اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• المجتمع المدني والديمقراطية - اذهب الى الصفحة 3

 

 

المبحث الثالث

 مفهوم المجتمع المدني العالمي

 بداية، لابد من الاشارة الى أن تعبير "المجتمع المدني العالمي"- برز مثله مثل تعبير "المجتمع المدني" ذاته- مجددا في سياق طائفة من الاوضاع على الصعيدين السياسي والفكري يمكن الاشارة الى أهمها :

 1. التحولات التي شهدها العالم عشية انهيار انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وما رافقه من تداعيات من اهمها انهيار نظام القطبية الثنائية واستحقاقاته. لقد دشنت المرحلة الجديدة في بداياته الامال بانحسار التهديدات التي رافقت نظام القطبية الثنائية وسباق التسلح والحروب الباردة ....الخ. وقادت الاوضاع الجديدة الى تنامي الدعوات، من مواقع فكرية مختلفة، بضرورة طرح تصورات وطرق جديدة لعلاج مشكلات " العالم الجديد " وتطوير بنياته.

 2. ظاهرة العولمة وخطابها. ودون الدخول في تفاصيل اشكالية العولمة لأنها خارج هذه المساهمة، الا أنه يمكن القول بعدم وجود خطاب موحد حول هذه الظاهرة بل يلاحظ تنوع الخطابات المطروحة. وباختصار يمكن تمييز اتجاهين رئيسيين دون أن يعني ذلك اهمال اتجاهات اخرى لم تتبلور بصيغتها النهائية بسبب عدم تبلور الظاهرة ذاتها لأسباب معروفة.

  - الاتجاه الاول يرى في العولمة باعتبارها سيرورة تهدف الى مد نطاق السياسات والفعاليات التي قادت إلى الرخاء والسلام في " الغرب " أو " الشمال " إلى العالم كله، عبر طائفة من الاتفاقيات الدولية والتعديلات الهيكلية المحلية التي تطلق قوى السوق، وتدفع إلى تحسين الإنتاجية، والإفادة الأفضل من الموارد، وتشجع المزيد من التطور التكنولوجي، وتحسن من التنظيم الاجتماعي.

 - أما الاتجاه الثاني فيطرح بالمقابل عولمة مضادة تقوم على إدراك وترجمة المسئولية المباشرة للعالم المتطور عن اقتلاع الفقر، وذلك من خلال التوقف عن الاستغلال المالي لـ " العالم الثالث "، وتعويضه عن فترات الاستعمار والاستنزاف المتعاظم للثروات الطبيعية، وتصفية المديونية، والاعتراف بحاجة هذا" العالم " لانتهاج طرقه الخاصة بالتطور والنمو والتقدم الاقتصادي الاجتماعي، ومنحه معاملة تمييزية تنحاز لإطلاق قواه المنتجة، وتعفيه من منافسة يستحيل عليه مقابلتها، وتوفر له الموارد اللازمة لانطلاقه الاقتصادي والاجتماعي.

  وفي إطار التطلعات نفسها، طرح آخرون مشروع بناء وتطوير "المجتمع المدني العالمي " الذي توفر بالفعل عناصر حقيقية لنشأته ونموه.

  وبسبب اختلاف المرجعيات النظرية والتاريخية فإن النظرة الى " المجتمع المدني العالمي " تختلف كذلك. ويمكن أن نلاحظ هنا مقاربات مختلفة :

  المقاربة الاولى تقوم على اساس النظر الى" المجتمع المدني العالمي " باعتباره جزءً من تجليات مشروع العولمة، وباعتباره مستوى مواكبا للمستوى الاقتصادي لهذه الظاهرة. واذا دفعنا هذه المقاربة الى نهايتها المنطقية أمكننا أن نستنتج ان هذا الفهم ينطلق من التبشير الليبرالي الجديد بنظام سياسي جديد للبشرية. فالحركة الحرة لرءوس الأموال والتكنولوجيا، وأنماط التنظيم والإنتاج المشترك أو " المصنع العالمي " يخترق ويتعارض مع البنية القومية للتنظيم السياسي للعالم الموروث من القرن السابع عشر (بالنسبة لأوربا الغربية). ويحتاج الاقتصاد المعولم إلى بنية سياسية تناسبه، ربما تجسدت يوما من الأيام في حكومة عالمية. وحيث إن التنظيم القومي للعالم نشأ على قاعدة عملية بناء الأمة، فالحكومة العالمية يمكن أن تنشأ على قاعدة اجتماعية وبشرية عابرة للحدود القومية وهي "المجتمع المدني العالمي".

  أما المقاربة الثانية وهي مناقضة للمقاربة الاولى فتقوم على النظر الى المجتمع المدني العالمي باعتباره جزء من عملية أوسع، هي النضال المشترك من أجل العدالة الدولية والسلام العالمي. وبحسب هذه المقاربة يقوم المجتمع المدني بدور القاطرة لعملية التحويل الديمقراطي في الداخل عبر النضال الضروري لاستلهام ووضع إستراتيجيات ورؤى جديدة للتنمية والتطور. كما يقوم بدور الجسم الحي الذي يخوض النضال من أجل نشأة بيئة سياسية واقتصادية دولية مواكبة أو مناسبة للتنمية البشرية ذات الوجه الإنساني في العالم الثالث.

 وبحسب مؤيدي هذه المقاربة وانصارها، فقد تجسد هذا الواقع في احداث يوم 15 فبراير 2003 ، اذ تجلى " المجتمع المدني العالمي "، بأعظم معانيه ودلالاته، في المسيرات الحاشدة والمتزامنة في نحو 6000 مدينة، وأكثر من 70 دولة في العالم، لمناهضة الحرب الأمريكية المزمعة ضد العراق. وقد فرض هذا اليوم نفسه حتى على أكثر المتشككين في مفهوم " المجتمع المدني العالمي "، باعتباره يوما فريدا في تاريخ العالم، وظاهرة لا يضاهيها شيء في تاريخ البشرية أو واقعها الحديث.

  استنادا الى الملاحظات السابقة ينطرح السؤال الاساسي في موضوعنا هنا وهو : ما هو إذن المجتمع المدني العالمي؟

  قد تتنوع التعاريف انطلاقا من الخلفيات والمرجعيات الفكرية والنظرية ولكننا نستطيع نفرز ابرز علائم المجتمع المدني العالمي انطلاقا من الركائز التالية :

  أولا: إنه بمثابة فضاء أو حقل للنشاطية أو الكفاحية المنطلقة من الإيمان بقيم عالمية، وبوحدة المصير البشري، على الأقل بالنسبة لموضوعات أو قضايا حاسمة مثل السلام والعدالة والتنمية والبيئة وحقوق الإنسان.

  ثانيا: كما يمكن النظر إليه أيضا باعتبار ذلك النسيج من الروابط الكفاحية التي تنشأ على قاعدة الإيمان بالمساواة والمسئولية المشتركة والحاجة إلى علاقات عالمية لا تقوم على التسلط أو القوة والامتياز.

  ثالثا: ومن حيث الفاعلين في المجتمع المدني العالمي، فيمكن القول أنهم أولئك الذين يمدّون نشاطهم في الدفاع عن قيم مدنية إلى الساحة العالمية، ويشملون الجمعيات والروابط والنقابات والهيئات المهنية والمجالس النيابية والمنتديات الفكرية والشبكات الاتصالية والهيئات الدينية، بغض النظر عما إذا كانت صلاحياتها قومية ذات امتداد عالمي أو عالمية بالأصل، هذا فضلا عن الجمهور العام المؤمن بهذه القيم والمرتبط بتلك التجمعات.

  ونظرا لأن مفهوم "المجتمع المدني العالمي" قد نما من رحم النشاطات والثقافة المدنية القومية، ثم أخذ يمد هذه النشاطات على مستوى عالمي، أو كمستوى نضالي عالمي يشتق طاقته وعناصره البشرية من مختلف القوميات، وينظم عمله عبر روابط واتحادات عالمية أو متعددة الجنسيات، أو عبر تقنيات الحركة الاجتماعية، فإنه لابد من التساؤل عن العناصر الاساسية التي جعلت ولادة المجتمع المدني العالمي ممكنة ؟

  وفي مسعى الاجابة على هذا السؤال يمكن بلورة ثلاثة عناصر أساسية وهي:

  أ - الثقافة المدنية العالمية التي بدأت تتبلور منذ الحرب العالمية الثانية بفضل نخبة مدولة تكونت في طيف واسع من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. ولعبت المنظمات المتخصصة للأمم المتحدة (منظمة اليونسكو، منظمات اخرى مثل الأغذية والزراعة والصحة العالمية)، وفى مجال التنمية والتجارة (منظمات مثل الأمم المتحدة للتنمية الفنية والأونكتاد) دورا مبدعا على الصعيد الفكري، وكذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي. أما فى مجال حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والأقليات فقد نشأت منظومة كاملة داخل الأمم المتحدة بدءا من اللجنة العامة وصولا إلى اللجان التعاهدية، وهكذا.

  غير أن دور الأمم المتحدة كان بالضرورة مقيدا بطابعها الحكومي. كما أن النخب الفكرية ذات الأفق العالمي- بغض النظر عن أصلها القومي- لم تكن ذات قدرات تواصلية كبيرة مع شعوبها ذاتها، وهو ما حرمها من بناء نفوذ واسع في بلادها، أو على المستوى العالمي. ولذلك تدفقت أفكارها عبر قنوات حكومية دولية أو محلية. وبسبب تلك القيود وأوجه النقص نشأت أو نشطت أعداد مدهشة من المنظمات غير الحكومية العالمية أو متعددة الجنسية، بدءا من منظمات العلماء واتحادات المهنيين، مرورا بجمعيات الدفاع مثل "منظمة العفو الدولية"، وصولا إلى المنابر الفكرية متعددة الجنسيات في محاولة للقيام بدور جماهيري، أو يخاطب جماهير العالم وحكوماته.

  وفي واقع الحال فإن الجهد الأساسي الذي قامت به هذه المنظمات غير الحكومية لم يتعلق بإنشاء أهداف أو قيم مدنية، وإنما بترويجها بين أوساط شعبية مختلفة، والتعبئة المنظمة لها، والمطالبة بتحسين التشريعات وإحكام آليات العمل.

  وجاءت مرحلة ثالثة نمت فيها أدوار المثقفين والنشطاء من " العالم الثالث " على هامش المنظمات غير الحكومية الدولية في البداية، ثم عبر منظماتهم القومية أو الإقليمية الخاصة بهم.

  وحملت تلك الموجة الأخيرة قدرا كبيرا من التجديد الفكري والقدرات التنظيمية، ربما بحكم أصولها ونشأتها في صفوف حركات وأحزاب اليسار التي كانت تتعرض لتفكك واسع في مختلف بلاد " العالم الثالث "، وهو ما أتاحها للنضال المدني.

  ب- الأطر والأوعية الاتصالية الجديدة. وفي الوقت نفسه أتاحت تكنولوجيا المواصلات والاتصال العصرية فرصة تطوير قنوات وأوعية أخرى لتحل جزئيا محل الأحزاب التقليدية في الفضاء العام. فالأطر الجمعياتية ومجالس المدن والمقاطعات والأحياء والشبكات الاتصالية المكونة في الفضاء الإلكتروني وروابط الأصدقاء متعددي الجنسيات والاتحادات المهنية والمؤتمرات والمعسكرات الشبابية والعالمية والمنتديات الثقافية والفكرية والحركات الاجتماعية - صارت أكثر أهمية، ليس فقط من الأحزاب السياسية، بل ومن النقابات والحركات العمالية التقليدية.

  وتبين حصيلة التجربة أن تلك الأوعية صارت أكثر قدرة على استيعاب طاقات الأجيال الجديدة في أوربا وأمريكا الشمالية، وبدرجة أقل في " العالم الثالث، لأسباب عديدة:

  • فهي أنسب لأجيال أقل اهتماما بالأيديولوجيات وبالثقافة السياسية من آبائها، وأكثر تمتعا بالإنجازات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية.

 • ثم إن تلك الأوعية أكثر قربا وتلامسا مع الواقع المعاش.

 • وهي أيضا أكثر ديمقراطية وأقل تراتيبية، ولا تستلزم انضباطا أو تدريبا حزبيا من النمط التقليدي للعمل في الفضاء العام.وهي فوق ذلك أكثر قابلية للإشباع النفسي بحكم سرعة إثمار العمل المدني المباشر.

 • ولا بد من الإشارة المركزة من جديد إلى أثر الفضاء الإلكتروني في التعارف وبناء الشبكات الثابتة والمتحركة والاتصال ونشر وترويج الشعارات والمواقف.

  ج- أما العامل الثالث الذي أسرع بإنضاج المجتمع المدني العالمي فهو العامل الاقتصادي. ويشمل هذا العامل جوانب مختلفة. فالتطور العام في التكوين الاقتصادي الحديث صار يتحيز كثيرا لصالح الأنشطة الخدمية ذات الدخل المرتفع ووقت العمل الأقل.

 وقد مكّن هذا التحول ملايين الناس من السفر والاحتكاك بثقافات أخرى، وكذلك بتخصيص وقت للفضاء العام دون الشعور بالملل، ودون حاجة لهذا المستوى من الحماسة التعصبية التي كانت تميز العمل السياسي في الماضي، وربما لا زالت تستلزمه في كثرة من بلاد العالم الثالث.

  والواقع أن التطور نفسه في طبيعة العمل في المجتمعات المتقدمة، وفي طبيعة أنشطة العمل صار يتحيز للسلام بين الشعوب. فلدينا بطبيعة الحال حالة الهجرة الدولية (130 مليون مواطن في أوربا الغربية وحدها). وبينما تثير تلك القضية مشكلات لا حد لها، فهي تفرض أيضا قدرا من حتمية التعايش، بما في ذلك الزواج وتكوين الأسر متعددة الجنسيات أو الخلفيات الثقافية. ومن ناحية أخرى فإن التطور المذهل في أنشطة السياحة الدولية يقوم على فكرة السلام المديد، ويتطلب قدرا عاليا من الاستقرار في البيئة الدولية، وينشر بذاته رواجا للثقافة المدنية.

  المجتمع المدني العالمي : تعدد التفسيرات

  جرت الاشارة في الملاحظات السابقة الى العوامل المباشرة وراء نشوء المجتمع المدني العالمي، ولكن السؤال المهم الاخر هو كيف نفهمه في اطار السياق العريض للعلاقات السياسية والاجتماعية على المستوى العالمي. هناك محاولات مختلفة لشرح وتفسير نشوء المجتمع المدني العالمي ومن بينها :

  1. نظرية الاعتماد المتبادل التي سادت لفترة طويلة باعتبارها تمثل محاولة لشرح مقبول لنشوء المجتمع المدني العالمي. وتنبثق هذه النظرية عن (النموذج الأساسي) الوظيفي كبديل لشرح العلاقات الدولية في النظرية الكلاسيكية للعلاقات الدولية باعتبارها علاقات قوة. من هذا المنظور فالعالم يتطور تبعا لنبوءة المدرسة الوظيفية التي ترى أن الاقتصاد والروابط العالمية الجديدة تحتم تحرك النظام العالمي كنظام وظيفي في اتجاه بناء السلام بين الشعوب وتقليص أو إلغاء الحاجة إلى الحروب، حيث تتعلق مصالح الدول والشعوب بالتعاون والاعتماد المتبادل وتصير رفاهية كل شعب معتمدة على الشعوب الأخرى.

 ولكن تلك النظرة المتفائلة للعلاقات الدولية لا تشرح أو تفسر لنا مظاهر استعراض القوة والحروب الصغيرة والكبيرة. ولذلك حاول الوظيفيون الجدد أن يعدلوا هذا الإطار النظري لإدخال علاقات القوة إلى صلب النظرية، فأكدوا أن الاعتماد المتبادل نفسه ليس رفاهية وسلاما بحتا، وإنما هو أيضا علاقة قوة، إذ تختلف درجة حساسية كل اقتصاد نحو الآخر أو نحو الاقتصاد العالمي. فالعملات مثلا ليست بالقوة ذاتها، وتتأثر عملات معينة- أكثر من عملات أخرى- بالهزات في الاقتصاد العالمي. والأهم هو أن تعرُّض أو انكشاف اقتصاد ما للهزات أو لسلوك اقتصاديات أخرى ليس على الدرجة نفسها. وتستطيع دول معينة إحداث ضرر أكبر بالآخرين نظرا لانكشافهم بدرجة أكبر أمامها. وبهذا المعنى فهناك تبعية متبادلة ومصالح متشابكة بين الجماعات والشعوب، ولكن هناك أيضا فجوات وعلاقات قوة.

 ومن هذا المنظور أيضا فالعولمة ليست إلا تعبير خاص عن تمدد واتساع الاعتماد المتبادل وتطور العالم كنظام وظيفي جديد أو مختلف. والمجتمع المدني العالمي في هذا الشرح هو الجانب الاجتماعي من العولمة التي تتجلى بأشكال أخرى.

 ويصطدم هذا الشرح مع أحد أهم صور النضال أو دوافع أو "مهام" المجتمع المدني العالمي، وهو مناهضة العولمة بصيغتها النيوليبرالية. فأقوى مظاهر تحرك المجتمع المدني العالمي قبل مظاهرات ومسيرات السلام الحالية تجسد في المظاهرات الصاخبة ضد العولمة الرأسمالية، بدءا من "سياتل" و"نجازاكي" و"روما" حتى "واشنطن" خلال عام 2002. وتبدو حركة مناهضة العولمة كنموذج مثالي للحركات الاجتماعية العالمية التي تأخذ بألباب الأجيال الشابة في العالم. وهي في الوقت نفسه مظهر مميز لكفاحية المجتمع المدني العالمي.

  ولا شك أن هذا النضال ضد هذا النوع من العولمة ثم ضد التهديد بالحرب يفضح حقيقة أن العلاقات الدولية الرسمية لا تزال تقوم على القوة وعلى عدم التكافؤ في القوة، وخصوصا في ظل " نظام القطبية الاحادية " الراهن.

 2. ومن جانبهم يشرح الماركسيون الجدد واليسار الجديد بصورة عامة منطق النضال ضد العولمة باعتباره شكلا خاصا من النضال الطبقي ضد الرأسمالية المعولمة. وبهذا المعنى، فالمجتمع المدني العالمي هو نوع من التحالف الأممي ضد الرأسمالية المعولمة في طورها الليبرالي الجديد. ويؤكد هذا الشرح أن القوى المدنية الجديدة التي تناضل ضد العولمة الاقتصادية تتخذ المنظمات والرموز الكبرى للعولمة الاقتصادية هدفا كبيرا لنضالها. وتدرك تلك القوى أن تصفية استغلال أو إهمال " العالم الثالث " هو بنفس الوقت كفاح من أجل مصالحها في الحصول على تعليم وخدمات صحية ورفاهية أفضل. وأن النضال ضد الحرب هو أيضا كفاح من أجل تحررها من الاستغلال الأشد المصاحب لصعود ما يسمى بالليبرالية الجديدة.

 3. التفسير التكنولوجي. يشير البعض إلى السياق الذي انبثقت فيه عملية النضال ضد العولمة كثورة كونية ذات أبعاد متعددة وخاصة البعد المعرفي والتكنولوجي الاتصالي.

 في هذا الإطار قد يمكننا فهم نشوء المجتمع المدني العالمي وتبلوره أو نضوجه النسبي، كأحد تجليات الثورة التكنولوجية الراهنة، بما صاحبها من " فورة ثقافية " على المستوى الكوني. ويبدو أن العامل المحرك من وجهة النظر هذه هو سقوط "النماذج الأساسية الكبرى"، وبروز اهتمامات وتطلعات عالمية جديدة من ناحية ثانية.

 وبوسعنا أن نرى في هذه النظرية صياغة مستحدثة لفكرة "القرية الكونية" رغم التباس هذا المفهوم. وتعبر تلك الفكرة أساسا عن الضمير أو الوعي الليبرالي الذي بشر مبكرا بالنتائج الإيجابية للثورة الاتصالية من خلال يوتوبيا القرية الكونية. فالفكرة لا تقول بسقوط القوميات أو نهاية المرحلة القومية، ولكنها ترى وعيا جديدا يخرج من " شرنقة " الدولة القومية، ويتطلع لأنماط من التواصل والانتماء عابر للحدود القومية، بل وللحدود المرسومة بين الثقافات. فكأن " القرية الكونية " تتجاوز المفهوم الاتصالي الذي يلغي المسافات ويعكس بروز مواطنية جديدة عالمية أو كونية. ومنعا للالتباس، لابد من الاشارة الى ان هذه " القرية العالمية " ليست " مدينة فاضلة " تضمن المساواة بين الجميع بل انها في واقع الحال تحتوي على كل التناقضات الفعلية السائدة على الصعيد العالمي، بما في ذلك حالة الاستقطاب المعولم الذي يرافقه تراكم الفقر من جهة وتراكم الثروة من جهة اخرى.

 4. وقد نجد تعبيرا خاصا عن تلك الظاهرة نفسها في نظرية أخرى تتفرع عن " نبوءة ما بعد الحداثة ". فثورة الوعي ضد "النماذج الأساسية" قد تنتهي إلى اضمحلال أو على الأقل خفوت الدولة القومية كإطار للفعاليات والنشاطات الاجتماعية. ومن هنا تبرز فكرة " ما بعد الحداثة " القائلة بما بعد الدولة القومية. وتعكس تلك الفكرة أيضا الثورة على النمط الكلاسيكي للسياسة أو ظهور منظور "ما بعد السياسة". فالسياسة التقليدية ركزت على "التدافع" والتنافس والتحزب، وخاصة في النسق الديمقراطي الغربي. بينما الممارسة التي تميز الأجيال الحالية تركز على الحاجة للتكافل والعمل المشترك والتحالفات الكبيرة العابرة للحدود بين الأيديولوجيات.

 5. ويمكننا أن نشرح نشوء وتطور المجتمع المدني العالمي باعتباره "تمددا عالميا" لحركات اجتماعية أو سياسية غربية المنشأ أكثر منها "تحالفا" حقيقيا بين قطاعات وحركات اجتماعية متعددة الجنسيات. فالعناصر الأساسية اللازمة لنضوج المجتمع المدني العالمي تحققت في المجتمعات الغربية أو الصناعية المتقدمة أكثر مما تحققت في الأفق الكوني بذاته. ولكن هذا الشرح لا ينطلق من مفهوم المصلحة فحسب، بل من مفهوم الرؤية بصورة أكبر.

 لقد ثارت نضالات تاريخية كبرى انطلاقا من "رؤى" أكثر كثيرا من دافع المصلحة وخاصة إذا فهمنا هذا المصطلح الأخير من زاوية الطبقات وأنماط الإنتاج. فحركة السلام لم تكن تعبيرا عن مصالح طبقية أو اقتصادية مباشرة بل كانت تعبيرا عن رؤية مناهضة للحرب بذاتها ولما تسببه من آلام بشرية عميقة وواسعة النطاق. وكذا الامر بالنسبة لحركة حقوق الإنسان التي لم تكن تعبيرا عن دوافع طبقية أو سياسية مباشرة، بل كانت انعكاسا لالتزام فكري أو رؤية إنسانية عامة.

 

 المبحث الرابع

 الدولة – المجتمع السياسي / بعض الاشكاليات المرتبطة بمضمون الدولة

  يسعى هذه المبحث لاعادة التفكير بطبيعة الدولة ومحاولة وضعها في مكانها الطبيعي ضمن التطور التاريخي الملموس. إن السبب في ذلك يكمن في الرد على بعض الاطروحات السائدة في فترات مختلفة حول حدوث قطيعة بين الدولة والمجتمع المدني. فحسب هذه الاطروحة تقدم لنا الدولة وكأنها فوق الطبقات الاجتماعية، أي تظهر كمحاولة للمصالحة بين الطبقات، أو باختصار شديد تقدم لنا " لابسة ثوب حيادها المبجل ". ولهذا فإن المطلوب انزالها من هذه العلياء ودراستها دراسة سليمة تكشف طبيعتها ووظائفها.

  فمن المعروف أن الرهان المكثف على الدولة، والتمركز من حولها، وتحويلها إلى مركز عبادة وتقديس منذ القرن التاسع عشر، في أوربا أولا ثم في جميع أنحاء العالم فيما بعد، قد نشأ بسبب الآمال والأوهام الكبيرة التي كانت تحيط بعمل هذه الدولة وقدراتها وإمكاناتها معا. فقد ساد الاعتقاد، منذ هيجل الذي نظر إلى الدولة القومية باعتبارها التعبير الأسمى عن وصول التاريخ إلى غاياته ومطابقة الوعي لذاته، حتى النظم الشمولية التي وجدت فيها الأداة المثلى للتحرر من جميع الإكراهات التاريخية والوصول بالمجتمعات إلى أعلى قمة في السيادة والتنمية والحرية. والعجيب في الأمر أن هذه الدولة التي بني ماركس نظريته في التحرر الانساني على فرضية تلاشيها الحتمي وإحلال إدارة الأشياء محل إدارة البشر (السياسة)، أي بمجتمع يقود شؤونه وينظمها بنفسه، سوف تصبح غاية في ذاتها في بعض النظم بقدر ما سوف تمثل إطار تنظيم " الطبقة " البيرقراطية الجديدة وأداة سيطرتها الرئيسية، وسوف تجعل من السياسة إدارة البشر بوصفهم أشياءا كما لم يحصل في أي حقبة أخرى.

  وبهدف الرد على هذه الأطروحات يتعين التأكيد على القضايا/ المبادئ التالية :

  • للدولة وظيفة سياسية شاملة تسعى من خلالها الى تحقيق ترابط مستويات الكل الإجتماعي وذلك بإعادة إنتاج التناقضات و " الأوضاع القائمة ". إذن يتعين عدم الاكتفاء بالفهم " التقليدي " للدولة – أداة قوة – بل على أنها "منظمة للهيمنة ". ويعني ذلك تعريف الدولة انطلاقا من دورها الإجتماعي والسياسي بالدرجة الأولى. الدولة، إذن، هي الهيئة المركزية التي يتعين عليها الحفاظ على وحدة وتماسك التشكيل الإجتماعي، والحفاض على الشروط الإجتماعية للإنتاج وبالتالي إعادة إنتاج الشروط الإجتماعية للإنتاج من دون " عوائق ".

 • يعني ذلك أن إعادة إنتاج هذه الأوضاع وتلك التناقضات يسير في اتجاه تحقيق مصالح الطبقة المسيطرة ( أو الائتلاف الطبقي المهيمن) داخل التشكيل الإجتماعي المحدد.

 • إن سلطة الدولة في المجتمعات الطبقية هي " لحظة " من التناقض الذي يعكس الصراع الطبقي السياسي وأطرافه ونتائجه. الدولة، إذن، على عكس ما يروج له ليست محايدة ولا حكماً بين القوى المتصارعة، كما تبدو ظاهرياً. وفي الواقع يجب النظر الى سلطة الدولة بكونها وحدة متناقضة. هذه الوحدة ممكنة، إذ أن أجهزة الدولة تمتلك تماسكاً داخليا خاصا بها ومستقلاً تجاه البنى الإقتصادية وكذلك تجاه الطبقات أو فئات الطبقة المسيطرة. هذه الملاحظة ضرورية إذ أنها تتحاشى جعل الدولة مجرد " شيء " أو " أداة " بيد القوى المسيطرة.

 • من الضروري في هذا المجال التذكير باستقلالية أجهزة الدولة ليست في استقلالها عن الطبقات المتصارعة، بل عن الفئات الطبقية المسيطرة. فاستقلال أجهزة الدولة لا يكون إلا في تبعيتها المباشرة للطبقة المسيطرة ككل. معنى هذا أن استقلالها النسبي يتيح لها ضبط تطور التناقضات الثانوية بين فئات الطبقة المسيطرة ومنعها من أن تنفجر بشكل يهدد علاقة السيطرة الطبقية نفسها حين تعجز فئة أو طبقة عن فرض هيمنتها الطبقية داخل الطبقة المسيطرة ( أو الائتلاف الطبقي). إن التدخل المباشر لأجهزة الدولة هو، إذن، لإنقاذ الوجود المسيطر للطبقة السائدة، بتحقيق الهيمنة الطبقية للفئة المهيمنة فيها، والتي تعجز، في ظروف تاريخية محددة، من فرض هيمنتها. في مثل هذه الظروف التاريخية يختفي الشكل " الديمقراطي " للممارسة السياسية للطبقة المسيطرة، ويبرز الشكل الدكتاتوري المباشر الذي يضمن المنطق نفسه لهذه الممارسة السياسية. فالعلاقة بين الديمقراطية والدكتاتورية هي إذن خاصة بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة.

 • للدولة وظيفة مركبة، أي أن لها أبعاداً أو مستويات إقتصادية، سياسية، إيديولوجية. ولإنجاز هذه الوظيفة المركبة يتعين انبثاق أجهزة الدولة ( المؤسسات والموظفين) والتي يناط بها إنجاز أهداف هذه الوظيفة الشاملة بمستوياتها المختلفة :

 - على المستوى الاقتصادي يتم التركيز على :

 أ. إعادة انتاج العلاقات الانتاجية،

 ب. إعادة انتاج قوة العمل،

 ج. إعادة انتاج تمايز الفرص بين الطبقات الاجتماعية.

  - على المستوى السياسي والايديولوجي يتم التركيز على :

 أ. إدارة الصراع لصالح حائزي سلطة الدولة،

 ب. إعادة إنتاج ايديولوجية حائزي السلطة واحتضانها،

 ج. تزيف وعي المبعدين عن حيازة السلطة.

  ثمة أبعاد جوهرية في أي بنية اجتماعية تكون أكثر أهمية من غيرها من الأبعاد، من حيث تأثيرها، وتحديدها لملامح وعمق وتوجه الصيرورة الإجتماعية لهذه البنية. تأتي أهميتها لهذه الصيرورة في أن طبيعتها، وأنماطها ومستوياتها وتوزيعها ذات علاقة مباشرة بمسائل الصراع الإجتماعي. من بين هذه الأبعاد الجوهرية هناك " بُعد السلطة السياسية ". إن الحديث عن السلطة السياسية في مستواها الأكثر تركيزاً هو حديث عن" الدولة " بوصفها التجسيد الرسمي للسلطة السياسية السائدة .

  ينطرح، إذن، وعلى الفور ذلك السؤال الحاسم : ما هي طبيعة العلاقة ما بين الطبقات الإجتماعية، المحددة أساساً وإعتباراً لموقعها ضمن البنية الإقتصادية، وما بين السلطة السياسية من خلال الدولة ؟

  إن الإجابة على هذا السؤال تستحث ضرورة الحديث – ولو باختصار- عن مناهج دراسة السلطة السياسية. يعج الأدب السياسي الخاص بهذه الإشكالية بكثير من المناهج الساعية لتحديد طبيعة السلطة السياسية وبالتالي الإجابة على السؤال السابق. ومن الدخول في تفاصيل كثيرة نستطيع أن نفرز ثلاثة مناهج أساسية أكثر أهمية من غيرها في هذا المجال وهي :

 • المنهج الأول هو ذلك المنهج الذي يركز على السؤال المهم : من لديه السلطة ؟ ويمكن تسمية هذا المنهج بالمنهج الذاتي بمعنى أنه يسعى لتحديد الذات الممارِسة للسلطة. وضمن هذا المنهج هناك نقاشات ساخنة وجدل لا يتوقف ما بين منظري " التعددية " أو " نخبة السلطة " و " الطبقة الحاكمة ".

 • أما المنهج الثاني فهو ذلك المنهج الذي يتعامل مع هذه القضية بطريقة رجل الأعمال مركزاً على السؤال : ما الكمية ؟ بمعنى ماهي كمية السلطة ؟ وفي مسعى الإجابة على هذا السؤال يدعو هذا المنهج الى التشديد على السلطة كفعل power to do وليس السلطة على power over، والتشديد على تبادل السلطة وتراكمها وليس توزيعها. يعتمد التحليل السياسي من هذا الطراز على أحد الأشكال المختلفة للنظرية الإقتصادية الليبرالية. إن السلطة تدرس ضمن هذا المنهج من خلال الأفضليات، أو البدائل أو الخيارات الممكنة.

 • في حين أن المنهج الثالث، هو المنهج الماركسي، بتنوع تياراته ومداخله المختلفة. في مسعاه لإنتاج معرفة سليمة عن طبيعة السلطة السياسية لا ينطلق من " وجهة نظر اللاعب " بل من العملية الإجتماعية السابقة، أي عملية إعادة الإنتاج الإجتماعي. وبتكثيف يمكن صياغة السؤال الرئيسي لهذا المنهج كما يلي: ماهي طبيعة السلطة وكيف تتم ممارستها ؟ نقطة التركيز، إذن، في التحليل الذي يعتمده هذا المنهج، ليست الملكية ولا المالكين بحد ذاتهم، بل علاقات الإنتاج التاريخية المحددة، في ترابطها الوثيق بقوى الإنتاج من جهة وبالدولة ومنظومة الأفكار الإجتماعية السائدة في التشكيل الإجتماعي التاريخي الملموس من جهة ثانية. إن هذا المنهج ينظر الى الدولة بإعتبارها مؤسسة مادية محددة تتمركز عندها علاقات القوة ضمن المجتمع. إن الدولة، بحسب هذا المنهج، لا تمتلك سلطة بحد ذاتها، بل إنها " المؤسسة " التي تتجمع السلطة فيها وتمارس. يمكن الاستنتاج، إذن، بأن النقطة الأساسية التي يركز عليها هذا المنهج، ليست العلاقات الشخصية بين مختلف " النخب "، كما أنها ليست " عملية اتخاذ القرارات ذاتها "، بل هي تأثيرات الدولة على إنتاج وإعادة إنتاج معينة، سواء كانت هذه التأثيرات حقيقية أو مفترضة. يجب أن يكون واضحاً إن حلقة إعادة الإنتاج التي تربط الدولة، كأحد مكونات البناء الفوقي، بالقاعدة الإقتصادية هي حلقة تفاعل متبادل. فالقاعدة الإقتصادية تقرر البنية الفوقية السياسية عبر دخولها في عملية إنتاج سلطة الدولة وجهاز الدولة، لكن يتعين التأكيد على طبيعة العلاقة هذه. إن العلاقة بين أنماط الدولة وأساليب الإنتاج السائدة ليست علاقة ميكانيكية بسيطة بل هي علاقة مركبة ومعقدة في أن. إن هذا التعقيد هو نتاج تداخل المؤثرات الداخلية والخارجية وتفاعلها وانعكاسها على نمط الدولة والأشكال التي تتخذها، وعلى وجه الخصوص محتوى التراكم الإقتصادي وحجمه والتحولات الإجتماعية المرافقة له في منشأه وتحول الأنظمة السياسية وطبيعة السلطة ذاتها .

  ينطرح، إذن، سؤال أخر هو : كيف تؤثر الدولة وتدخل في عمليات إعادة الإنتاج الإجتماعي ؟ إن هذا يتقرر عبر : ماذا يتم فعله من خلال الدولة ؟ وعبر ذلك : كيف يتم ذلك من خلال الدولة ؟

  عندما يجري الحديث عن طبقة ما تمسك بزمام السلطة، فإن المقصود بذلك أن ما يتم فعله من خلال الدولة، يؤثر إيجابياً على إعادة إنتاج نمط الإنتاج الذي تكون الطبقة المقصودة هي ممثلته السائدة. غير أنه ينبغي التحذير هنا من إساءة تفسير التعابير الشائعة من قبيل " أخذ " و " الإمساك " بسلطة الدولة، على أنها تعني أن سلطة الدولة هي شيء يمكن لمسه باليد. إن هذه القضية هي أبعد وأعقد من ذلك بكثير. فهي، بالأحرى، عبارة عن عملية تدخلات في مجتمع معين من قبل " مؤسسة منفصلة " هي الدولة، تتركز لديها الوظائف العليا في المجتمع والمتمثلة في : وضع القانون، تطبيق القانون، تعديله، فرضه والدفاع عنه " عند الضرورة ". ولهذا فإن " أخذ " سلطة الدولة و " الإمساك " بها يعني بدء نمط معين من التدخل من قبل " هيئة خاصة " مخولة للقيام بتلك الوظائف .

  غير أن الملاحظة السابقة، على أهميتها، لا تكفي بل يتعين الإشارة الى ثلاث قضايا أخرى هامة وهي : • الأولى : إن الدولة، في بنيتها، ليست واقعاً جامداً، بل يحتمل شكل الدولة تغيرات متنوعة، هي نتاج ورهان الصراع السياسي. وقد تكون تلك التغيرات في بعض الأحيان " راديكالية ". ولا تستخدم الطبقة المسيطرة الدولة كما لو أنها علاقة تصرف حر إرادي تجاهها بل أن هذه الطبقة تتشكل ويعاد إنتاجها بفضل التغيرات الحاصلة في الدولة كآلة. وإذا لم يكن مفهوم " آلة الدولة " قد أُعلن رسمياً، فهو حاضر عملياً على الدوام.

  الثانية : تتضمن السلطة السياسية لطبقة ما والتي هي نتاج وشرط لسيادتها الإقتصادية، سلطة فعلية للممثلي هذه الطبقة على جهاز الدولة. ولأن هؤلاء الممثلين هم أنفسهم دوماً أعضاء في " شريحة " محددة من الطبقة المسيطرة فإنه يمكن للسلطة السياسية أن تكون رهاناً للصراع فيما بين هذه الشرائح. ومنعاً لأي التباس منهجي يجب عدم خلط السلطة الفعلية الخاصة بالماسكين بآلة الدولة مع سلطة الدولة المنظمة قانونياً على المجتمع، ذلك لأن هذه الأخيرة هي التي تؤول الى تحقيق السلطة الفعلية.

 ومع أن الدور الذي تحتله التناقضات الداخلية بين الشرائح المختلفة للطبقة المسيطرة وصراعاتها الداخلية لاحتلال مراكز القوة هو دور ثانوي بالنسبة للتناقض الرئيسي إلا أنه ما يزال هاماً. إن التجليات لمختلفة التي تتخذها الدولة وأشكالها ترتبط بتبديل مراكز القوة بين شرائح الطبقة المسيطرة. غير أنه يتعين التأكيد على أن السيطرة الإقتصادية والهيمنة السياسية لا تكونان متماثلين بشكل ميكانيكي. إذ يمكن لإحدى شرائح الطبقة المسيطرة أن تلعب الدور المسيطر في الإقتصاد ولكن من دون أن تحظى بالهيمنة السياسية، والتاريخ شاهد لا يجامل.

 • الثالثة : تحقق آلة الدولة علاقة طبقية تنعقد في مكان أخر، في الميدان الإقتصادي. غير أن الميكانيزم الذي يحقق هذه العلاقة إنما يحققها وهو يعمل على إخفائها ! إن عمل الدولة الأخير الذي يتكون بفعل وجودها وتحولها الخاصين بها، هو تكوين المجتمع والدولة نفسها في مواجهة أحدهما للأخر. يكمن عملها في تحقيق هذه المعارضة التي هي، في الوقت نفسه، تبعية وتوحيد، وهي تجعل سيطرة المصالح المهيمنة ممكنة بفضل تحقيقها من خلال تغليف المجتمع المدني الذي تحققه بمثابة دولة. هكذا يسمح اشتغالها، إذن، بممارسة السلطة من قبل الممثلين " الشرعيين " الذين جرى تكوينهم لإنجاز هذه المهمة ولاحتلال موقع ممثلي المجتمع، الموقع الذي أكتسب شرعيته أولاً وتم إخفائها .

  لا تعني الملاحظات السابقة أن الدولة طاقم مفكك الأقسام والمستويات كتفسير لتقاسم السلطة السياسية بين طبقات وشرائح متعددة، بل أن الأمر هو غير ذلك تماماً. إذ فوق التناقضات ضمن أجهزة الدولة المختلفة وخلفها، تحمل الدولة دائماً وحدة داخلية متميزة، هي وحدة سلطة الطبقة المسيطرة أو الفئة المهيمنة، غير أن هذا يحدث بشكل معقد وليس بصيغة مباشرة، بل عبر توسطات.

 إن إعادة إنتاج مجتمع محدد تبين أن إعادة إنتاج نمط أداء وظيفة كعملية اجتماعية مستمرة، لا تتوقف، يتم من خلالها إنتاج السلع وتوزيعها ولاستهلاكها، وكذلك إعلان الأوامر وتطبيقها، علاوة على استعراض العنف أو ممارسته " عند الضرورة "، وكذلك معايشة الأفكار ووضعها موضع التطبيق الفعلي. ونظراً لأن أي نشاط إنساني لابد أن يكون له هدف محدد فإن لإعادة الإنتاج هدفين هما : المواقع في بنية اجتماعية معينة، وكذلك الأشخاص اللازمين لتشغيلها .

  ونستطيع، إذن، أن نقول بأن إعادة الإنتاج الموسع للطبقات الإجتماعية ( للعلاقات الإجتماعية) يستلزم عمليتين لا يمكن تواجد أحدهما بمعزل عن الأخرى :

 • أولاً : ثمة إعادة إنتاج موسعة للمراكز التي يحتلها الوسطاء، وتجلو هذه المراكز التحديد البنيوي للطبقات، أي الطريقة التي من خلالها يعمل التحديد المذكور على ضوء البنية ( علاقات الإنتاج ، علاقات السيطرة/الخضوع السياسية والإيديولوجية) في الممارسة الطبقية.

  • ثانياً : هناك إعادة إنتاج للوسطاء أنفسهم وتوزيعهم على هذه المراكز. إن الوسطاء سيعاد إنتاجهم " تدريبهم على الإذعان " لكي يحتلوا مراكز معينة، ولهذا فإن توزيعهم لا يعتمد على

 اختياراتهم أو طموحاتهم بل على مجرد إعادة إنتاج هذه الوظائف التي تسمح بإعادة إنتاج السيطرة دون " عوائق ". ونظراً لأن التوزيع الرئيسي يندرج تحت إعادة الإنتاج الرئيسية للمراكز التي تحتلها الطبقات الإجتماعية خلال مختلف مراحل تطور التشكيل الإجتماعي المحدد، فإن التوزيع الرئيسي هذا يعني لجهاز ما أو سلسلة أجهزة، الدور الخاص المنوط بها والذي ينبغي أن تلعبه في توزيع الوسطاء.

 يتم الاستيلاء على سلطة الدولة ضمن حقل مكون من نوعين ثابتين من العلاقات. فالدولة بالرغم من مظاهر الأشياء، تمثل مجتمعاً طبقياً، وخصوصاً الطبقة السائدة، كما أن الدولة تتوسط في العلاقات الإجتماعية ما بين " الحاكم والمحكوم ". تعني إعادة إنتاج سلطة الدولة لطبقة ما ( أو جزء منها أو تحالفاً معيناً )، إعادة إنتاج تمثيلها في قيادة الدولة والتوسط لفرض غلبتها على بقية الطبقات.

 تتحكم مشكلات التمثيل والتوسط فيما يسمى بالاستقلال النسبي للدولة. إن معنى عبارة ( الاستقلال النسبي للدولة) هو أن سياستها تمثل محصلة الممارسة السياسية العملية، والتي يتعين عليها وباستمرار أن توفق بين مصالح جماعات مختلفة، والتي تكون شديدة التأثر بتاريخ طويل لمثل هذه التسويات والإيديولوجيات التي تقف ورائها، ولذلك فإن سياسة الدولة ليست بالضرورة عقلانية بأي معنى من المعاني البسيطة. غير أن أهمية الاستقلال النسبي للدولة يتجلى بوضوح شديد في حقبات تاريخية تصبح فيها التناقضات بين الطبقات الإجتماعية شديدة الى حد كبير ولا يسمح ميزان القوى القائم في اللحظة التاريخية لأي من الطبقات أن تفرض سلطتها بصورة مستدينة، مما يستدعي مجيء " بيروقراطية الدولة " وارتقائها فوق الطبقات، ناصبة نفسها قوة مستقلة وتقيم سلطتها الخاصة غير الخاضعة للرقابة. ويعبر النموذج البونابرتي عن هذه الأطروحة بأعمق الوضوح.

 إن الاستقلال النسبي لنموذج الدولة البونابرتية حيال الطبقات أو الفئات المسيطرة يتمتع بأهمية خاصة ومتميزة لكونه حصيلة الأزمة السياسية وتوازن القوى، الذي ينتمي هذا الاستقلال اليهما معاً. وهو على أية حال استقلال نسبي " ضروري " لهذه الدولة من أجل إعادة تنظيم توازنات الكتل الموجودة في السلطة، ومن أجل إعادة تنظيم الهيمنة، وذلك ضمن إطار الأزمة السياسية، التي غالباً ما تبرز فيها " الفئات الوسطى " كقوى اجتماعية تتميز بثقل سياسي مؤثر وفعال.

 لقد أدى توطد البيروقراطية والانفصال الظاهري للسياسة عن الإقتصاد الى سيادة الوهم القائل بتجرد الدولة ورئيسها وإدارتها عن الصراعات. غير أنه من المهم التذكير بأنه ليس لهذا الاستقلال وهذه " الذاتية " صفة الشمولية والثبات. فقد فوضّت الطبقة المسيطرة السلطة السياسية لبونابرت مؤقتاً غير أنها بقيت المهيمنة. يعني ذلك أن الطبقة المسيطرة سخرت الديكتاتورية البونابرتية لحل عقدة " التوازن " بينها وبين خصومها لصالحها. وعندما تم إنجاز هذه المهمة بنجاح، تم وبطريقة " مهذبة " إزاحة الدكتاتور وترحيله الى حيث مصيره المحتوم .

 ومن جهة اخرى يشير بعض الباحثين اليوم الى مسألة تراجع مكانة الدولة في الحقبة الراهنة بالمقارنة مع موقعها من العملية الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والثقافية، في الحقبة الكلاسيكية لبناء الدولة الحديثة، وأول ما يشيرون إليه كمصدر لهذا التراجع هو العولمة. فبما تخلقه العولمة من فضاءات تتجاوز سلطة الدولة القومية، وبما تستخدمه من تقنيات تضعف إن لم نقل تلغي سيطرة هذه الدولة على مواطنيها وتربطهم بشبكات للاتصالات والمعلومات والتبادل الثقافي والاقتصادي معا تتعدى كثيرا الإطار الوطني التقليدي للدولة، تنشيء هذه العولمة وضعية جديدة تجد فيها الدولة نفسها فاعلا صغيرا وضعيفا مقابل الفاعلين الجدد الكبار الذين يحتلون اليوم، أكثر فأكثر ميادين النشاط الانساني في كل المجتمعات ويتحكمون به، نعني الشركات العالمية العابرة للحدود والقوميات والمؤسسات الدولية القائمة فوق الدول والأوطان. ويبدو الأمر كما لو أن العولمة التي تطور فضاءات معولمة أو عالمية للنشاطات البشرية ما فوق الوطنية تعمل بمثابة إسفين يدق بين الدولة والمجتمع، وتعمل بالتالي على زيادة الصدع والتباعد بينهما.

والحال أن العولمة لا تزال وستبقى مفهوما واسعا ومشوشا لا يكفي لتفسير ما يطرأ على المجتمعات التي لا تزال إلى حد كبير مجتمعات وطنية، أي تخضع لقواعد وآليات التنظيم القومي للسلطة والحدود والسياسات بصرف النظر عن التراجع الذي تلقاه سياسات الدولة المركزية نفسها داخل هذا الاطار الوطني.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.