اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• المجتمع المدني والديمقراطية - اذهب الى الصفحة 2

 

 

 ثالثاً: يقوم المجتمع المدني على أساس احترام حقوق الإنسان، وهي جزئياً الحقوق السياسية، ومضمونها يكمن في المشاركة السياسية في الدولة. ومن هذا المنظار، فهي تدخل في مقولة الحرية السياسية. وحقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع المدني المتحرر سياسياً، أي حقوق الإنسان الأناني، أو الفرد البرجوازي. أما مرتكزات إعلان حقوق الإنسان، فتتمثل في المساواة السياسية والقانونية، والحرية والملكية الخاصة، والأمن. من الناحية التاريخية، والسياسية، والأخلاقية، إن حق الإنسان في الحرية يعني فعلياً وعملياً حق الإنسان في الملكية الخاصة. يقول ماركس معلقاً على هذا الموضوع، "ومن هنا ينجم أن حق الإنسان في الملكية الخاصة هو حقه في انتفاع بملكه والتصرف به على هواه (a som gré) دون أي علاقة بالناس الآخرين، بصورة مستقلة عن المجتمع، أنه حق المصلحة الشخصية" . رابعا: إذا كان المجتمع المدني ببعده التاريخي العالمي، يشكل الأساس الطبيعي للدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة، فإنه لا يعني بأي حال من الأحوال اعتبار المجتمع المدني هو الليبرالية عينها فقط، كما يروج له بعض الكتاب. ومع أن هذا المجتمع المدني قد اكتمل تطورهفي المجتمع البرجوازي الحديث، في أوروبا الغربية، وباحتوائه كل الحياة التجارية والصناعية، في إطار درجة معينة من تطور القوى المنتجة والنقابية، في الحياة السياسية، وبتخطيه جدلياً حدود الدولة القومية والأمة، ليعتنق رحاب العالمية، إلا أن الايديولوجية البرجوازية الليبرالية تحاول تقزيمه بإبرازه خارجياً في صورة القومية، وداخلياً في صورة الدولة. خامساً: إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية والفئوية، وتبايناته الاجتماعية وتكويناته السياسية والنقابية، الذي تحكمه مبادىء المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والمشاركة السياسية من خلال الانتخابات التشريعية، والبلدية والمحلية، لانتخاب الممثلين عنه للاضطلاع بأعباء السلطة في الدولة البرجوازية، باعتبار أن الشعب أو الأمة، هو مصدر السلطات، الذي لا يتحقق كمبدأ، إلا في ظل سيادة الديمقراطية، بوصفها أيضاً الساحة التي يتقاطع فيها المجتمع المدني مع الدولة، فإن هذا المجتمع المدني عينه، هو مجتمع الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، داخل بنيانه، وهياكله الاجتماعية والسياسية. سادساً: وعندما نؤكد على الجوانب الايجابية والتقدمية للمجتمع المدني، علينا أن نعترف بأن أوروبا الغربية، كانت لحظة تاريخية مهمة كبيرة وحاسمة، وحيوية، في التبلور التاريخي لهذا المجتمع المدني بعمقه العالمي، وإن كان هذا الاعتراف ليس مقترناً بالنزعة التماثلية، أو بالتبعية للمركزية الأوروبية، بقدر ما هو نابع من منهج نظري، يتخذ من الجدل ركيزة أساس في بنيانه الداخلي.

 ماركس والتخطي الجدلي للتناقض بين المجتمع المدني والدولة السياسية

 في البدء لابد من الإشار الى أنه ليس ثمة نظرية تبدو للوهلة الأولى أنها على تناقض جذري صارم مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية أكثر من الماركسية، فإن المبادىء الأساسية المتعلقة بامكانية خلق مجتمع مدني متجانس قائم على أسس واقعية للديمقراطية، والعقلانية، والمواطنة، وحقوق الانسان، والالتحام بين الحرية والمساواة، هي مبادىء مشتركة بين الاثنتين .

  ومع أن الليبرالية والماركسية تتناقضان بشكل حاد بخصوص الغايات والأساليب، والدور التاريخي الذي قدّر للبروليتاريا أن تلعبه، إلا أن على حدودهما كان يتم تداخل الواحدة منها بالأخرى، باعتبار أن الماركسية، التي ترعرعت في موروث الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية، شكلت تحولاً تاريخياً على نحو متواصل، وقفزة ثورية وفق نمط مترابط منطقياً، حيث أبدعت جدلاً نوعياً جديداً في غمار النضال الثوري، مستفيدة، ومنقذة، ومحافظة في الوقت عينه، في سيرورة تطويرها للنواة العقلانية الحقة لجدل هيغل، ومنتقدة إياه من مواقع نظرية نوعية. فإذا كان الاقتصاد السياسي الانكليزي، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، قد شكلت المصادر النظرية الأساسية للفلسفة الماركسية، فإنه والحق يقال تمثل النظرية الماركسية الوريث الشرعي للمنجزات الجدلية المثالية، من القرن السادس عشر إلى منجزات هيغل الجدلية، التي طرحت مسألة تطابق الجدل من المنطلق ونظرية المعرفة، والتي كانت في الوقت عينه، نقطة انطلاق لأسس الماركسية، والتجاوز الجدلي الخلاق والمبدع للنظرية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية عامة.

 يستخدم ماركس مصطلح المجتمع المدني بطريقتين، الاولى وردت في " المسألة اليهودية" حيث المجتمع المدني، هنا، كحياة مادية خاصة مقابلة للحياة العامة والمجردة للدولة الحديثة، حيث يتم التحديد، هنا، بالتقابل (التعريف بالنقيض)، والمجتمع المدني هذا هو المجتمع البرجوازي. أما في " الايديولوجيا الالمانية " فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الانتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية (علاقات السوق) والعلاقات الاجتماعية، أي علاقات الملكية الخاصة.

  وفي المؤلفات اللاحقة وخاصة في " رأس المال "، يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويبقي على مفهوم علاقات الانتاج الاجتماعية – الاقتصادية كمسرح للتاريخ. أي على اعتبار أن التاريخ اساسا هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل جديد. هذا التخلي عن المفهوم جاء على أرضية الارهاصات الثورية لمنتصف القرن التاسع عشر (ثورات 1848 الديمقراطية)، وعلى أساس التحضير النظري لقلب السلطة البرجوازية وتحطيم سلطتها ومعها مجتمعها المغترب – مجتمعها المدني.

  وكما معلوم فإن الماركسية درست، وحللّت، واستخلصت الدروس، التي قدمتها الثورات البرجوازية الأوروبية في الماضي، فيما يتعلق بمفهوم المجتمع المدني وعلاقته ببناء الديمقراطية، وبخاصة الثورة الانكليزية خلال أعوام 1640- 1649، والثورة الفرنسية الكبرى خلال أعوام 1789- 1794، وربيع ثورات 1848، التي اجتاحت أوروبا، وهدّمت عروش الملكية المطلقة، وقضت على الاقطاعية، ونجحت في مرحلة صعودها في إحداث تطورات تاريخية عظيمة لا تتزعزع في مجال بناء مجتمع مدني منعتق سياسياً، يسود فيه مبدأ الحق البرجوازي، حيث تشكل الملكية الخاصة عامة، والملكية الخاصة لوسائل الانتاج بخاصة، الضمانة الحقيقية لنظام الدولة السياسية البرجوازي.

 ترتبط مفاهيم " المجتمع المدني " و " الديمقراطية " بسياق محدد وهو الذي يسمح ببروز مفهوم " المواطن " أو " الفرد ". هذا السياق هو الذي " يختزل الانسان الى عضو في المجتمع البرجوازي " والى الفرد الاناني المستقل من جهة، والمواطن، الشخص المعنوي من جهة اخرى، على حد تعبير ماركس. وليس هذا السياق التاريخي غير العصر الذي يصبح فيه الفرد متساويا من الناحية الحقوقية على الاقل) مع كل فرد وأخر، فينزل الى حلبة الحياة مجردا من انتمائه الى العشيرة أو الطائفة، أو الملة.

 لاحقا، مع التطورات الحاصلة في التشكيل الاجتماعي الرأسمالي والتطورات الحاصلة في العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني وكذا تطور الممارسة الديمقراطية وبروز ظواهر جديدة تستهدف معالجات جديدة، أعاد المفكر الايطالي المعروف غرامشي اكتشاف وبلورة هذا المفهوم واستخدامه ومنحه مضامين جديدة.

  إن مفهوم المجتمع المدني عند ماركس ينطلق من السياسة كتجريد، حيث يمثل " نقد فلسفة الحق لهيغل 1843 "، و " المسألة اليهودية "، النقد الأكثر جذرية، التي كان موضوعه الحق والدولة الدستورية التمثيلية الحديثتين، وذلك باسم الديمقراطية الجذرية. لقد بقيّ هذا النقد أدنى بكثير من الناحية النظرية من نقد الرأسمال، ولكنه شكل مرحلة انتقالية، المحرك لايصال نقد السياسة إلى نقد الاقتصاد السياسي، أي إلى نقد رأس المال، باعتباره يدخل في سياق عميق التحليل النظري لنمط الانتاج الرأسمالي، وللعلاقات الانتاجية الرأسمالية الجديدة. كتب ماركس في مقدمة كتاب: " مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي "، يقول"... وساقتني أبحاثي إلى النتيجة التالية، وهي أن العلاقات الحقوقية، شأنها بالضبط شأن أشكال الدولة لا يمكن فهمها لا بحكم ذاتها، ولا بحكم ما يسمى التطور العام للروح البشرية، وإنما على العكس، تمد جذورها في العلاقات الحياتية المادية التي يسمى هيغل، مجموعها "بالمجتمع المدني" على غرار ما فعل الكتاب الانجليز والفرنسيون من القرن الثامن عشر، وأنه ينبغي البحث عن تشريح المجتمع المدني" .

 ويظهر أول نقد علمي للاقتصاد السياسي، الدولة السياسية البرجوازية، كامتداد، تعبر عن علاقات الانتاج الرأسمالية، التي تتمفصل عليها، وإن استقلاليتها مرتبطة، بتبعيتها لبنية التبادل من أجل الانتاج، أي بتشكل المجتمع المدني في طبقات متناقضة.وهكذا، فالمجتمع المدني، يختزله ماركس إلى مواجهة ذريه للمصالح الخاصة واعتباره مجتمع غير سياسي، تحدده تناقضات المصالح فيه، الدولة السياسية البحتة و"شكلياتها وبيروقراطيتها كتوسط مجرد وعاجز لمصالحه".

 ومن الطبيعي التأكيد على أنه لا يمكننا أن نفهم هذا الموقف السلبي من الدولة، ووضع " المجتمع المدني " مقابلاً لها إلا إذا نزّلنا المفهوم الماركسي في الظرفية التاريخية للنضال الفكري السياسي، والاقتصادي الاجتماعي الذي عرفه النصف الثاني من القرن التاسع عشر..... وهكذا يمكن القول : إن المفهوم قد اكتسب في الرؤية الماركسية معنى مادي نأى به عن المفهوم المعرفي البحت، ومعنى ثوريا ليتحول في العمل اليومي الى سلاح سياسي ضد السلطة الاستبدادية. ويقطع كل من ماركس وانجلز بالمفهوم شوطا جديدا في الايديولوجية الالمانية (1864) حين يصلح مفهوما تاريخياً عالمياً مرتبطاً بالمجتمع الرأسمالي، ومتطوراً بتطور طبقة البرجوازية، وإنتقال قاعدتها الانتاجية من درجة الى درجة اخرى أكثر تقدماً.

  لقد نظر ماركس إلى الموضوع من منظار التناقض الذي كشف عنه في مسيرة الحداثة البرجوازية ذاتها ومشروعها التحرري نفسه. ففي نظر ماركس إن مشروع التحرير السياسي الذي قامت به البرجوازية بالفعل عندما نقلت المجتمعات من النظام القديم إلى النظام الحديث ليس في العمق إلا مشروع استلاب جديد. بل إن السياسة هي في قلب هذا الاستلاب وهي تجسد أعظم أشكال هذا الاستلاب. ففي اللحظة ذاتها التي خلقت فيها برجوازية الدولة كمجال للعام، خلقت أيضا مجال الخاص. وبذلك قضت على الفرد بالتصدع أو الانشقاق في ذاته وهويته نفسها بين ماهيتين متنابذتين ولا يمكن التوفيق بينهما، ماهيته كمواطن، وماهيته كمنتج. فالعام (المواطنية وما تعنيه من حق المساواة) فيه يعيش حالة صدام ونزاع مستمر مع الحقيقة الانتاجية الاجتماعية الفعلية التي تعني التفاوت والتباين الشديدين في شروط الحياة والعيش والممارسة. لذلك سوف يقول إن الحرية التي تعكسها المواطنية التسووية هنا شكلية تماما، ولن يكون هناك تحرر حقيقي للفرد إلا عندما تتوافق شروط الحرية السياسية مع شروط الحرية الاجتماعية. وهذه هي، حسب ماركس، غاية الشيوعية وبرنامجها، أي المطابقة بين العام والخاص، بين الدولة إطار الحرية لكن الشكلية والمجتمع المدني إطار المصالح لكن البرجوازية الخصوصية فحسب، وذلك بتجاوز الدولة والمجتمع المدني البرجوازي الطبقي في الوقت نفسه. فكلاهما الدولة والمجتمع البرجوازيان مجال للاستلاب. وليست الشيوعية سوى برنامج التجاوز التاريخي هذا للدولة الديمقراطية الشكلية وللمجتمع المدني البرجوازي الرأسمالي معا، ومثالها أن تأتي بنظام مجتمعي تكون حرية الفرد فيه شرطا لحرية المجموع، أي يتحقق فيه الانسجام المطلق بين العام (الدولة- النظام، الحرية) والخاص (المجتمع المدني-الفردية، المصلحة) وتتعانق فيه الفردية والجمعية معا. إن الصدع الذي أحدثته البرجوازية بين العام والخاص في كل فرد هو أصل السياسة التي يوجه إليها ماركس نقدا قويا باعتبارها أكبر تجسيد للاستلاب البرجوازي.

  ومن جهة اخرى لابد من الاشارة الى أن النتيجة التي توصل إليها ماركس في نقده فلسفة الحق العام عند هيغل، هي مسألة الانفصال بين المجتمع المدني والدولة السياسية، الذي يتم في العالم البرجوازي، المترافق مع تأكيد سلطة البرجوازية كطبقة مسيطرة، والدولة الديمقراطية البرجوازية، تؤكد هذا الانفصال، الذي يصيب كل عضو فرد في المجتمع المدني. إنها تؤكد هذا الانشطار بين الوجودين، وجود الفرد البرجوازي العيني، الفردي، الانساني في المجتمع المدني، ووجود المواطن المجرد الشامل والمساواتي في الدولة السياسية، التي يمارس فيها سيادة مجردة ووهمية.

 هذه الحياة المزدوجة للإنسان، وهذا الإنشطار في حياة الإنسان، وهذا النزاع الذي يتواجد فيه الإنسان، هو الذي يفضي على حد قول ماركس إلى الانشقاق الدنيوي، بين المجتمع المدني والدولة السياسية.

 إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن تجاوز هذا التناقض العقلاني بين الدولة السياسية التمثيلية والمجتمع المدني الممزق، من خلال تحويل الديمقراطية التمثيلية إلى ديمقراطية فعلية. وذلك بواسطة تسييس المجتمع المدني؟ " إنه ميل المجتمع المدني إلى اتخاذ وجود سياسي، أو إلى جعل الوجود السياسي وجوده الفعلي الخاص به"، يسمى هذا الميل حتى اليوم مشاركة"، وإن يكن ماركس يتصوره بطريقة تبدو الآن محدودة (بيد أنها ذات مغزى كبير تاريخياً)" بوصفها أهم مشاركة ممكنة في السلطة التشريعية" .

 وإذا كان التحرر السياسي للمجتمع المدني، فقد شكل خطوة تقدم كبيرة، حيث أن الديمقراطية البرجوازية قد حطمت الامتيازات الاقطاعية، وأعلنت المساواة السياسية، عبر المشاركة السياسية للمجتمع المدني، ولكنها بمقابل ذلك أبقت على الامتيازات الاقتصادية الرأسمالية، والاضطهاد، والاستغلال البرجوازي. وتأسيسا على ذلك فان هذا التحرر السياسي عينه، متطابق مع سيادة الرجل الخاص البرجوازي في الدولة السياسية، وبالتالي فهو ليس كل التحرر الإنساني بل إنه تحرر مخادع ولأن الديمقراطية البرجوازية من وجهة النظر الماركسية لم تشكل أبداً تخطياً جدلياً للانشقاق، أو الانفصال، أو التناقض المزدوج بين المجتمع المدني، من دون أن يكتمل ببعده الملازم له، أي التاريخي والعالمي، أي التحرر الاجتماعي والإنساني يظل ويستمر اغتراباً سياسياً، حيث سلطة الدولة السياسية تتجلى في سيادة سلطة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج.

  من هنا يندرج البرنامج الثوري لماركس، الذي يطرح على مختلف مكونات المجتمع المدني السياسية، والنقابية، وهياكله الاجتماعية والطبقية المستغلة، والمضطهدة، لاستعادة، ولامتصاص "قواهم الخاصة"، بغية التخطي الجدلي لهذا التناقض المزدوج بين المجتمع المدني والدولة السياسية البرجوازية الضامنة الرئيسة لملكية البرجوازية لوسائل الانتاج، ومصالحها، عبر الثورة الاجتماعية، باعتبارها ثورة تهدف إلى تحرير المجتمع المدني بأسره، وإلى تحرير الدولة البرجوازية ككيان قائم منفصل عن هذا المجتمع المدني المأزوم. ولقد أعطى ماركس هذا الدور التاريخي والتحريري لطبقة من طبقات المجتمع المدني، هي "البروليتاريا"، باعتبارها الطرف الحاسم في هذا التناقض الأساس في هذا المجتمع البرجوازي، القادر على حله، وانطلاقاً من رؤيته العقلانية للتطابق الحاصل بين ثورة الشعب مع تحرر الطبقة العاملة. "ولا يمكن لهذا التحرر الاجتماعي أن يرتكز إذن إلا على الغاء التفكيك السياسي، وليس على الديمقراطية، بل على نقد قواعد الديمقراطية، ليس على الدولة الحرة، بل على تحرير الدولة السياسية" .

  إن هذا التحرر الاجتماعي والإنساني الحاسم، يعتبر مكملاً للتحرر السياسي للمجتمع المدني البرجوازي السابق، الذي من الواجب الاستفادة منه، من مختلف الحقوق السياسية والمدنية، والحرية، والمساواة، التي تحققت في عهد البرجوازية، باعتبارها حقوقاً مثلت تقدماً عظيماً بالنظر إلى الامتيازات الاقطاعية، من أجل توظيفها بشكل صحيح نحو بناء علاقات اجتماعية وسياسية وحقوقية إنسانية جديدة، خالية من الاضطهاد، والاستغلال، والعسف.

 المرحلة الثالثة وتشمل النصف الأول من القرن العشرين وذلك في إطار احتدام الصراع الثوري وفي سياق إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في مجتمعات أوربا الصناعية. وكان أكبر مسؤول عن تطوير هذا الاستخدام الجديد المفكر الايطالي الشيوعي أنطونيو غرامشي. وغرامشي هو الذي ترك أكبر الأثر على المفهوم كما يستخدم اليوم، بعد استبعاد عناصر فلسفية وعقائدية كثيرة منه.

  غرامشي وطرح موضوع المجتمع المدني في اطار نظرية السيطرة والهيمنة :

 على الصعيد المفاهيمي اعتبر غرامشي المجتمع المدني احد مكونات البنية الفوقية. ففي احد النصوص الهامة في دفاتر السجن كتب غرامشي قائلا : " ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة، هو تثبيت مستويين فوقيين أساسيين، الاول يمكن أن يدعى المجتمع المدني، الذي هو مجموع التنظيمات التي تسمى (خاصة) والثاني هو المجتمع السياسي أو الدولة. هذان المستويان ينطويان من جهة اولى على وظيفة الهيمنة حيث إن الطبقة المسيطرة تمارس سيطرتها على المجتمع، ومن جهة ثانية تمارس الهيمنة المباشرة أو دور الحكم من خلال الدولة أو الحكومة الشرعية ".

  ويضيف في مكان أخر قائلا : " ينبغي الانتباه الى أن في مفهوم الدولة العام عناصر ينبغي ردها الى المجتمع المدني، إذ تعني الدولة : المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أي الهيمنة المدرعة بالعنف " . ويضيف " لا ينبغي أن يفهم بكلمة دولة جهاز الحكم فحسب، بل جهاز الهيمنة الخاص أو المجتمع المدني " . الدولة، حسب رأي غرامشي، هي المجتمع السياسي (سلطة الدولة) زائدا المجتمع المدني (الحقل الايديولوجي أو الاجهزة الاعلامية والتربوية للدولة البرجوازية الحديثة).

  ومن جهة ثانية أدخل غرامشي قطيعة جديدة في المضمون الدلالي Semantic لمفهوم المجتمع المدني، بإعتباره فضاء للتنافس الايديولوجي. فإذا كان المجتمع السياسي حيزا للسيطرة بواسطة سلطة الدولة، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة الثقافية الايديولوجية، ووظيفة الهيمنة Hegomony هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي أنها خاصة مثل النقابات والمدارس ودور العبادة والهيئات الثقافية المختلفة.

  تتبدى استقلالية الايديولوجيا في الهيمنة الثقافية باعتبارها رؤية للعالم لا تستمد قوتها وقدرتها من التغلب وفرض السلطة كما هو الامر في حالة السيطرة، ولا من عقلانية مفترضة أو منطق مجرد، بل من احتضان كتل المجتمع المتجانسة واقامة اللحمة بينها.

  هذه الهيمنة الثقافية التي لا تعرف مركزا ولا تأتي عن ألية موحدة، بل هي نشاط متعدد المراكز يقيم تجهيزاته وتنظيماته خارج الدولة، وفي فضاء المجتمع المدني تحديدا، في محاولة منها – الهيمنة – لاقامة سياسة للايديولوجيا يكون الهدف منها استعادة المجتمع المدني لحقه في ممارسة شرعيته والوصول الى سيادته على مكونات وجوده الخاصة. بهذا يكون غرامشي أول من استعمل مفهوم الهيمنة بمعنى القيادة، وايجاد سياسة ثقافية تهدف الى تنسيق وتوحيد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة، وذلك من خلال فاعلية الحزب " المثقف الجمعي " وقدرته على حشد وتعبئة كل اصحاب المصلحة في التغيير تحت قيادته، وذلك لأنه يحمل لواء الاصلاح والتغيير، ويسعى لنشر اليات هيمنته الثقافية والسياسية على كامل المجتمع. هكذا يرى غرامشي على غرار ابن خلدون ان المطاولة الثقافية هي أساس وشروط المطاولة السياسية.

  وطبعا لا يمكن فهم موقف غرامشي بإعطائه اهمية أساسية للمستوى الايديولوجي في البنية الاجتماعية – الاقتصادية من دون ربط ذلك بالظروف التاريخية التي كانت سائدة أنذاك في أوربا الغربية بفعل ابتعاد أفق الثورة الاجتماعية. فقد اعتقد غرامشي أن المشكلات " الثقافية " هي مشكلات ذات أهمية خاصة في مراحل تتلو النشاط الثوري، كما في أوربا 1815، ثم ثانية بعد عام 1921. ويقول إنه في مثل هذه الاوقات لا تكون هنالك معارك مباشرة بين الطبقات، ويتحول الصراع الطبقي الى " حرب مواقع "، وتصبح " الجبهة الثقافية " هي الميدان الرئيسي للنزاع .

  لقد حاول غرامشي أن يطرح موضوع المجتمع المدني في إطار نظرية السيطرة والهيمنة الطبقية ويستخدمه لإعادة بناء استراتيجية الثورة الشيوعية أو التحررية. وبالنسبة لغرامشي سواء أكان ذلك في كتابه " الأمير الحديث " أو " دفاتر السجن " هناك مجالان رئيسيان يضمنان استقرار سيطرة البرجوازية ونظامها. المجال الأول هو مجال الدولة وما تملكه من أجهزة، وفيه تتحقق السيطرة المباشرة، أي السياسية، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام ومدارس ومساجد أو كنائس إلخ، وفيه تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء أي نظام هي الهيمنة الايديولوجية والثقافية. ولذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة في نظر غرامشي والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية. وفي هذا التحليل يبلور غرامشي للحزب الشيوعي الطامح إلى السيطرة استراتيجية جديدة تقول إن من الممكن البدء في معركة التغيير الاجتماعي المنشود، أي الشيوعي، من استراتيجية تركز على العمل على مستوى المجتمع المدني وتعبئة المثقفين لكسب معركة الهيمنة الايديولوجية التي ستلعب دورا كبيرا في مساعدة الحزب على عبور الخطوة الثانية وهي السيطرة على جهاز الدولة. ففي مقابل استراتيجية الانقلاب العسكري أو شبه العسكري يقترح غرامشي عملية التربية والتعبئة الشاملة للمجتمع، أي السيطرة التدريجية والفكرية على الأطر التي تنظم علاقاته اليومية. ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة. ولأن الهيمنة مرتبطة بالايديولوجية فإن المثقفين هم أداتها. ومن هنا جاءت حاجة غرامشي لإعادة تعريف المثقف وتحليل دوره والرهان الكبير الذي وضعه عليه في التحويل الاجتماعي.

  لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها. فالعمل في إطار المجتمع المدني هو جزء من العمل في إطار الدولة وسياسة التحويل الدولوية. لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا ضمانة لفاعليته إلا إذا كان عضويا، أي إذا ارتبط بمشروع طبقة سياسي، تماما كما أن الهيمنة لا قيمة لها إلا كجزء أو مستوى من مستويات العمل لتحقيق السيطرة الاجتماعية. إنها ليست منافية للسياسة ولكن مكملة لها، وإن كانت متميزة عنها. فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة يسيران جنبا إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام وحدة ديناميكية السيطرة الاجتماعية.

  إن قراءة اطروحات غرامشي بشأن المجتمع المدني ومقارنتها بأطروحات كل من هيغل وماركس تتيح القول بوجود اختلاف في مستويات النظر بالنسبة لماركس وهيغل من جهة وغرامشي من جهة ثانية.

  يرى هيغل وماركس في " المجتمع المدني " بمعنى المجتمع المدني لطبقات اجتماعية كما في مجتمع برجوازي، أي أن تفكيرهما ينصب على مفهوم المجتمع المدني بعلاقته بالبنية التحتية، أي القاعدة الاقتصادية، أي العلاقات الناشئة في هذا المجال/الحقل الاقتصادي. أما غرامشي فقدم مفهوم " المجتمع المدني " ضمن اشكالية سياسية وفكرية هامة هي " الهيمنة"، وحلل مفهوم المجتمع المدني في علاقته بالبنية الفوقية، وهذا هو عنصر الاختلاف، الذي نراه جوهريا وهاما.

  إن فكرة غرامشي عن المجتمع المدني انما لها معنى محدد في اطار فكره ذاته، أي أنه مجتمع مدني كمجال لتحقيق مشروع تاريخي معين. وبالتالي فإن هذا يعتبر امرا يتعدى الاشكال المحددة لمفاهيم طبيعة السلطة، عسفها، مقاومة عسف السلطة أو ما شابه.

  المجتمع المدني، بحسب غرامشي، يمثل مجموع العضويات أو الكيانات الخاصة التي تمكن المجتمع المدني من أن يعبر عن وظائف الهيمنة. ويعني ذلك أن غرامشي يريد، وبمساعدة مفهوم المجتمع المدني، أن يحدد مضمون الهيمنة السياسية والثقافية لطبقة اجتماعية محددة (أو إئتلاف طبقي) في عموم المجتمع.

  إن مفهوم الهيمنة مفهوم نظري يشير الى الطريقة التي يتم بواسطتها، إبراز مصالح المجتمع ككل، وكذلك طريقة تنظيم القبول الاجتماعي بهذا الاتجاه. الهيمنة، إذن، ذات علاقة بالمجتمع المدني في حين أن السيطرة (القسر) عائد للدولة، أي للمجتمع السياسي.

 يقول غرامشي : نستطيع الان أن نحدد مستويين رئيسين من البنى الفوقية – احدهما يمكن أن يعرف باسم " المجتمع المدني، وهو مجموع الاجهزة المعروفة عموما باسم " الحاضنة "، والثاني هو " المجتمع السياسي " أو الدولة. وهذان المستويان يقابلان وظيفة " الهيمنة " التي تمارسها الجماعة المسيطرة عبر المجتمع كله من جهة ووظيفة " السيطرة المباشرة " التي تمارسها الدولة.

  تبنى الهيمنة، كما يعاد انتاجها، ضمن شبكة من المؤسسات يسميها غرامشي بالمجتمع المدني تميزا لها عن الجانب القمعي للدولة. المجتمع المدني، إذن، هو تلك التنظيمات ذات الطابع غير الحكومي : النقابات، المدرسة، الاحزاب .... الخ، وهذه تنظيمات طوعية تفعل فعلها عن طريق الاقناع أي من خلال الايديولوجيا. وبخلاف هذه التنظيمات، تشكل مؤسسات الدولة : الادارات، الجيش، الشرطة، القضاء، ما يسمى بالمجتمع السياسي، الذي يفعل فعله عن طريق القهر (السيطرة).

  لابد أن يكون مفهوما، منعا لأي التباس، الاشارة الى أن المقارنة ما بين الثنائي الدولة/ المجتمع، أو استخدام ثنائي مشابهة كالقوة/القبول، لا يعني اننا نقصد التلميح الى أن هناك أجهزة دولة قمعية بشكل خالص، وان الباقي هو أجهزة ايديولوجية خالصة، ولا أن بالامكان تركيز الصراع الطبقي ضد الدولة بشكل رئيسي، في هذا الجانب أو ذاك. على العكس من ذلك يتعين التأكيد على حقيقة مهمة وهي أن لكل بنية دولة وظيفتها القمعية ووظيفتها الايديولوجية، إلا أن هناك بعض البنى التي تكون قمعية أكثر من غيرها، وبعض البنى التي تكون بالمقابل أكثر ايديولوجية من غيرها.

  المرحلة الرابعة لاستخدام مفهوم المجتمع المدني وتشمل العقدين الأخيرين من القرن العشرين والأن، التي شهدت اعادة اكتشافه من تراث غرامشي لكن بعد تنقيته من بعض القضايا التي كانت موضع سجالات ساخنة خلال المراحل السابقة، بحيث لا يحتفظ منه إلا بفكرة المنظمات والهيئات والمؤسسات الاجتماعية الخاصة التي تعمل إلى جانب الدولة لكن ليس تحت إمرتها على تنظيم المجتمع وتنشيطه وتحقيق الاتساق فيه. وبهذا المعنى فالمقصود بالمجتمع المدني كما يستخدم اليوم تلك الشبكة الواسعة من المنظمات التي طورتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ترفد عمل الدولة. وإذا شبهنا الدولة بالعمود الفقري فالمجتمع المدني هو كل تلك الخلايا التي تتكون منها الأعضاء والتي ليس للجسم الاجتماعي حياة من دونها. فليس هناك أي شكل من العداء بينهما ولا اختلاف في طبيعة الوظائف وإن كان هناك اختلاف في الأدوار.

  ومن المفيد التذكير هنا أن الاستخدام المعاصر لمفهوم المجتمع المدني قد مر هو نفسه بثلاث فترات رئيسية.

  الفترة الأولى هي فترة الانفتاح على المجتمع المدني من قبل الأحزاب والقوى والنظم السياسية بهدف ضخ دم جديد في السياسة وإضفاء طابع شعبي عليها بدأت تفقده مع بقرطتها وتقنرطتها. وقد تمثل ذلك بإدخال عناصر أو مسؤولين في حركات إنسانية وتنظيمات اجتماعية خيرية في التشكيلات الوزارية على سبيل تقريب السياسة من الفئات النشيطة في المجتمع ومن الجمهور الواسع الذي عف عنها في الوقت نفسه.

  أما الفترة الثانية فهي فترة التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق الكثير من المهام التي تهم هذه الأخيرة بالتراجع عنها. وهذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع يحكم نفسه بنفسه ويتحمل هو ذاته مسؤولية إدارة معظم شؤونه الأساسية. وقد استخدمت " الدول الديمقراطية " مفهوم المجتمع المدني في هذه الحالة للتغطية على عجزها المتزايد عن الايفاء بالوعود التي كانت قد قطعتها عن نفسها وتبرير الانسحاب من ميادين نشاط بقيت لفترة طويلة مرتبطة بها لكنها أصبحت مكلفة، ولا يتفق الالتزام بالاستمرار في تلبيتها على حساب الدولة مع متطلبات المنافسة التجارية الكبيرة التي يبعثها الاندراج في سوق عالمية واحدة والتنافس على التخفيض الأقصى لتكاليف الانتاج.

  أما الفترة الثالثة فهي فترة طفرة المجتمع المدني إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية، على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص، في مواجهة القطب الذي تمثله الدولة-الدول المتآلفة في إطار سياسات العولمة والنازعة إلى الخضوع بشكل أكبر فأكبر في منطق عملها للحسابات التجارية والاقتصادية. وشيئا فشيئا يتكون في موازاة هذا القطب الدولوي والقيادة الرسمية للعالم، تآلف المنظمات غير الحكومية والاجتماعية التي تتصدى لهذه الحسابات الاقتصادية والتجارية من منطلق إعطاء الأولوية للحسابات الاجتماعية ولتأكيد قيم العدالة والمساواة بين الكتل البشرية. وفي هذه الحالة يطمح المجتمع المدني إلى أن يكون أداة نظرية لبلورة سياسة عالمية وبالتالي أيضا وطنية بديلة تستند إلى مجموعة من القيم والمعايير التي ينزع السوق الرأسمالي إلى تدميرها أو التجاوز عنها.

  لكن الأمر لم يلبث حتى تجاوز ذلك وجعل من المنظمات غير الحكومية، المحلية والدولية، فاعلا رئيسيا إلى جانب الحكومات في تسيير الشؤؤن الوطنية والعالمية. وقد تبلور مفهوم المنظمات غير الحكومية من خلال الوضعية القانونية التي كرستها لهذه المنظمات الأمم المتحدة، والدور النشيط الذي أصبحت توليه لها لحل العديد من المشكلات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. حتى ساد الاعتقاد اليوم أن هذه المنظمات هي الملجأ الوحيد في تنفيذ المشاريع الانسانية الخيرية وغير الخيرية في مواجهة عجز الدولة وشلل أجهزتها بسبب سيطرة البيرقراطية عليها.

  ومن الواضح أن الحالة ليست كذلك في البلاد النامية. فلا ينبع الحديث عن المجتمع المدني والدعوة لإعطاء المؤسسات الاجتماعية مسؤولياتها في العمل الاجتماعي من نضح الدولة ولا من تطويرها لفكرتها عن دورها الانجع في المساهمة في تطوير النظام الاجتماعي، ولا عن نضج المجتمع وتوسع دائرة العمل والمبادرة والتنظيم عند أفراده ونشوء جمعيات ومؤسسات أهلية قادرة على التدخل لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية ولكن ربما بالعكس من ذلك تماما. إن منبع الحديث المتزايد عن المجتمع المدني هو انهيار الدولة وفقدانها لأي دور مركزي على الطريقة الكلاسيكية، أي بناء الأمة، وعجزها عن بلورة دور جديد لها يتماشى مع حاجات المجتمع الذي يتطور بمعزل عنها منذ فترة طويلة في تصوراته ومطالبه. كما هو تفكك المجتمع نفسه وافتقاره إلى أي مؤسسات تسمح له بممارسة دوره أو تأكيد وجوده في وجه السلطة المتحولة إلى سلطة أصحاب المصالح الخاصة وفي وجه الفوضى والدمار الذين يتهددان مصيره ومستقبله.

  الأن، وقد صار لدينا مجموعة من الاطروحات، على تنوعها، تسمح لنا بتعيين حدود المجتمع المدني من خلال تعريفه بأنه : عبارة عن مجموعة من المؤسسات التي تقع خارج شبكة سلطة الدولة تتيح للقوى الاجتماعية العاملة في مجالات الاقتصاد والحياة الثقافية والايديولوجيا والسياسة أن تنظم نفسها بشكل حر بحيث تستطيع أن تلعب دورها في التطور الاجتماعي. انه مفهوم يتجاوز مجرد التغيير السياسي كما يعتبر أن ضمان وجود وحرية تلك المؤسسات الاهلية، هو شرط أساسي لفعالية الديمقراطية السياسية نفسها

  إذا تابعنا التطور التاريخي للرأسمالية وكذا تطور مؤسسات المجتمع المدني نستطيع أن نقول أن تلك المؤسسات كانت ضرورية من أجل تكريس استقلالية المجال الاقتصادي والانشطة التي يتجلى من خلالها الاقتصاد الرأسمالي في مواجهة السلطة.

  لم تقف سيرورة التاريخ عند هذه اللحظة التاريخية الاولى في تكوين الرأسمالية بل تعرضت هذه السيرورة الى تطور متناقض نتج عنه تبلور طبقات اجتماعية جديدة، اضافة للطبقة الصاعدة أنذاك – البرجوازية -. هكذا نشأت البروليتاريا كطبقة جديدة وجرت تغيرات عاصفة في مضمون طبقات قديمة أخرى تجلّت في تحولها الى منتجين سلعيين صغار يخضعون لمنطق قوانين التشكيلة الرأسمالية. وبذلك تم بسط العلاقات السلعية الرأسمالية وهيمنتها واخضاعها كافة العلاقات الاخرى لمنطقها. هكذا، إذن، بدأت تتبلور مؤسسات أهلية تخرج عن إطار إدارة شؤون رأس المال، تبحث عن حلول وسطى بين فئات البرجوازية نفسها من أجل تكريس السلطة السياسية المشتركة لها.

  أدى تطور الرأسمالية الى تطور القطبين الرئيسين : البرجوازية والبروليتاريا، وقد ترتب على ذلك مجموعة من النتائج أهمها بروز البروليتاريا كقوة مستقلة، وكطرف رئيسي في الصراعات مع البرجوازية. وبدأت تنادي بنظام اجتماعي اخر، لا طبقي في الجوهر. وهكذا فرض ميزان القوى الجديد على النظام الرأسمالي ضرورة العمل وفقا لمبدأ التعددية الحزبية والانتخابات العامة. إن هذه الصيغة من الديمقراطية السياسية، التي كانت محصلة للصراع الدائر بين القطبين البرجوازية/البروليتاريا، وتنامي كفاح الاخيرة واشتداد عودها قد أدخل تناقضا جديدا في عمل القوانين الناظمة لاشتغال التشكل الراسمالي، ترتبت عليه نتائج بالغة الاهمية. أهم تلك النتائج يتجلى ببحث أطراف التناقض الاساسي عن مساومة تنتج حلا وسطا تاريخيا بين رأس المال والعمل.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.