اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• كتاب / مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الاول - الصفحة 6

 8- نشأة الحركة العمالية الحديثة

 منذ أن وجد عمال مأجورون، أي قبل تكون الرأسمالية الحديثة بكثير، حصلت ظاهرات صراع طبقي بين أرباب العمل والعمال. فالصراع الطبقي ليس بنتاج نشاطات تحريضية من قبل أفراد «يدعون إليه». بالعكس، فإن مذهب الصراع الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي التي سبقته.

 1- الصراع الطبقي الأولي للبروليتاريا

 تتمحور التجليات الأولية لصراع الأجراء الطبقي حول مطالب ثلاثة على الدوام. هذه المطالب هي التالية:

أ. زيادة الأجور. وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج الاجتماعي بين أرباب العمل والعمال لصالح الأجراء.

ب. إنقاص ساعات العمل دون تخفيض الأجر، وهي وسيلة مباشرة أخرى لتعديل هذا التوزيع لصالح الشغيلة.

ج. حرية التنظيم. ففي حين يستحوذ رب العمل، مالك رأس المال ووسائل الإنتاج، على القوة الاقتصادية، يجد العمال أنفسهم منزوعي السلاح طالما هم يخوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل. ضمن هذه الشروط، تصب «قواعد اللعبة» في صالح الرأسماليين على وجه الحصر، الذين يستطيعون تخفيض مستوى الأجور قدر ما يشاءون، فيما يضطر العمال للقبول بها خشية فقدان عملهم، وبالتالي لقمة عيشهم.

ليس للشغيلة فرصة الحصول على منافع من خلال النضال الذي يواجهون به أرباب العمل، إلاّ عن طريق إلغاء هذه المنافسة التي تفرق بينهم، ورفضهم جميعا أن يعملوا ضمن شروط غير ممكن قبولها. إن التجربة تعلمهم سريعا أنه إن لم تكن لهم حرية التنظيم، كانوا منزوعي السلاح في مواجهة الضغط الرأسمالي.

لقد اتخذ الصراع الطبقي الأولي الذي يخوضه البروليتاريون طابعا تقليديا يتمثل بالرفض الجماعي للعمل، أي بالإضراب. وينقل لنا مدونو أخبار قصص إضرابات حدثت في مصر والصين القديمتين. لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت في مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لاسيما في القرن الأول من التاريخ الميلادي.

 2- الوعي الطبقي الأولي للبروليتاريا

 إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما -أولية- من التنظيم الطبقي. يتطلب على وجه الخصوص معرفة أن خلاص كل من الأجراء يتوقف على عمل جماعي، وهو حل قائم على التضامن الطبقي، بالتعارض مع الحل الفردي (المتمثل بمحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية الأجراء).

هذه المعرفة هي الشكل الأولى للوعي الطبقي البروليتاري. يضاف إلى ذلك أن المأجورين يتعلمون فطريا خلال تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة. يتم إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليلا من عدم استقرار الوجود العمالي، وللسماح للبروليتاريين بالدفاع عن أنفسهم خلال فترات البطالة، الخ. تلك هي الأشكال الأولية للتنظيم الطبقي.

إلاّ أن هذه الأشكال الأولية من الوعي والتنظيم الطبقيين لا تتطلب وعي الأهداف التاريخية للحركة العمالية، ولا فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة.

هكذا تجد الأشكال الأولى للعمل السياسي العمالي موقعها إلى أقصى يسار الراديكالية البرجوازية الصغيرة. إن مؤامرة المتساوين التي نظمها غراكوس بابوف [20]، والتي تمثل أول حركة سياسية حديثة تهدف إلى تجميع وسائل الإنتاج، ظهرت إبان الثورة الفرنسية إلى أقصى يسار اليعاقبة.

يهيئ لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية London Corresponding Society التي حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة الفرنسية. إلاّ أن القمع البوليسي تمكن من سحق المنظمة المذكورة. لكن نشأت على الفور، بعد نهاية الحروب النابوليونية، رابطة الاقتراع العام التي تشكلت في منطقة مانشستر-ليفربول الصناعية من عمال على وجه الخصوص، وكانت إلى أقصى يسار الحزب الراديكالي (البورجوازي الصغير). لقد تسارع بعد أحداث بيترلو الدامية في عام 1817 انفصال حركة عمالية مستقلة عن الحركة البورجوازية الصغيرة، ونشأ هكذا بعد قليل الحزب الشارطي أول حزب عمالي بصورة أساسية، يطالب بالاقتراع العام.

 3- الاشتراكية الطوباوية

 تلك الحركات الأولية للطبقة العاملة قادها كلها إلى حد بعيد عمال بالذات، أي عصاميونautodidactes كانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول موضوعات تاريخية واقتصادية واجتماعية، تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم معالجتها بعمق. تطورت تلك الحركات إذا على هامش التطور العلمي في القرنين 17 و18. على عكس ذلك، وفي إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود أوائل المفكرين الكبار الطوباويين من أمثال توماس مور (مستشار إنكلترا في القرن 16)، وكامبانيلا (كاتب إيطالي في القرن 17)، وروبيرت أوين، وشارل فورييه وسان سيمون (كتّاب في القرنين 18 و19). حاول هؤلاء الكتّاب أن يجمعوا كل معارف عصرهم العلمية ليقوموا بصياغة:

أ. نقد حاد للا مساواة الاجتماعية، لا سيما تلك التي تميز المجتمع البورجوازي (وهو ما يعني أوين وفورييه وسان سيمون)

ب. مخطط تنظيم مجتمع متساو، قائم على الملكية الجماعية.

بهدين الوجهين لعمل كبار الاشتراكيين الطوباويين، يشكل هؤلاء الرواد الحقيقيين للاشتراكية الحديثة. إلاّ أن ضعف نظامهم يكمن في:

أ. واقع أن المجتمع المثالي الذي يحلمون به (من هنا تعبير الاشتراكية الطوباوية) ينطرح كمثل أعلى مطلوب بناؤه وبلوغه دفعة واحدة عبر جهد للفهم يبذله الناس وإرادة حسنة، وذلك من دونما علاقة بالتطور التاريخي الذي يؤدي إليه المجتمع الرأسمالي بالذات إلى هذا الحد أو ذاك.

ب. واقع أن تفسيرات الظروف التي ظهرت خلالها اللا مساواة الاجتماعية والتي يمكن أن تختفي خلالها، هي تفسيرات ناقصة علميا وتقوم على عوامل ثانوية (العنف، الأخلاق، المال، علم النفس، الجهل، الخ)، ولا تنطلق من المشكلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، مشكلات التفاعل بين علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج.

 4- ولادة النظرية الماركسية -البيان الشيوعي

 في هذين الحقلين بالذات، نرى أن إرساء النظرية الماركسية في الأيديولوجية الألمانية (1845)، وخصوصا، في البيان الشيوعي (1847) الذي وضعه ماركس وإنجلز، إنما يشكل تقدما حاسما. فمع النظرية الماركسية، يتجسد الوعي الطبقي العمالي في نظرية علمية من المستوى الأرفع.

لم يكتشف ماركس وإنجلز مفهومي الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فهذان المفهومان كان يعرفهما الاشتراكيون الطوباويون وبورجوازيون آخرون من مثل المؤرخين الفرنسيين تييري وغيزو. بيد أنهما شرحا علميا أصل الطبقات، وأسباب تطور الطبقات، وواقع إمكان تفسير التاريخ الإنساني بكامله انطلاقا من مفهوم صراع الطبقات، وعلى وجه الخصوص الشروط المادية والمعنوية التي بموجبها يمكن لانقسام المجتمع إلى طبقات أن يخلي المجال لمجتمع اشتراكي خال من الطبقات.

لقد فسرا من جهة أخرى كيف أن تطور الرأسمالية بالذات يهيء لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية التي تضمن انتصار المجتمع الجديد. لا يعود هذا المجتمع يظهر مذاك كمجرد محصلة لأحلام الناس ورغباتهم، بل كالناتج المنطقي لتطور التاريخ البشري.

هكذا يمثل البيان الشيوعي شكلا أسمى من الوعي الطبقي البروليتاري. يعلّم الطبقة العاملة أن المجتمع الاشتراكي سوف يكون ناتج صراعها الطبقي ضد البورجوازية. إنه يعلمها ضرورة ألاّ تكتفي بالنضال من أجل زيادة الأجور، وأن تعمل بالتالي لإلغاء العمل المأجور. يعلمها على وجه الخصوص ضرورة تشكيل أحزاب عمالية مستقلة، وأن تستكمل عملها المتمثل بمطالب اقتصادية بعمل سياسي على الصعيدين القومي والأممي.

لقد ولدت الحركة العمالية الحديثة إذا من الاندماج بين الصراع الطبقي الأولي للطبقة العاملة والوعي الطبقي البروليتاري البالغ درجته العليا من التعبير المتجسدة في النظرية الماركسية.

 5- الأممية الأولى

 هذا الاندماج هو مآل كل تطور الحركة العمالية الأممية بين الخمسينات والثمانينات من القرن 19.

وخلال ثورات 1848 التي هزت أركان معظم بلدان أوروبا، لم تظهر الطبقة العاملة في أي مكان، ما عدا في ألمانيا (في جمعية الشيوعيين الصغيرة، التي كان يقودها ماركس) كحزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. كانت تسير في كل مكان في ذيل الراديكالية البورجوازية الصغيرة، إلاّ أنها انفصلت في فرنسا عن هذه الأخيرة إبان أيام يونيو الدامية عام 1848، دون أن تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت المجموعات الثورية التي شكلها أوغست بلانكي نواته إلى هذا الحد أو ذاك). واثر سنوات الردة الرجعية التي تلت هزيمة ثورة 1848، كانت المنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي التي تطورت قبل كل شيء في معظم البلدان، باستثناء ألمانيا، حيث سمح التحريض من أجل الاقتراع العام للاسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو الجمعية العامة للشغيلة الألمان.

لقد اندمج ماركس والمجموعة الصغيرة من نصرائه اندماجا حقيقيا مع الحركة العمالية الأولية في ذلك العصر بتأسيس الأممية الأولى عام 1864، وقد هيأوا بذلك تشكيل الأحزاب الاشتراكية في معظم بلدان أوروبا. ومن قبيل المفارقة البالغة أن الأحزاب التي اجتمعت لتشكيل الأممية الأولى لم تكن أحزابا عمالية. إن تشكيل هذه الأخيرة هو الذي سمح بالتجميع القومي لمجموعات محلية ونقابية انضمت إلى الأممية الأولى.

وحين تصدعت الأممية بعد هزيمة كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون بوعي ضرورة تجمع من هذا النوع على المستوى القومي. وخلال السبعينات والثمانينات، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة، تشكلت نهائيا أحزاب اشتراكية مستندة إلى الحركة العمالية الأولية في ذلك الزمن. وكانت الإستثناءات المهمة الوحيدة لهذه السيرورة هي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، فالأحزاب الاشتراكية التي تشكلت فيهما في ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة نقابية كانت قد أصبحت قوية. ولم يظهر حزب العمال المستند إلى النقابات في بريطانيا إلاّ في القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، ما يزال إنشاء حزب من هذا النوع هو المهمة الملحة للحركة العمالية.

 6-الأشكال المختلفة لتنظيم الحركة العمالية

 يسمح لنا هذا بأن نوضح أن النقابات وشركات التعاون mutualites والأحزاب الاشتراكية قد ظهرت تقريبا كالنواتج العفوية المحتومة للنضال داخل المجتمع الرأسمالي، وأن الأمر يتوقف في النهاية على عوامل متعلقة بالتراث والأحوال القومية إذا كان شكل ما يتطور قبل شكل آخر.

أمّا التعاونيات فليست الناتج العفوي للصراع الطبقي، بل ناتج المبادرة التي قام بها روبيرت أوين ورفاقه عام 1844 حين أسسوا أول تعاونية في روشدال في إنكلترا.

إن أهمية الحركة التعاونية لا تنكر، لا فقط لأنه يمكنها أن تكون مدرسة تسيير عمالي للاقتصاد بالنسبة للطبقة العاملة، بل خصوصا لأنها يمكن أن تهيئ داخل المجتمع الرأسمالي بالذات حل واحدة من المشكلات الأكثر صعوبة في المجتمع الاشتراكي، مشكلة التوزيع. بيد أنها تنطوي في الوقت ذاته على طاقة كامنة خطيرة من المنافسة الاقتصادية داخل النظام الرأسمالي مع مشاريع رأسمالية، وهي منافسة لا يمكن إلاّ أن تؤدي إلى نتائج مشؤومة بالنسبة إلى الطبقة العاملة وخصوصا إلى تخريب الوعي الطبقي البروليتاريا.

 7- كومونة باريس

 تلخص كومونة باريس كل الاتجاهات التي برزت في أصل الحركة العمالية الحديثة وفي أوائل تفتحها. لقد ولدت من الحركة العمالية الجماهيرية العفوية لا من خطة أو برنامج وضعهما حزب عمالي بصورة مسبقة، وبيّنت اتجاه الطبقة العاملة لتخفي الطور الاقتصادي الصرف من نضالها -إن الأصل المباشر للكومونة سياسي للغاية، وهو يتمثل في حذر عمال باريس تجاه البورجوازية المتهمة بنيتها تسليم المدينة للجيوش البروسية التي كانت تحاصرها- وذلك بالدمج المستمر للمطالب الاقتصادية والمطالب السياسية. حملت الطبقة العاملة للمرة الأولى على استلام السلطة السياسية، ولو على أرض مدينة واحدة. لقد عكست اتجاه الطبقة العاملة لتدمير جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الديموقراطية البورجوازية بديموقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الديموقراطية. بيّنت كذلك أنه من دون قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة التي تعبر عنها البروليتاريا في خضم معركة ثورية تظل غير كافية لضمان النصر.

*******

 9- إصلاحات وثورة

 إن ولادة الحركة العمالية الحديثة وتطورها داخل المجتمع الرأسمالي يقدمان لنا مثلا عن العمل المتبادل الذي يمارسه الواحد حيال الآخر، كل من الوسط الاجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس، بالاستقلال عن إرادتهم، والعمل الواعي إلى هذا الحد أو ذاك الذي يطورونه لتغيير هذا الوسط.

 1- التطور والثورة عبر التاريخ

 أن التغييرات على صعيد النظام الاجتماعي، التي حدثت عبر العصور، كانت على الدوام نتيجة تغيير مفاجئ وعنيف، بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه وتلك. ليس من دولة قائمة في أيامنا هذه إلاّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية، فلقد قامت الدولة الأمريكية على قاعدة ثورة 1776 وحرب 1861-1865 الأهلية، ونشأت الدولة البريطانية عن ثورة 1648 وثورة 1689، والدولة الفرنسية عن ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والدولة البلجيكية عن ثورة 1830. والدولة النيرلندية عن ثورة البلدان الواطئة في القرن 16، والدولة الألمانية عن حروب 1870-1871، و1914-1918 و1939-1945، وعن ثورات 1848 و1918 الخ..

إلاّ أنه من قبيل الخطأ الافتراض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيير البنية الاجتماعية حسب مشيئة المقاتلين. فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيير حقيقي في المجتمع وفي ظروف حياة الطبقات الكادحة، ينبغي أن يسبقها تطور يخلق داخل المجتمع القديم القواعد المادية (الاقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات الاجتماعية المتميزة ببعض السمات النوعية الخاصة بها) للمجتمع الجديد، إذ حين لا تتوفر تلك القواعد، تنتهي الثورات، مهما تكن عنيفة، إلى وضع تعيد معه إنتاج الظروف التي هدفت إلى إلغائها.

إن الانتفاضات الفلاحية الظافرة التي تتعاقب على امتداد التاريخ الصيني تقدم لنا المثال الكلاسيكي على هذا الواقع، فهي تمثل في كل مرة رد فعل الشعب ضد المظالم والأعباء الضريبية التي لا تطاق، التي كانت تلحق بالفلاحين في فترات انحطاط السلالات المتعاقبة التي حكمت الإمبراطورية السماوية. وقد كانت تؤدي تلك الانتفاضات إلى قلب سلالة ووصول أخرى إلى السلطة، منبثقة غالبا عن قادة الانتفاضة الفلاحية ذاتهم، كما كانت الحال مع سلالة الهانيين.

إن السلالة الجديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفلاحين. لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارتها، تزيد نفقات الدولة، وهو ما يستتبع زيادة الضرائب، فيشرع الماندرينيون [20]، الذين يدفع لهم في البداية صندوق الدولة، بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون لأنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب أراضي الفلاحين، ناهبين منها ريعا «عقاريا» يضاف إلى الضريبة.

هكذا تعقب عقودا من الحياة الفضلى عودة الفلاحين إلى مهاوي البؤس. إن انعدام حدوث «قفزة إلى الأمام» على صعيد قوى الإنتاج، وغياب تطور صناعة حديثة قائمة على استخدام الآلات، يفسران هذا الطابع الدوري للثورات الاجتماعية في الصين القديمة، واستحالة توصل الفلاحين إلى تحرر طويل الأمد.

 2-التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة

 لقد نجمت الرأسمالية المعاصرة هي الأخرى عن الثورات الاجتماعية والسياسية، ونعني بذلك الثورات البورجوازية الكبرى التي توالت بين القرنين 16 و18، والتي كانت في أساس قيام الدولة القومية. لقد مهد لهذه الثورات تطور سابق تمثل بنمو قوى الإنتاج داخل المجتمع الإقطاعي، تلك القوى التي غدت متعارضة مع استمرار القنانة والنقابات الحرفية والتضييقات المفرطة على التداول الحر للسلع.

لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية الحديثة التي تدربت على النضال السياسي في إطار كومونة القرون الوسطى، والمناوشات التي كانت تتم في ظل الملكية المطلقة، قبل الانطلاق في طريق الاستيلاء على السلطة السياسية.

إن المجتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من نموه بتطور يمهد حتما لثورة اجتماعية جديدة.

فعلى المستوى المادي، تنمو قوى الإنتاج إلى الحد الذي تصبح معه أكثر فأكثر تصادما مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. إن نمو الصناعة الكبيرة، وتركز الرأسمال وخلق التروستات، والتدخل المتزايد من جانب الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، تمهد الطريق أمام تشريك (التملك الجماعي) وسائل الإنتاج، وأمام تسييرها من جانب المنتجين المتشاركين بالذات، وفقا لخطة موضوعة مسبقا.

أمّا على الصعيد البشري (الاجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة تجمع شيئا فشيئا كل الميزات المطلوبة لتحقيق هذه الثورة الاجتماعية: «إن الرأسمالية تنتج مع البروليتاريا حفاري قبورها» هذه البروليتاريا المتركزة في مشاريع كبرى فاقدة أي أمل بالارتقاء الاجتماعي الفردي، تكتسب عبر نضالها الطبقي اليومي تلك الصفات الأساسية، المتمثلة بالتضامن الجماعي والتعاون والانضباط في العمل، التي تسمح بإعادة تنظيم أساسية لكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وكلما تفاقمت التناقضات الملازمة للرأسمالية كلما احتدم الصراع الطبقي، وكلما مهد تطور الرأسمالية طريق الثورة، كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية، الخ..) يمكن للبروليتاريا أن تعمل خلالها لانتزاع السلطة السياسية وإنجاز الثورة الاجتماعية.

 3- تطور الحركة العمالية الحديثة

 إلاّ أن تاريخ الرأسمالية وتاريخ الحركة العمالية لم يتبعا خطا واضحا ومستقيما بالقدر الذي كان يأمله الماركسيون حوالي عام 1880.

إن التناقضات الداخلية للاقتصاد والمجتمع في البلدان الإمبريالية لم تحتدم فورا. على العكس من ذلك، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة ما بين هزيمة كومونة باريس واندلاع الحرب العالمية الأولى مرحلة طويلة من الازدهار لقوى الإنتاج، بطيء تارة، ومتسارع طورا، غطى «النشاط التدميري» لتناقضات النظام الداخلية وطمسه.

تلك التناقضات انفجرت بعنف عام 1914، وقد كان بين علاماتها الأولى على وجه الخصوص ثورة 1905 الروسية والإضراب العام لشغيلة النمسا في العام ذاته. إلاّ أن التجربة المباشرة للشغيلة والحركة العمالية في تلك البلدان لم تكن تعكس تعمقا لتناقضات النظام، بل على العكس الاعتقاد بتطور تدريجي، سلمي إلى حد بعيد ولا رجعة فيه، للتقدم نحو الاشتراكية (لم يكن الأمر هو ذاته في أوروبا الشرقية، من هنا الوزن المحدود لتلك الأوهام في بلدانها المختلفة).

لا شك أن الأرباح الكولونيالية الفائضة التي راكمها الإمبرياليون سمحت لهم بتقديم إصلاحات لشغيلة البلدان الغربية. إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بالحسبان عوامل أخرى لفهم هذا التطور.

إن الهجرة الواسعة نحو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات الأوروبية وجهة سائر بلدان المعمور حدث على المدى الطويل من «ضخامة جيش الاحتياط الصناعي». لقد تحسنت هكذا موازين القوى بين رأس المال والعمل، في «سوق العمل»، لصالح الشغيلة، مما خلق قواعد لازدهار نقابية جماهيرية لا تقتصر على العمال المتخصصين وحدهم. لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس والإضرابات العنيفة في بلجيكا (1886-1893)، والصعود الذي لا يقاوم في الظاهر للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، كما عملت على تهدئة الجماهير المنتفضة عن طريق إصلاحات اجتماعية.

كانت النتيجة العملية للتطور المشار إليه حركة عمالية في الغرب تكتفي على الصعيد العملي بالنضال من أجل إصلاحات ممكنة التحقيق فورا: من مثل زيادة الأجور وتدعيم التشريع الاجتماعي وتوسيع الحريات الديموقراطية، الخ… كانت تلك الحركة تحول المعركة من أجل ثورة اجتماعية إلى حقل الدعاية الأدبية وتربية الكادرات. توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة الاشتراكية، معتقدة أنه تكفي تقوية المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا لكي تلعب هذه القوة العملاقة آليا، «ما أن تحل ساعة الحسم»، دورا ثوريا.

 4- الانتهازية الإصلاحية

 لم تكتف الأحزاب والنقابات الجماهيرية في أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا مؤقتا لصراعات طبقية محصورة بمعظمها في حقل الاصلاحات، لقد أصبحت بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف الحركة العمالية الجماهيرية مع الرأسمالية «المزدهرة» للبلدان الإمبريالية. أهملت الانتهازية الاشتراكية-الديموقراطية عملية إعداد الشغيلة للتغيرات المفاجئة في المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي كانت تعلن عن نفسها، وأصبحت هكذا عاملا مهما سهل استمرار الرأسمالية على قيد الحياة في خضم سنوات 1914-1923.

تجلت الانتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها رسميا إدوارد برنشتاين («الحركة كل شيء، الهدف لا شيء») الذي كان يطلب من الاشتراكية-الديموقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى إحداث إصلاحات في صلب النظام. أمّا «الحركة الماركسية الوسطية» المتمحورة حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة المراجعة، إلاّ أنها قدمت لها في الوقت ذاته العديد من التنازلات، لاسيما عن طريق تبرير ممارسة للأحزاب والنقابات كانت تقترب أكثر فأكثر من النزعة المراجعة.

لقد تجلت الانتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف الانتخابي مع أحزاب بورجوازية «ليبرالية»، وبالقبول التدريجي للمشاركة الوزارية في حكومات تحالف مع البورجوازية، وبانعدام نضال منسجم ضد الاستعمار وتجليات أخرى للإمبريالية. إذا كانت هذه الانتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة 1905 في روسيا، فقد تجلت على وجه الخصوص في ألمانيا برفض الموافقة على اقتراح روزا لوكسمبورغ تفجير إضرابات جماهيرية لأهداف سياسية. كانت تعكس في الواقع المصالح الخاصة بجهاز بيروقراطي إصلاحي (نواب اشتراكيون ديموقراطيون، وموظفون في الحزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفيرة داخل المجتمع البورجوازي).

ويدل هذا المثال على أن اكتساح الانتهازية الإصلاحية للحركة العمالية لم يكن أمرا محتوما. لقد كان بالإمكان القيام بنشاطات غير برلمانية وبإضرابات أكثر فأكثر اتساعا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكان بإمكان تلك النشاطات أن تعد الجماهير العمالية للمهام التي طرحها الصعود الثوري عند نهاية تلك الحرب.

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.