاعة، لم ينتبه فرانك لانج إلى اختفاء الملحق العسكري التركي، فرمى كل من الكولونيل وحيد القرن والكابتن عجيلي والكابتن دوفيل ما بأيديهم من مأكول ومشروب، وتبعوا رجل التحري الخاص.

- أعتقد أنني لمحت رجلي القبعة ينزلان الدرج إلى الطابق السفلي.

في الطابق السفلي، لم يكن أحد هناك، فأخرج فرانك لانج مسدسه من صداره، وكذلك فعل الجنرال السوري. رفعت كل من الكابتنين فستانها الطويل حتى منتصف فخذها، ومن رباط حريري أخرجت مسدسًا صغيرًا بحجم الكف. سار أربعتهم بحذر، وهم يفتحون الغرف التحت الأرضية غرفة غرفة، ولا يقعون على أحد. اكتشفوا أن هناك طابقًا سفليًا ثانيًا، نزلوا، وبحثوا كما فعلوا في الطابق السفلي الأول، ولم يجدوا أحدًا. بعد أن يئسوا تمامًا، عادوا من حيث جاءوا، وإذا بأحدهم يجذب سيفون بيت الماء. خفوا إلى المراحيض، وهم يشهرون مسدساتهم، فتفاجأ بهم الكولونيل عابدين لما خرج، وهو يرفع يديه.

- كل ما في الأمر أنني... همهم الملحق العسكري التركي.

أنزلوا مسدساتهم، وهم يتراخون.

- ورجلا السي آي إيه؟ سأل فرانك لانج.

- لم أفه لهما بكلمة واحدة، أجاب الكولونيل عابدين. قلت لهما إن هناك تخطيطًا لدعم المتمردين السوريين، فقالا إنهما مع كل تخطيط لدعمهم، وهكذا جعلت ليس فقط الأسلحة التركية تحت تصرفنا بل وكل الأسلحة الأمريكية، الأسلحة التي سنحتاج إليها على الأقل.

لمتابعة قراءة الرواية اذهب الى الصفحة الثانية / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.