اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• كتاب / مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الاول

المؤلف ارنست ماندل


  كتاب / مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الاول

توطئة

 هذا المدخل إلى الماركسية هو نتاج تجارب دروس عديدة ألقيت في مناضلين شباب، في لحظات مختلفة من السنوات الخمس عشرة الأخيرة. وهو مرتبط بالاحتياجات التربوية التي لمسناها والتي قد تختلف من بلد إلى آخر ومن وسط إلى آخر. لذا لا ندّعي البتة أنه مدخل «نموذجي».

وهو، فضلا عن كونه يتضمن العناصر الأساسية في نظرية المادية التاريخية والنظرية الاقتصادية الماركسية وتاريخ الحركة العمالية وقضايا استراتيجية الحركة العمالية المعاصرة وتكتيكها، يحتوي على «ابتكار» يبدو محيّرا للوهلة الأولى: فإن الفصل المتعلق بالديالكتيك المادي والفصل الذي يعرض عرضا منهجيا نظرية المادية التاريخية يردان في نهاية الكتاب وليس في بدايته.

طبعا، ليس هذا الابتكار «مراجعة منهجية»، بل هو عبرة مستمدة من ملاحظة اختبارية: أن عرضا حول الدياليكتيك يصلح فاتحة لمدرسة تكوين كوادر أكثر مما لمدرسة مناضلين مبتدئين. فهؤلاء يستوعبون النظرية بصورة أفضل إذا شُرحت لهم بشكل ملموس إلى أبعد حد ممكن. وانه لأفضل بالتالي الانطلاق مما يستطيع المرء التأكد منه مباشرة -التفاوت الاجتماعي، النضال الطبقي، الاستغلال الرأسمالي- وصولا إلى مفاهيم الديالكتيك الأكثر تجريدا وأساسية، بوصفها المنطق العام للحركة والتناقض، وذلك بعد توضيح حركة المجتمع والتناقضات التي تمزقه.

ليس في الأمر سوى اختيار مبني على خبرة تربوية شخصية. ومن البديهي أن تجارب أخرى قد تؤدي إلى استنتاجات مختلفة. هذا ونبقى على استعداد للعودة إلى بنية أكثر تقليدية لهذا المدخل، إذا أثبت لنا، على ضوء تجارب، أن طريقة العرض التقليدية تسمح لمناضلي القاعدة أن يستوعبوا جوهر الماركسية بصورة أفضل. بيد أننا نجيز لنفسنا أن نشك في هذا الأمر في الوقت الراهن.

 إرنست ماندل

 1/ التفاوت الاجتماعي والنضالات الاجتماعية عبر التاريخ

 1- التفاوت الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي المعاصر

 

في بلجيكا، يوجد توزيع هرمي للثروة وللسلطة الاجتماعية. ففي قاعدة هذا الهرم، نجد ثلث المواطنين لا يملكون شيئا سوى ما يكسبونه ويصرفونه، سنة بعد سنة. إنهم غير قادرين على الادّخار ولا على التملك. وفي قمة الهرم، نجد 4% من المواطنين يملكون نصف الثروة القومية الخاصة. إن ما يقل عن 1% من البلجيكيين يملكون أكثر من نصف ثروة البلاد المنقولة. وبينهم 200 عائلة تتحكم بالشركات الكبرى (holdings) التي تسيطر على مجمل الحياة الاقتصادية القومية.

إن دراسة نشرها حديثا معهد الإحصاءات والدراسات الاقتصادية القومي أشارت إلى أن 50% من الأمة الفرنسية لم يكونوا يملكون أكثر من 5% من الثروة القومية عام 1975، بينما نصف هذه الثروة بين أيدي أقل من 10% من الأسر، وذلك مع حسبان المساكن وودائع صناديق التوفير في فئة «الثروات». أمّا ثروة 1% من الأسر الأكثر ثراء فقد ازدادت بين عامي 1949 و1975 بوثيرة مقدارها ضعفا ثروة الأسر ذات المداخيل المتواضعة.

أما في الولايات المتحدة، فقد جاء في تقدير إحدى لجان مجلس الشيوخ أن ما يقل عن 1% من العائلات الأمريكية تملك 10% من جميع أسهم الشركات المساهمة، وأن 0,2% من العائلات تملك أكثر من ثلثي هذه الأسهم. وفي سويسرا، يملك 2% من السكان أكثر من 67% من الثروة الخاصة.

ولما كان مجمل الصناعة والقطاع المالي الأمريكيين (عدا بعض الاستثناءات) منظما على أساس «الشركة المغفلة»، نستطيع القول أن لدى 99% من المواطنين الأمريكيين سلطة اقتصادية أدنى مما لدى 0,1% من السكان.

ليس تفاوت المداخيل والثروات واقعا اقتصاديا وحسب، بل يستتبع تفاوتا في احتمالات البقاء، تفاوتا أمام الموت. هكذا نجد أن معدل وفيات الأطفال كان في عائلات العمال غير المتخصصين، في بريطانيا، قبل الحرب، أكثر من ضعفي ما كان في العائلات البورجوازية. وتشير إحصائية رسمية إلى أن معدل وفيات الأطفال ارتفع في فرنسا، سنة 1951، إلى 19,1 وفات لكل ألف ولادة في المهن الحرة، و23,9 وفاة في البورجوازية الرأسمالية، و28,2 وفاة عند موظفي التجارة، و34,5 وفاة عند التجار، و36,4 وفاة عند الحرفيين، و42,5 وفاة عند العمال المتخصصين، و 44,9 وفاة الفلاحين والعمال الزراعيين، و51,9 وفاة عند العمال نصف المتخصصين و61,7 وفاة عند العمال غير المتخصصين! هذه النسب لم تتغير عمليا حتى اليوم، بالرغم من أن معدل وفيات الأطفال قد انخفض في جميع الفئات.

وقد نشرت مؤخرا الصحيفة البلجيكية المحافظة «لاليبر بلجيك» دراسة مكربة تتعلق بتكوّن اللغة عند الطفل. تؤكد هذه الدراسة أن العبء الإضافي الذي غالبا ما يعاني منه طفل عائلة فقيرة خلال السنتين الأوليين من حياته، من جراء التخلف الثقافي الذي يفرضه المجتمع الطبقي، هذا العبء يجرّ عواقب دائمة من حيث إمكانية استيعاب مواضيع علمية، وهي عواقب لا يستطيع تعليم «متساو»، لا يقصد التعويض قصدا، أن يبطلها. فإن عبارة الروائي التي تقول أن التفاوت الاجتماعي يخنق تطور ألوف من أمثال موزار وشيكسبير وأينشتاين بين أولاد الشعب، هذه العبارة ما زالت صحيحة للأسف حتى في عصر دولة الخدمات الاجتماعية (Welfare state)!

وفي عصرنا هذا، لا يتوجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الفروقات الاجتماعية القائمة داخل كل بلد وحسب. بل يهم أن نأخذ أيضا بعين الاعتبار التفاوت القائم بين عدد قليل من البلدان المتقدمة صناعيا والقسم الأعظم من البشرية الذي يعيش في البلدان المسماة بالمتخلفة (البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة).

فالولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الإنتاج الصناعي وتستهلك أكثر من نصف العديد من المواد الأولية الصناعية في العالم الرأسمالي. ويتصرف 550 مليونا من الهنود بكميات من الفولاذ والطاقة تقل عما يتصرف به 9 ملايين من البلجيكيين. أمّا الدخل الفردي الواقعي في أفقر بلدان العالم فلا يتعدى 8% من الدخل الفردي في البلدان الأخرى. ولا يحصل 67% من سكان الكرة الأرضية سوى على 15% من الدخل العالمي. وفي الهند، يبلغ عدد الأمهات اللواتي يمتن من جراء العواقب المباشرة للأمومة، في مقابل كل 100 ألف ولادة، ثلاثين ضعف عددهن في الولايات المتحدة.

نتائج: يأكل المواطن الهندي كل يوم ما لا يزيد عن نصف الحراريات التي يتناولها مواطن البلدان المتقدمة في الغرب. والعمر المتوسط الذي يتعدى 65 عاما في الغرب، ليصل إلى 70 عاما في بعض البلدان، يكاد لا يبلغ 30 عاما في الهند.

 

2- التفاوت الاجتماعي في المجتمعات السابقة

 

نجد تفاوتا اجتماعيا مماثلا للذي هو قائم في العالم الرأسمالي، في جميع المجتمعات السابقة التي تعاقبت خلال التاريخ (أي خلال تلك المرحلة من وجود البشرية على الأرض، التي نملك عنها شهادات خطية).

هاكم وصفا لبؤس الفلاحين الفرنسيين في نهاية القرن 17نقلناه عن «أطباع» لا برويير [20]:

«نرى بعض الحيوانات المتوحشة، ذكورا وإناثا، منتشرة في الريف، سوداء، دكناء، حرقتها الشمس، مرتبطة بالأرض التي تنبشها وتحركها بمثابرة لا تقهر. لها ما يشبه الصوت الناطق، وعندما تقف على أرجلها، تظهر وجها إنسانيا وهي بالفعل من البشر. ينسحبون عند المساء إلى أوكار، حيث يعيشون من الخبز الأسود والماء والجذور…».

قارنوا هذه الصورة عن فلاحي ذلك العصر بصورة الحفلات الباهرة التي أقامها لويس الرابع عشر [21] في حديقة قصر فرساي، قارنوها بتخمة النبلاء وإسراف الملك، تكونون قد رسمتم صورة أخّاذة عن التفاوت الاجتماعي.

في مجتمع بداية العصر الوسيط [22] الذي شهد هيمنة القنانة، كان السيد النبيل يستأثر في معظم الأحيان بنصف عمل الفلاحين الأقنان أو بنصف محصولهم. وكان ثمة أسياد عديدون يعمل على أرضهم مئات بل ألوف الأقنان. فكان كل سيد يحصل سنويا على ما يساوي محصول مئات بل ألوف الفلاحين.

وكان الأمر على هذه الصورة في شتى مجتمعات الشرق الكلاسيكي (مصر، سومر، بابل، فارس، الهند، الصين، الخ) حيث كان المجتمع قائما على الزراعة وكان الملاك العقاريون أمّا أسيادا أو ملوكا (يمثلهم كتبة وكلاء لمصلحة الضرائب الملكية).

لقد ترك لنا كتاب «هجاء المهن» الذي كُتب في مصر الفرعونية، قبل 3500 عام، صورة عن الفلاحين الذين استغلهم هؤلاء الكتبة الملكيون وقد قارنهم المزارعون الناقمون بالحيوانات الضارة والحشرات الطفيلية.

أمّا العصور القديمة اليونانية والرومانية، فقد كان قائما على العبودية. وإذا استطاع ذلك المجتمع أن يبلغ مستوى عاليا من الثقافة، فسبب الأمر يعود جزئيا إلى أن سكان المدن القديمة تمكنوا من تخصيص قسم هام من وقتهم لنشاطات سياسية وثقافية وفنية ورياضية، حيث تُرك العمل اليدوي أكثر فأكثر للعبيد وحدهم.

 


 

 4- الإنتاج والتراكم

 إن تَكَوُّن الطبقات الاجتماعية وتملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل جزء من المجتمع ينتجان عن صراع اجتماعي ولا يستمران إلاّ بفضل صراع اجتماعي دائم.

بيد أن ظهور الطبقات يشكل في الوقت نفسه مرحلة -حتمية- من التقدم الاقتصادي، لكونه يسمح بفصل وظيفتين اقتصاديتين أساسيتين هما وظيفة الإنتاج ووظيفة المراكمة.

في المجتمع البدائي، كان جميع الرجال والنساء القادرين يعملون في إنتاج القوت بصورة رئيسية. ولم يكن بوسعهم، في تلك الشروط، أن يخصصوا سوى القليل من الوقت لصنع أدوات العمل وتخزينها والتخصص في صنعها والبحث المنهجي عن أدوات عمل أخرى والتمرس في تقنيات عمل معقدة (كعمل التعدين مثلا) والمراقبة المنهجية لظواهر الطبيعة، الخ…

إن إنتاج نتاج اجتماعي فائض يسمح بمنح قسم من البشرية ما يكفي من وقت الفراغ ليتفرغ لمجمل تلك النشاطات التي تيسر ازدياد إنتاجية العمل. فأوقات الفراغ هذه هي أساس الحضارة وتطور أولى التقنيات العلمية (علوم الفلك والهندسة والمياه والمعادن الخ...) والكتابة. ويرافق انفصال المجتمع إلى طبقات انفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي، الذي هو نتاج أوقات الفراغ تلك.

يشكل إذن انقسام المجتمع إلى طبقات شرطا للتقدم التاريخي، طالما أن المجتمع أفقر من أن يتيح لجميع أعضائه التفرغ للعمل الذهني (لوظيفة المراكمة). غير أن ثمن هذا التقدم باهظ. فحتى عشية الرأسمالية الحديثة، لا يستفيد من منافع ازدياد إنتاجية العمل إلاّ الطبقات المالكة. وبالرغم من كل تقدم التقنية والعلم خلال السنوات الأربعة الاف التي تفصل بين بدايات الحضارة القديمة والقرن السادس عشر، نجد أن وضع الفلاح الهندي والصيني والمصري، بل حتى اليوناني والسلافي، لم يتبدل بصورة حسية.

 5- سبب فشل كافة ثورات الماضي من أجل المساواة

 عندما لا يكفي الفائض الذي ينتجه المجتمع البشري، أي النتاج الاجتماعي الفائض، لتحرير البشرية بأسرها من الكدح المرهق الدائم، فإن أية ثورة اجتماعية تهدف إلى إعادة المساواة البدائية بين البشر ثورة محكوم عليها بالفشل سلفا. فهي لا تستطيع أن تجد سوى مخرجين من التفاوت الاجتماعي القديم.

   أما تدمير كل نتاج اجتماعي فائض عمدا والعودة إلى الفقر المدقع البدائي. عندها سوف تؤدي إعادة ظهور التقدم التقني بسرعة إلى التفاوتات الاجتماعية ذاتها التي كانت الغاية إلغاءها.

   أو نزع ملكية الطبقة المالكة القديمة لصالح طبقة مالكة جديدة.

هذا بالضبط ما حصل في انتفاضة عبيد روما بقيادة سبارتكوس، وفي أولى الشيع المسيحية والأديرة، وفي مختلف الانتفاضات الفلاحية التي تتالت في الإمبراطورية الصينية، وفي ثورة الهراطقة المسيحيين في بوهيميا في القرن 15، وفي المستعمرات الشيوعية التي أسسها المهاجرون في أمريكا، الخ.

ودون أن ندعي أن الثورة الروسية أدت إلى الوضع ذاته، فإن إعادة ظهور تفاوت اجتماعي حاد في الاتحاد السوفياتي اليوم تجد تفسيرها الأساسي في فقر روسيا غداة الثورة، في عدم كفاية مستوى تطور قواها المنتجة وفي انعزال الثورة في بلد متأخر بنتيجة إخفاق الثورة في أوروبا الوسطى خلال مرحلة 1918-1923.

إن مجتمعا متساويا قائما على الوفرة وليس على الفقر -هو ذا هدف الاشتراكية- لا يستطيع أن يتطور إلاّ على قاعدة اقتصاد متقدم يكون النتاج الاجتماعي الفائض مرتفعا فيه إلى حد أنه يسمح بتحرير جميع المنتجين من كدح مرهق ويمنح المجتمع بأسره ما يكفي من أوقات الفراغ ليتمكن هذا الأخير من القيام جماعيا بالوظائف الإدارية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية (وضيفة المراكمة).

لماذا احتاج الاقتصاد البشري إلى 15 ألف سنة من النتاج الاجتماعي الفائض حتى تمكن من الانطلاق الضروري لظهور ملامح حل اشتراكي للتفاوت الاجتماعي؟ سبب ذلك هو أنه طالما تملكت الطبقات المالكة النتاج الاجتماعي الفائض بشكل منتجات (قيم استعمالية)، شكل استهلاكها الخاص (استهلاك غير منتج) سقف ازدياد الإنتاج الذي رغبت بتحقيقه.

إن معابد وملوك الشرق القديم، وأسياد العبيد في العصور القديمة اليونانية والرومانية، والأسياد النبلاء والتجار الصينيين والهنود واليابانيين والبيزنطيين والعرب، والنبلاء الإقطاعيين في العصر الوسيط، جميعهم لم يجدوا مصلحة في زيادة الإنتاج طالما كدسوا في قصورهم وبلاطاتهم ما كفاهم من المؤن والملابس الفخمة والتحف الفنية. فثمة حدود لا يستطيع الاستهلاك والترف تجاوزها (مثل مضحك: في المجتمع الإقطاعي لجزر هاواي، اتخذ النتاج الاجتماعي الفائض شكل الغذاء حصرا وكانت المكانة الاجتماعية مرهونة بالتالي بـ…وزن كل فرد).

وعندما يتخذ الناتج الاجتماعي الفائض شكل النقد -شكل فائض القيمة- ويصبح بالإمكان استعماله ليس لاقتناء سلع استهلاكية وحسب بل أيضا سلع تجهيزية (سلع إنتاجية)، عند ذلك فقط تجد الطبقة المسيطرة الجديدة -البورجوازية- مصلحة في ازدياد غير محدود للإنتاج. هكذا تولد الشروط الاجتماعية الضرورية لتطبيق جميع الاكتشافات العلمية في الانتاج، أي الشروط الضرورية لظهور الرأسمالية الصناعية الحديثة.

 


4/ من الإنتاج البضاعي الصغير إلى نمط الإنتاج الرأسمالي

 1- الإنتاج من أجل سد الحاجات والإنتاج من أجل التبادل

 في المجتمع البدائي، ثم داخل المشاعة القروية التي خلقتها ثورة عصر الحجر المصقول، كان الإنتاج يهدف بالأساس إلى سد حاجات الجماعات المنتجة. ولم يكن التبادل سوى طارئ، ولا يطول غير جزء طفيف جدا من المنتوجات التي كانت في حوزة المشاعة.

ويفترض مثل هذا الشكل من الإنتاج تنظيما متعمدا للعمل. والعمل فيه هو بالتالي اجتماعي مباشرة. والقول أن تنظيم العمل متعمد لا يعني بالضرورة أنه تنظيم واع (وليس علميا بالتأكيد)، ولا تنظيم دقيق. بل يمكن أن يكون العديد من الأمور متروكا للصدفة، بالضبط لأنه ليس من دافع إلى الإثراء الخاص يتحكم بالنشاط الاقتصادي. فالأخلاق والعادات السلفية والتقاليد والطقوس والدين والسحر يمكنها جميعا أن تحدد تناوب النشاطات المنتجة ووتيرتها. بيد أن هذه النشاطات مخصصة دوما بشكل أساسي لسد الحاجات المباشرة للجماعات، وليس للتبادل أو للإثراء بوصفه هدفا بحد ذاته.

وينبثق تدريجيا من مثل هذا التنظيم للحياة الاقتصادية شكل من التنظيم الاقتصادي هو نقيضه الكلي. فبعد تقدم تقسيم العمل وظهور فائض معين، تتفتت طاقة عمل الجماعة تدريجيا إلى وحدات (عائلات كبرى، عائلات أبوية) تعمل بالاستقلال بعضها عن البعض الآخر. ويفصل بين أعضاء الجماعة الطابع الخاص للعمل والملكية الخاصة لمنتوجات العمل، بل لوسائل الإنتاج. فيمنع هذا الطابع الخاص أعضاء الجماعة من عقد علاقات اقتصادية اجتماعية متعمدة ومباشرة، فيما بينهم. ولم يعد من تشارك مباشر بين الوحدات أو الأفراد في الحياة الاقتصادية، بل أصبحت العلاقات تتم بواسطة تبادل منتجات عملهم.

إن البضاعة نتاج للعمل الاجتماعي يخصصه منتجه للتبادل وليس لاستهلاكه الخاص أو استهلاك الجماعة التي ينتمي إليها مباشرة، فهي، أي البضاعة، تفترض وضعا اجتماعيا مختلفا اختلافا عميقا عن الوضع الذي كانت فيه كتلة المنتجات مخصصة للاستهلاك المباشر من قبل الجماعات التي أنتجتها. طبعا، ثمة حالات انتقالية (مثلا، مزارع سد الحاجات المعيشية في عصرنا، التي تبيع فائضا صغيرا في السوق). لكن إذا أردنا أن ندرك جيدا الفرق الأساسي بين وضع اجتماعي يكون فيه الانتاج مخصصا بصورة رئيسية لاستهلاك المنتجين المباشر ووضع يكون فيه الإنتاج مخصصا للتبادل، فلنتذكر الجواب الساخر الذي أجاب بع الاشتراكي الألماني فردينان لاسال أحد الاقتصاديين الليبراليين في عصره: ربما أن السيد فلانا بن فلان، وهو مقاول في شؤون الجنازات، ينتج نعوشا لاستعماله الخاص أولا ولاستعمال أعضاء أسرته، ولا يبيع سوى الفائض الذي يبقى لديه…

 2- الإنتاج البضاعي الصغير

 ظهر إنتاج البضائع أولا قبل ما يقارب 10 ألف أو 12 ألف سنة، في الشرق الأوسط، في إطار تقسيم أساسي أولي للعمل بين حرفيين مهنيين وفلاحين، أي بنتيجة ظهور المدن. إننا نطلق على التنظيم الاقتصادي الذي يغلب فيه الإنتاج من أجل التبادل من قبل منتجين لا يزالون أسياد شروط إنتاجهم، نطلق عليه اسم: الإنتاج البضاعي الصغير.

وبالرغم من أنه كانت ثمة أشكال متعددة للإنتاج البضاعي الصغير، لا سيما في العصور القديمة وضمن نمط الإنتاج الآسيوي، لم يشهد الإنتاج البضاعي الصغير ازدهاره الرئيسي إلاّ بين القرنين الربع عشر والسادس عشر في إيطاليا الشمالية والوسطى وفي البلدان الواطئة الجنوبية والشمالية، نظرا لاضمحلال القنانة في هذه المناطق وفي تلك العصور، ولكون مالكي البضائع الذين التقوا في أسواقها أحرارا عموما ومتساوين بالحقوق إلى هذا الحد أو ذاك.

إن طابع الحرية والمساواة النسبيتين هذا الذي ميز مالكي البضائع، ضمن مجتمع قائم على الإنتاج البضاعي الصغير، هو بالضبط الذي يسمح بإدراك وظيفة التبادل بعينها: السماح باستمرارية جميع النشاطات المنتجة الرئيسية، بالرغم من تقسيم للعمل بات متقدما وبدون أن ترتهن هذه النشاطات بقرارات متعمدة من قبل الجماعات أو أسيادها.

فمحل تنظيم العمل القائم على التوزيع، المتعمد، والمدبر سلفا، لليد العاملة بين شتى فروع النشاط الرئيسية لسد حاجات المجتمع المباشرة، يحل تقسيم للعمل «فوضوي» و«حر» إلى هذا الحد أو ذاك، يبدو فيه أن الصدفة تتحكم بذاك التوزيع للطاقات الإنتاجية الحية أو الميتة (أدوات العمل). ومحل التخطيط التقليدي أو الواعي لتوزيع هذه الطاقات يحل التبادل. لكنه ينبغي عليه أن يحل بطريقة تضمن استمرارية الحياة الاقتصادية (ليس بدون العديد من «الحوادث العابرة» والأزمات وانقطاعات إعادة الإنتاج) وتضمن عموما أن تجد جميع النشاطات الرئيسية من يمارسها.

 3- قانون القيمة

 إن الطريقة التي تتحكم بالتبادل هي بالذات ما يضمن هذه النتيجة، في الأجل المتوسط على الأقل. فتبادل البضائع بحسب كميات العمل الضرورية لإنتاجها. وتبادل نتاجات يوم عمل مزارع بنتاجات يوم عمل حائك. وأنه لواضح أن التبادل لا يستطيع أن يقوم سوى على هذا التعادل، بالضبط عند بداية الإنتاج البضاعي الصغير، عندما لا يزال تقسيم العمل بين الفلاح والحرفي تقسيما أوليا وعندما لا تزال نشاطات حرفية عديدة تمارس في المزرعة. ولولا ذلك لترك هذا النشاط المنتج أو ذاك بسرعة، إذا كان يكافأ بأقل من النشاطات الأخرى. ولحصل نقص في هذا المجال، نقص يرفع الأسعار ويرفع بالتالي المكافأة التي يجنيها القائمون بهذا النشاط. هكذا تكون النشاطات المنتجة قد أعيد توزيعها بين مختلف قطاعات النشاط، بما يعيد قاعدة التعادل: لقاء كمية معينة من العمل المبذول، الحصول على الكمية ذاتها من القيمة في التبادل.

 إننا نطلق اسم «قانون القمة» على القانون الذي يحكم تبادل البضائع ويحكم، بواسطة هذا التبادل، توزيع القوى العاملة وجميع الطاقات الإنتاجية بين شتى فروع النشاط. إنه بالفعل، إذا، قانون اقتصادي يقوم في جوهره على شكل من تنظيم العمل، على علاقات معقودة بين البشر ومتميزة عن العلاقات التي تشرف على تنظيم للاقتصاد مخطط وفقا لتقاليد منتجين متشاركين أو لإختياراتهم الواعية.

يضمن قانون القيمة الاعتراف الاجتماعي بالعمل بعد أن أصبح عملا خاصا. وبهذا المعنى، ينبغي أن يستند القانون إلى أساس من المقاييس الموضوعية، المتساوية للجميع. فلا يعقل بالتالي أن يكون إسكافي كسول، يحتاج إلى يومي عمل لإنتاج حذاءين ينتجهما إسكافي ماهر في يوم عمل، لا يعقل أن يكون قد أنتج في نهاية المطاف ضعفي القيمة التي أنتجها الإسكافي الماهر. مثل هذا التنظيم للسوق، يكافئ الكسل أو قلة المهارة، لو وجد لأدى بمجتمع قائم على تقسيم العمل والعمل الخاص إلى الارتداد السريع، بل إلى الاضمحلال.

إن تعادل أيام العمل، الذي يضمنه قانون القيمة، هو لهذا السبب تعادل عمل بإنتاجية متوسطة اجتماعيا. هذه الإنتاجية المتوسطة هي إجمالا مستقرة ومعروفة لدى الجميع في مجتمع ما قبل رأسمالي، لأن التقنية الإنتاجية تتطور فيه ببط شديد أو لا تتطور قطعا. نقول إذا إن قيمة البضائع تحددها كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها.

 4- ظهور الرأسمال

 في الإنتاج البضاعي الصغير، يصل المزارع الصغير والحرفي الصغير إلى السوق ومعهما منتجات عملهما. فيبيعانها ليشتريا منتجات يحتاجان إليها لإستهلاكهما الجاري ولا ينتجانها بنفسيهما ويمكن تلخيص نشاطهما في السوق بصيغة: البيع من أجل الشراء.

بيد أنه سريعا ما يقتضي الإنتاج البضاعي الصغير ظهور وسيلة تبادل مقبولة لدى العموم (يطلق عليها أيضا اسم «المعادل العام») لتسهيل التبادل. إن وسيلة التبادل هذه، التي يمكن مبادلة جميع البضائع بها دون فرق، هي النقد. ومع ظهور النقد، يصبح بالإمكان أن تظهر بنتيجة تقدم جديد في التقسيم الاجتماعي للعمل شخصية اجتماعية أخرى، طبقة اجتماعية أخرى: صاحب المال، المستقل عن مالك البضائع بذاتها والمقابل له. إنه المرابي أو التاجر المتخصص في التجارة الدولية.

ويقوم صاحب المال هذا بنشاط في السوق مختلف جدا عن نشاط الفلاح الصغير أو الحرفي. فبما أنه يصل إلى السوق ومعه مبلغ معين من المال، لم يعد شغله أن يبيع لكي يشتري، بل على العكس أن يشتري لكي يبيع. إن الفلاح أو الحرفي الصغيرين يبيعان لكي يشتريا بضاعة مختلفة عمّا ينتجانه بنفسيهما، غير أن الهدف من العملية يبقى سد حاجات مباشرة إلى هذا الحد أو ذاك. وبالعكس، فإن صاحب المال لا يستطيع أن «يشتري لكي يبيع» من أجل سد حاجاته فقط. إن «الشراء من أجل البيع» لا معنى له في نظر صاحب المصرف أو التاجر إلاّ إذا باع لقاء مبلغ يفوق المبلغ الذي جاء به إلى السوق. إن ازدياد قيمة المال عن طريق الحصول على فائض قيمة، أي الإثراء بوصفه هدفا بذاته، هو معنى نشاط المرابي أو التاجر.

إن الرأسمال -إذ أنه هو المعني، بشكله الأولي والبدائي، شكل الرأسمال النقدي- هو إذا كل قيمة تحاول أن تحصل على فائض قيمة، كل قيمة تنطلق بحثا عن فائض قيمة. هذا التعريف الماركسي للرأسمال يتعارض مع التعريف الشائع في الموجزات البرجوازية والقائل أن الرأسمال هو ببساطة كل أداة عمل، أو حتى، بمزيد من الإبهام، «كل سلعة دائمة». بمثل هذا التعريف، فإن أول قرد ضرب شجرة موز بعصا للحصول على موز هو أول رأسمالي…

فلنؤكد مرة أخرى على الفكرة: إن مقولة «الرأسمال»، شأنها شأن جميع «المقولات الاقتصادية»، لا يمكن فهمها إلاّ بالنظر إلى كونها قائمة على علاقة اجتماعية بين البشر، أي علاقة تتيح لصاحب رأسمال أن يتملك فائض قيمة.

 5- من الرأسمال إلى الرأسمالية

 لا يتطابق وجود الرأسمال مع وجود نمط الإنتاج الرأسمالي. بالعكس، فإن رساميل قد وجدت وجرى تداولها طوال آلاف السنين، قبل ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي في أوروبا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

وقد ظهر المرابي والتاجر أولا داخل مجتمعات ما قبل رأسمالية، عبودية، إقطاعية أو قائمة على نمط الإنتاج الاسيوي. إنهما يعملان في هذه المجتمعات خارج دائرة الإنتاج بصورة رئيسية. ويؤمنان دخول المال إلى مجتمع طبيعي (هذا المال يأتي من الخارج عموما)، ويدخلان منتجات كمالية أتت من بعيد، ويوفران حدا أدنى من التسليف للطبقات المالكة التي لا تحوز على ثروات منقولة وللملوك والأباطرة أيضا.

مثل هذا الرأسمال ضعيف سياسيا، وليس بمنأى عن الابتزاز والسلب والمصادرة. وهو ذا أصلا مصيره الاعتيادي. لذا يحمي صاحب المال ثروته بغيرة، حتى أنه يخفي جزءا منها ويحرص على ألاّ يوظفها بكاملها خوفا من أن تجري مصادرتها. فقد طالت المصادرات بعض أثرى تجمعات أصحاب الرساميل في العصر الوسيط، أمثال فرسان المعبد [20] في القرن الرابع عشر في فرنسا. وقد خسر رجال المصارف الإيطاليون ثرواتهم بعد أن مولوا حروب ملوك إنكلترا، لأن هؤلاء الملوك لم يسددوا ديونهم.

إن الرأسمال لا يستطيع أن يتراكم -أن ينمو- بصورة متواصلة إلى هذا الحد أو ذاك، إلاّ عندما يكون ميزان القوى السياسي قد تغير إلى حد أصبحت عنده المصادرات أصعب فأصعب. منذ ذلك الحين، يصبح دخول الرأسمال في دائرة الإنتاج ممكنا، وتصبح معه ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي، ولادة الرأسمالية الحديثة، ممكنة.

لم يعد الآن صاحب الرساميل مجرد مراب أو مصرفي أو تاجر. إنه مالك وسائل إنتاج، ومستأجر سواعد ومنظم للإنتاج وصاحب معمل أو مصنع. ولم يعد فائض القيمة مستخرجا من دائرة التوزيع. بل هو منتج بصورة مستمرة خلال سيرورة الإنتاج ذاتها.

 


 4- قوانين تطور الرأسمالية

 إن نمط الإنتاج الرأسمالي، من حيث ميزات سيره بذاتها، يتطور وفقا لقوانين تطور معينة تخص بالتالي طبيعته الخاصة:

 أ- تركز الرأسمال وتمركزه

في المزاحمة، تبتلع الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة. فتتغلب المنشآت الكبيرة على المنشآت الأصغر حجما التي تحوز على إمكانيات أقل ولا تستطيع أن تستفيد من إيجابيات الإنتاج واسع النطاق ولا أن تدخل التقنية الأكثر تقدما وكلفة. فيزداد بالتالي حجم المنشآت الطليعية باستمرار (تركز الرأسمال). قبل قرن، كانت المنشآت التي يعمل فيها 500 أجير استثناء. أمّا اليوم، فثمة منشآت يعمل فيها أكثر من 100 ألف أجير. وفي الوقت نفسه، يتم ابتلاع العديد من المنشآت المغلوبة في المزاحمة من قبل منافسيها الظافرين (تمركز الرأسمال).

 ب- تبلتر السكان العاملين التدريجي

يقتضي تمركز الرأسمال بأن يتقلص باستمرار عدد أرباب العمل الصغار العاملين لحسابهم الخاص. ولا ينفك قسم السكان العاملين المضطر إلى بيع قوة عمله للعيش يزداد. هي ذي الأرقام المتعلقة بهذا التطور في الولايات المتحدة، وهي تؤكد الميل بصورة ساطعة:

تطور البنية الطبقية في الولايات المتحدة

(بالنسبة المئوية من السكان العاملين)

 المقاولون والمستقلون  الأجراء  السنة 

36.9%  62%  1880 

33.8%  65%  1890 

30.8%  67.9%  1900 

26.3%  71.9%  1910 

23.5%  73.9%  1920 

20.3%  76.8%  1930 

18.8%  78.2%  1939 

17.1%  79.8%  1950 

14.0%  84.2%  1960 

8.9%  89.9%  1970 

 وخلافا لأسطورة شائعة، فإن هذا الجمهور البروليتاري، بالرغم من انقسامه إلى شرائح عديدة، تزداد درجة انسجامه ازديادا هاما بدل أن تتراجع. إن الفرق بين عامل يدوي ومستخدم في مصرف وموظف حكومي صغير هو أقل اليوم مما كان قبل نصف قرن أو قرن، سواء من حيث مستوى المعيشة أو من حيث النزوع إلى الانضمام إلى نقابة وإلى الإضراب أو من حيث احتمال بلوغ الوعي المعادي للرأسمالية.

إن تبلتر السكان التدريجي في النظام الرأسمالي ينجم بالأخص عن إعادة الإنتاج التلقائية لعلاقات الإنتاج الرأسمالية من جراء التوزيع البرجوازي للمداخيل، وهي إعادة إنتاج سبق أن ذكرناها أعلاه. فالأجور، منخفضة كانت أو مرتفعة، لا تستخدم إلاّ لتلبية حاجات البروليتاريين الاستهلاكية (سواء مباشرة أو مؤجلة). ويعجز البروليتاريون عن مراكمة ثروات. من جهة أخرى، يستتبع تركز الرأسمال تكاليف إنشاء أكثر فأكثر ارتفاعا تقطع الطريق إلى ملكية المنشآت الصناعية والتجارية الكبيرة ليس أمام مجموع الطبقة العاملة وحسب، بل أيضا أمام الغالبية العظمى من البرجوازية الصغيرة.

ج- ازدياد التركيب العضوي للرأسمال

يمكن تقسيم رأسمال كل رأسمالي، وبالتالي رأسمال جميع الرأسماليين، إلى قسمين. يكرس الأول لشراء آلات وأبنية ومواد أولية. وتبقى قيمته ثابتة خلال الإنتاج، حيث تحافظ عليها قوة العمل وتنقل جزءا منها إلى المنتجات التي تصنعها. يطلق ماركس على هذا القسم اسم الرأسمال الثابت. ويكرس القسم الثاني لشراء قوة العمل، أي لدفع الأجور. ويطلق ماركس عليه اسم الرأسمال المتغير. هذا القسم وحده ينتج فائض القيمة.

إن نسبة الرأسمال الثابت إلى الرأسمال المتغير هي في آن واحد نسبة تقنية -لاستعمال هذه الآلات أو تلك بصورة مربحة، يجب إعطاؤها هذه الكمية من المواد الأولية ويجب تخصيص هذا العدد من العمال والعاملات للعمل عليها- ونسبة بالقيمة: هذا القدر من الأجور منفق لشراء هذا العدد من العمال لتشغيل هذا العدد من الآلات التي كلفت هذا المبلغ، لتحويل مواد أولية بهذا السعر. يشير ماركس إلى هذه النسبة المزدوجة بين الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير بعبارة التركيب العضوي للرأسمال.

ومع تطور الرأسمالية الصناعية، تميل هذه النسبة إلى الازدياد. فإن كتلة متزايدة من المواد الأولية وعددا متزايدا (وأكثر فأكثر تعقيدا) من الآلات سوف يحركها عامل واحد (أو 10 أو 100 أو 1000). وسوف تقابل كتلة واحدة من الأجور قيمة تميل إلى الارتفاع أكثر فأكثر منفقة لشراء مواد أولية وآلات وطاقة وأبنية.

د- ميل المعدل الوسطي للربح إلى الانخفاض

هذا القانون يتبع بصورة منطقية القانون السابق. فإذا ازداد التركيب العضوي للرأسمال، نزع الربح إلى الانخفاض بالنسبة إلى الرأسمال الإجمالي بما أن الرأسمال المتغير وحده ينتج فائض القيمة، أي الربح.

إننا بصدد قانون ميلي وليس بصدد قانون يفرض نفسه بصورة «مستقيمة» مثل قانون تركز الرأسمال أو قانون تبلتر السكان العاملين. وبالفعل، فإن عوامل شتى تعاكس هذا الميل. أهم هذه العوامل هو ازدياد معدل استغلال الأجراء، ازدياد معدل فائض القيمة (نسبة الكتلة الإجمالية لفائض القيمة إلى الكتلة الإجمالية للأجور). بيد أنه لا بد من أن نلاحظ أن ازدياد معدل فائض القيمة لا يستطيع أن يبطل الانخفاض الميلي للمعدل الوسطي للربح بصورة ثابتة. فثمة حد لا يستطيع الأجر الواقعي ولا حتى الأجر النسبي أن يسقطا تحته بدون تهديد إنتاجية العمل الاجتماعية ومردود اليد العاملة، في حين ليس من حد لازدياد التركيب العضوي للرأسمال (فهو يستطيع أن يرتفع بلا حدود في المنشآت المؤلّلةautomatisées)

هـ- التحول الموضوعي للإنتاج إلى إنتاج اجتماعي

في بداية الإنتاج البضاعي، كانت كل منشأة خلية مستقلة عن الأخرى لا تقيم سوى علاقات عابرة مع مموّنين وزبائن. وكلما تطور النظام الرأسمالي، انعقدت روابط من الارتهان المتبادل الدائم، التقني والاجتماعي، بين منشآت وفروع من عدد متزايد من البلدان والقارات. فتنعكس أزمة في قطاع ما على جميع القطاعات الأخرى. هكذا تولد، للمرة الأولى منذ نشأة الجنس البشري، بنية تحتية اقتصادية مشتركة بين جميع البشر هي أساس تضامنهم في عالم الغد الشيوعي.

 


 

 4- تصدير الرساميل

 لا تستطيع الاحتكارات أن تسيطر على الأسواق الاحتكارية إلاّ شرط أن تحد من ازدياد الإنتاج فيها، وبالتالي تراكم الرأسمال. لكن هذه الاحتكارات ذاتها تحوز من جهة أخرى على رساميل وافرة، لا سيما بنتيجة الأرباح الفائضة الاحتكارية التي تحققها. إن عصر الرأسمالية الإمبريالي يتميز إذا بظاهرة الرساميل الفائضة في أيدي احتكارات البلدان الإمبريالية، وهي رساميل تبحث عن حقول جديدة للتوظيفات فيصبح تصدير الرساميل هو أيضا ميزة رئيسية للعصر الإمبريالي.

هذه الرساميل تصدر نحو بلدان يمكن أن تحقق فيها ربحا أعلى من الربح المتوسط في القطاعات المتزاحمة في البلدان الإمبريالية، لتحفز في تلك البلدان صناعات مكملة للصناعة الإمبريالية. ويجري استعمالها قبل كل شيء لتطوير إنتاج مواد أولية نباتية ومعدنية في البلدان المتخلفة (في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية).

طالما كانت الرأسمالية تعمل في السوق العالمية لبيع بضائعها وشراء مواد أولية ومؤن فحسب، لم يكن لديها مصلحة كبيرة في شق طريقها بالقوة العسكرية (بيد أن هذه القوة كانت تستعمل لهدم الحواجز أمام دخول البضائع -مثلا، حرب الأفيون التي خاضتها بريطانيا العظمى لتجبر الإمبراطورية الصينية على رفع الموانع التي أعاقت استيراد الأفيون القادم من الهند البريطانية). لكن هذا الوضع تغير عندما بدأ تصدير الرساميل يحتل مكانة مهيمنة في عمليات الرأسمال الدولية.

وفي حين يدفع ثمن بضاعة مباعة خلال بضعة أشهر كحد أقصى، لا يتم استهلاك رساميل موظفة في بلد ما سوى بعد سنوات طويلة. فتصبح بالتالي لدى القوى الإمبريالية مصلحة كبيرة في إقامة رقابة دائمة على البلدان التي وظفت فيها تلك الرساميل. ويمكن أن تكون هذه الرقابة غير مباشرة -من خلال حكومات عميلة للخارج لكنها في دول مستقلة شكليا- في البلدان شبه المستعمرة. كما يمكن أن تكون مباشرة - من خلال إدارة تابعة مباشرة للدول الإمبريالية- في البلدان المستعمرة. إن العصر الإمبريالي يتميز إذا بـ ميل إلى تقسيم العالم إلى إمبراطوريات استعمارية ومناطق نفوذ للدول الإمبريالية الكبرى.

لقد حصل هذا التقسيم في فترة معينة (خاصة في حقبة 1880-1900) وفقا لميزان القوى القائم في تلك الفترة: هيمنة بريطانيا العظمى، القوة الهامة للإمبرياليات الفرنسية والهولندية والبلجيكية، الضعف النسبي للدول الإمبريالية «الشابة»: ألمانيا، الولايات المتحدة، إيطاليا واليابان.

وسوف تجهد الدول الإمبريالية «الشابة» بواسطة سلسلة من الحروب الإمبريالية لتستعمل تبدل ميزان القوى من أجل تغيير هذا التقسيم للعالم لصالحها: الحرب الروسية-اليابانية، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية.

إنها حروب تخاض لأجل النهب، للحصول على حقول لتوظيف الرساميل ومصادر مواد أولية ومنافذ تصريف مميزة، وليست حروب من أجل «مثال» سياسي («مع الديموقراطية أو ضدها»، مع الاستبدادية أو ضدها، مع الفاشية أو ضدها) والملاحظة ذاتها تنطبق على حروب الفتح الاستعماري التي تتخلل العصر الإمبريالي (لا سيما، في القرن العشرين، حرب إيطاليا ضد تركيا والحرب الصينية-اليابانية وحرب إيطاليا ضد الحبشة) أو الحروب الاستعمارية ضد حركات تحرر الشعوب (حرب الجزائر، حرب فيتنام، الخ). التي يسعى فيها أحد الطرفين وراء النهب بينما يدافع الشعب المستعمَر أو شبه المستعمر عن قضية عادلة بسعيه وراء الإفلات من الاستعباد الإمبريالي.

 5-البلدان الإمبريالية والبلدان التابعة

 هكذا، فإن العصر الإمبريالي لا يشهد إقامة سيطرة لحفنة من كبار رجال المال والصناعة على الأمم الإمبريالية فحسب. بل يتميز أيضا بإقامة سيطرة للبرجوازية الإمبريالية في حفنة من البلدان على شعوب البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، التي تمثل ثلثي الجنس البشري.

وتستخرج البرجوازية الإمبريالية ثروات طائلة من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة. وتدر رساميلها الموظفة في هذه البلدان أرباحا فائضة استعمارية، يتم تصديرها من جديد إلى الدول الإمبريالية. إن التقسيم العالمي للعمل القائم على مبادلة منتجات الصناعة الإمبريالية بمواد أولية مستخرجة في المستعمرات، هذا التقسيم يؤدي إلى تبادل غير متساو، تبادل فيه البلدان الفقيرة كميات كبرى من العمل (لأنه عمل أقل كثافة) بكميات أدنى من العمل (لأنه عمل أكثر كثافة) تصدرها البلدان الإمبريالية. وتتمول الإدارة الاستعمارية بواسطة ضرائب تنتزعها من الشعوب المستعمرة، وتصدر جزءا هاما منها إلى الدولة الإمبريالية.

جميع هذه الموارد المستخرجة من البلدان التابعة تضيع بالنسبة لتمويل نموها الاقتصادي. هكذا فإن الإمبريالية أحد مصادر التخلف الرئيسية بالنسبة لجنوب الكرة الأرضية.

 


 8- نشأة الحركة العمالية الحديثة

 منذ أن وجد عمال مأجورون، أي قبل تكون الرأسمالية الحديثة بكثير، حصلت ظاهرات صراع طبقي بين أرباب العمل والعمال. فالصراع الطبقي ليس بنتاج نشاطات تحريضية من قبل أفراد «يدعون إليه». بالعكس، فإن مذهب الصراع الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي التي سبقته.

 1- الصراع الطبقي الأولي للبروليتاريا

 تتمحور التجليات الأولية لصراع الأجراء الطبقي حول مطالب ثلاثة على الدوام. هذه المطالب هي التالية:

أ. زيادة الأجور. وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج الاجتماعي بين أرباب العمل والعمال لصالح الأجراء.

ب. إنقاص ساعات العمل دون تخفيض الأجر، وهي وسيلة مباشرة أخرى لتعديل هذا التوزيع لصالح الشغيلة.

ج. حرية التنظيم. ففي حين يستحوذ رب العمل، مالك رأس المال ووسائل الإنتاج، على القوة الاقتصادية، يجد العمال أنفسهم منزوعي السلاح طالما هم يخوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل. ضمن هذه الشروط، تصب «قواعد اللعبة» في صالح الرأسماليين على وجه الحصر، الذين يستطيعون تخفيض مستوى الأجور قدر ما يشاءون، فيما يضطر العمال للقبول بها خشية فقدان عملهم، وبالتالي لقمة عيشهم.

ليس للشغيلة فرصة الحصول على منافع من خلال النضال الذي يواجهون به أرباب العمل، إلاّ عن طريق إلغاء هذه المنافسة التي تفرق بينهم، ورفضهم جميعا أن يعملوا ضمن شروط غير ممكن قبولها. إن التجربة تعلمهم سريعا أنه إن لم تكن لهم حرية التنظيم، كانوا منزوعي السلاح في مواجهة الضغط الرأسمالي.

لقد اتخذ الصراع الطبقي الأولي الذي يخوضه البروليتاريون طابعا تقليديا يتمثل بالرفض الجماعي للعمل، أي بالإضراب. وينقل لنا مدونو أخبار قصص إضرابات حدثت في مصر والصين القديمتين. لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت في مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لاسيما في القرن الأول من التاريخ الميلادي.

 2- الوعي الطبقي الأولي للبروليتاريا

 إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما -أولية- من التنظيم الطبقي. يتطلب على وجه الخصوص معرفة أن خلاص كل من الأجراء يتوقف على عمل جماعي، وهو حل قائم على التضامن الطبقي، بالتعارض مع الحل الفردي (المتمثل بمحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية الأجراء).

هذه المعرفة هي الشكل الأولى للوعي الطبقي البروليتاري. يضاف إلى ذلك أن المأجورين يتعلمون فطريا خلال تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة. يتم إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليلا من عدم استقرار الوجود العمالي، وللسماح للبروليتاريين بالدفاع عن أنفسهم خلال فترات البطالة، الخ. تلك هي الأشكال الأولية للتنظيم الطبقي.

إلاّ أن هذه الأشكال الأولية من الوعي والتنظيم الطبقيين لا تتطلب وعي الأهداف التاريخية للحركة العمالية، ولا فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة.

هكذا تجد الأشكال الأولى للعمل السياسي العمالي موقعها إلى أقصى يسار الراديكالية البرجوازية الصغيرة. إن مؤامرة المتساوين التي نظمها غراكوس بابوف [20]، والتي تمثل أول حركة سياسية حديثة تهدف إلى تجميع وسائل الإنتاج، ظهرت إبان الثورة الفرنسية إلى أقصى يسار اليعاقبة.

يهيئ لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية London Corresponding Society التي حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة الفرنسية. إلاّ أن القمع البوليسي تمكن من سحق المنظمة المذكورة. لكن نشأت على الفور، بعد نهاية الحروب النابوليونية، رابطة الاقتراع العام التي تشكلت في منطقة مانشستر-ليفربول الصناعية من عمال على وجه الخصوص، وكانت إلى أقصى يسار الحزب الراديكالي (البورجوازي الصغير). لقد تسارع بعد أحداث بيترلو الدامية في عام 1817 انفصال حركة عمالية مستقلة عن الحركة البورجوازية الصغيرة، ونشأ هكذا بعد قليل الحزب الشارطي أول حزب عمالي بصورة أساسية، يطالب بالاقتراع العام.

 3- الاشتراكية الطوباوية

 تلك الحركات الأولية للطبقة العاملة قادها كلها إلى حد بعيد عمال بالذات، أي عصاميونautodidactes كانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول موضوعات تاريخية واقتصادية واجتماعية، تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم معالجتها بعمق. تطورت تلك الحركات إذا على هامش التطور العلمي في القرنين 17 و18. على عكس ذلك، وفي إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود أوائل المفكرين الكبار الطوباويين من أمثال توماس مور (مستشار إنكلترا في القرن 16)، وكامبانيلا (كاتب إيطالي في القرن 17)، وروبيرت أوين، وشارل فورييه وسان سيمون (كتّاب في القرنين 18 و19). حاول هؤلاء الكتّاب أن يجمعوا كل معارف عصرهم العلمية ليقوموا بصياغة:

أ. نقد حاد للا مساواة الاجتماعية، لا سيما تلك التي تميز المجتمع البورجوازي (وهو ما يعني أوين وفورييه وسان سيمون)

ب. مخطط تنظيم مجتمع متساو، قائم على الملكية الجماعية.

بهدين الوجهين لعمل كبار الاشتراكيين الطوباويين، يشكل هؤلاء الرواد الحقيقيين للاشتراكية الحديثة. إلاّ أن ضعف نظامهم يكمن في:

أ. واقع أن المجتمع المثالي الذي يحلمون به (من هنا تعبير الاشتراكية الطوباوية) ينطرح كمثل أعلى مطلوب بناؤه وبلوغه دفعة واحدة عبر جهد للفهم يبذله الناس وإرادة حسنة، وذلك من دونما علاقة بالتطور التاريخي الذي يؤدي إليه المجتمع الرأسمالي بالذات إلى هذا الحد أو ذاك.

ب. واقع أن تفسيرات الظروف التي ظهرت خلالها اللا مساواة الاجتماعية والتي يمكن أن تختفي خلالها، هي تفسيرات ناقصة علميا وتقوم على عوامل ثانوية (العنف، الأخلاق، المال، علم النفس، الجهل، الخ)، ولا تنطلق من المشكلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، مشكلات التفاعل بين علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج.

 4- ولادة النظرية الماركسية -البيان الشيوعي

 في هذين الحقلين بالذات، نرى أن إرساء النظرية الماركسية في الأيديولوجية الألمانية (1845)، وخصوصا، في البيان الشيوعي (1847) الذي وضعه ماركس وإنجلز، إنما يشكل تقدما حاسما. فمع النظرية الماركسية، يتجسد الوعي الطبقي العمالي في نظرية علمية من المستوى الأرفع.

لم يكتشف ماركس وإنجلز مفهومي الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فهذان المفهومان كان يعرفهما الاشتراكيون الطوباويون وبورجوازيون آخرون من مثل المؤرخين الفرنسيين تييري وغيزو. بيد أنهما شرحا علميا أصل الطبقات، وأسباب تطور الطبقات، وواقع إمكان تفسير التاريخ الإنساني بكامله انطلاقا من مفهوم صراع الطبقات، وعلى وجه الخصوص الشروط المادية والمعنوية التي بموجبها يمكن لانقسام المجتمع إلى طبقات أن يخلي المجال لمجتمع اشتراكي خال من الطبقات.

لقد فسرا من جهة أخرى كيف أن تطور الرأسمالية بالذات يهيء لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية التي تضمن انتصار المجتمع الجديد. لا يعود هذا المجتمع يظهر مذاك كمجرد محصلة لأحلام الناس ورغباتهم، بل كالناتج المنطقي لتطور التاريخ البشري.

هكذا يمثل البيان الشيوعي شكلا أسمى من الوعي الطبقي البروليتاري. يعلّم الطبقة العاملة أن المجتمع الاشتراكي سوف يكون ناتج صراعها الطبقي ضد البورجوازية. إنه يعلمها ضرورة ألاّ تكتفي بالنضال من أجل زيادة الأجور، وأن تعمل بالتالي لإلغاء العمل المأجور. يعلمها على وجه الخصوص ضرورة تشكيل أحزاب عمالية مستقلة، وأن تستكمل عملها المتمثل بمطالب اقتصادية بعمل سياسي على الصعيدين القومي والأممي.

لقد ولدت الحركة العمالية الحديثة إذا من الاندماج بين الصراع الطبقي الأولي للطبقة العاملة والوعي الطبقي البروليتاري البالغ درجته العليا من التعبير المتجسدة في النظرية الماركسية.

 5- الأممية الأولى

 هذا الاندماج هو مآل كل تطور الحركة العمالية الأممية بين الخمسينات والثمانينات من القرن 19.

وخلال ثورات 1848 التي هزت أركان معظم بلدان أوروبا، لم تظهر الطبقة العاملة في أي مكان، ما عدا في ألمانيا (في جمعية الشيوعيين الصغيرة، التي كان يقودها ماركس) كحزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. كانت تسير في كل مكان في ذيل الراديكالية البورجوازية الصغيرة، إلاّ أنها انفصلت في فرنسا عن هذه الأخيرة إبان أيام يونيو الدامية عام 1848، دون أن تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت المجموعات الثورية التي شكلها أوغست بلانكي نواته إلى هذا الحد أو ذاك). واثر سنوات الردة الرجعية التي تلت هزيمة ثورة 1848، كانت المنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي التي تطورت قبل كل شيء في معظم البلدان، باستثناء ألمانيا، حيث سمح التحريض من أجل الاقتراع العام للاسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو الجمعية العامة للشغيلة الألمان.

لقد اندمج ماركس والمجموعة الصغيرة من نصرائه اندماجا حقيقيا مع الحركة العمالية الأولية في ذلك العصر بتأسيس الأممية الأولى عام 1864، وقد هيأوا بذلك تشكيل الأحزاب الاشتراكية في معظم بلدان أوروبا. ومن قبيل المفارقة البالغة أن الأحزاب التي اجتمعت لتشكيل الأممية الأولى لم تكن أحزابا عمالية. إن تشكيل هذه الأخيرة هو الذي سمح بالتجميع القومي لمجموعات محلية ونقابية انضمت إلى الأممية الأولى.

وحين تصدعت الأممية بعد هزيمة كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون بوعي ضرورة تجمع من هذا النوع على المستوى القومي. وخلال السبعينات والثمانينات، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة، تشكلت نهائيا أحزاب اشتراكية مستندة إلى الحركة العمالية الأولية في ذلك الزمن. وكانت الإستثناءات المهمة الوحيدة لهذه السيرورة هي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، فالأحزاب الاشتراكية التي تشكلت فيهما في ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة نقابية كانت قد أصبحت قوية. ولم يظهر حزب العمال المستند إلى النقابات في بريطانيا إلاّ في القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، ما يزال إنشاء حزب من هذا النوع هو المهمة الملحة للحركة العمالية.

 6-الأشكال المختلفة لتنظيم الحركة العمالية

 يسمح لنا هذا بأن نوضح أن النقابات وشركات التعاون mutualites والأحزاب الاشتراكية قد ظهرت تقريبا كالنواتج العفوية المحتومة للنضال داخل المجتمع الرأسمالي، وأن الأمر يتوقف في النهاية على عوامل متعلقة بالتراث والأحوال القومية إذا كان شكل ما يتطور قبل شكل آخر.

أمّا التعاونيات فليست الناتج العفوي للصراع الطبقي، بل ناتج المبادرة التي قام بها روبيرت أوين ورفاقه عام 1844 حين أسسوا أول تعاونية في روشدال في إنكلترا.

إن أهمية الحركة التعاونية لا تنكر، لا فقط لأنه يمكنها أن تكون مدرسة تسيير عمالي للاقتصاد بالنسبة للطبقة العاملة، بل خصوصا لأنها يمكن أن تهيئ داخل المجتمع الرأسمالي بالذات حل واحدة من المشكلات الأكثر صعوبة في المجتمع الاشتراكي، مشكلة التوزيع. بيد أنها تنطوي في الوقت ذاته على طاقة كامنة خطيرة من المنافسة الاقتصادية داخل النظام الرأسمالي مع مشاريع رأسمالية، وهي منافسة لا يمكن إلاّ أن تؤدي إلى نتائج مشؤومة بالنسبة إلى الطبقة العاملة وخصوصا إلى تخريب الوعي الطبقي البروليتاريا.

 7- كومونة باريس

 تلخص كومونة باريس كل الاتجاهات التي برزت في أصل الحركة العمالية الحديثة وفي أوائل تفتحها. لقد ولدت من الحركة العمالية الجماهيرية العفوية لا من خطة أو برنامج وضعهما حزب عمالي بصورة مسبقة، وبيّنت اتجاه الطبقة العاملة لتخفي الطور الاقتصادي الصرف من نضالها -إن الأصل المباشر للكومونة سياسي للغاية، وهو يتمثل في حذر عمال باريس تجاه البورجوازية المتهمة بنيتها تسليم المدينة للجيوش البروسية التي كانت تحاصرها- وذلك بالدمج المستمر للمطالب الاقتصادية والمطالب السياسية. حملت الطبقة العاملة للمرة الأولى على استلام السلطة السياسية، ولو على أرض مدينة واحدة. لقد عكست اتجاه الطبقة العاملة لتدمير جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الديموقراطية البورجوازية بديموقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الديموقراطية. بيّنت كذلك أنه من دون قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة التي تعبر عنها البروليتاريا في خضم معركة ثورية تظل غير كافية لضمان النصر.

*******

 9- إصلاحات وثورة

 إن ولادة الحركة العمالية الحديثة وتطورها داخل المجتمع الرأسمالي يقدمان لنا مثلا عن العمل المتبادل الذي يمارسه الواحد حيال الآخر، كل من الوسط الاجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس، بالاستقلال عن إرادتهم، والعمل الواعي إلى هذا الحد أو ذاك الذي يطورونه لتغيير هذا الوسط.

 1- التطور والثورة عبر التاريخ

 أن التغييرات على صعيد النظام الاجتماعي، التي حدثت عبر العصور، كانت على الدوام نتيجة تغيير مفاجئ وعنيف، بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه وتلك. ليس من دولة قائمة في أيامنا هذه إلاّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية، فلقد قامت الدولة الأمريكية على قاعدة ثورة 1776 وحرب 1861-1865 الأهلية، ونشأت الدولة البريطانية عن ثورة 1648 وثورة 1689، والدولة الفرنسية عن ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والدولة البلجيكية عن ثورة 1830. والدولة النيرلندية عن ثورة البلدان الواطئة في القرن 16، والدولة الألمانية عن حروب 1870-1871، و1914-1918 و1939-1945، وعن ثورات 1848 و1918 الخ..

إلاّ أنه من قبيل الخطأ الافتراض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيير البنية الاجتماعية حسب مشيئة المقاتلين. فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيير حقيقي في المجتمع وفي ظروف حياة الطبقات الكادحة، ينبغي أن يسبقها تطور يخلق داخل المجتمع القديم القواعد المادية (الاقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات الاجتماعية المتميزة ببعض السمات النوعية الخاصة بها) للمجتمع الجديد، إذ حين لا تتوفر تلك القواعد، تنتهي الثورات، مهما تكن عنيفة، إلى وضع تعيد معه إنتاج الظروف التي هدفت إلى إلغائها.

إن الانتفاضات الفلاحية الظافرة التي تتعاقب على امتداد التاريخ الصيني تقدم لنا المثال الكلاسيكي على هذا الواقع، فهي تمثل في كل مرة رد فعل الشعب ضد المظالم والأعباء الضريبية التي لا تطاق، التي كانت تلحق بالفلاحين في فترات انحطاط السلالات المتعاقبة التي حكمت الإمبراطورية السماوية. وقد كانت تؤدي تلك الانتفاضات إلى قلب سلالة ووصول أخرى إلى السلطة، منبثقة غالبا عن قادة الانتفاضة الفلاحية ذاتهم، كما كانت الحال مع سلالة الهانيين.

إن السلالة الجديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفلاحين. لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارتها، تزيد نفقات الدولة، وهو ما يستتبع زيادة الضرائب، فيشرع الماندرينيون [20]، الذين يدفع لهم في البداية صندوق الدولة، بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون لأنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب أراضي الفلاحين، ناهبين منها ريعا «عقاريا» يضاف إلى الضريبة.

هكذا تعقب عقودا من الحياة الفضلى عودة الفلاحين إلى مهاوي البؤس. إن انعدام حدوث «قفزة إلى الأمام» على صعيد قوى الإنتاج، وغياب تطور صناعة حديثة قائمة على استخدام الآلات، يفسران هذا الطابع الدوري للثورات الاجتماعية في الصين القديمة، واستحالة توصل الفلاحين إلى تحرر طويل الأمد.

 2-التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة

 لقد نجمت الرأسمالية المعاصرة هي الأخرى عن الثورات الاجتماعية والسياسية، ونعني بذلك الثورات البورجوازية الكبرى التي توالت بين القرنين 16 و18، والتي كانت في أساس قيام الدولة القومية. لقد مهد لهذه الثورات تطور سابق تمثل بنمو قوى الإنتاج داخل المجتمع الإقطاعي، تلك القوى التي غدت متعارضة مع استمرار القنانة والنقابات الحرفية والتضييقات المفرطة على التداول الحر للسلع.

لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية الحديثة التي تدربت على النضال السياسي في إطار كومونة القرون الوسطى، والمناوشات التي كانت تتم في ظل الملكية المطلقة، قبل الانطلاق في طريق الاستيلاء على السلطة السياسية.

إن المجتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من نموه بتطور يمهد حتما لثورة اجتماعية جديدة.

فعلى المستوى المادي، تنمو قوى الإنتاج إلى الحد الذي تصبح معه أكثر فأكثر تصادما مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. إن نمو الصناعة الكبيرة، وتركز الرأسمال وخلق التروستات، والتدخل المتزايد من جانب الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، تمهد الطريق أمام تشريك (التملك الجماعي) وسائل الإنتاج، وأمام تسييرها من جانب المنتجين المتشاركين بالذات، وفقا لخطة موضوعة مسبقا.

أمّا على الصعيد البشري (الاجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة تجمع شيئا فشيئا كل الميزات المطلوبة لتحقيق هذه الثورة الاجتماعية: «إن الرأسمالية تنتج مع البروليتاريا حفاري قبورها» هذه البروليتاريا المتركزة في مشاريع كبرى فاقدة أي أمل بالارتقاء الاجتماعي الفردي، تكتسب عبر نضالها الطبقي اليومي تلك الصفات الأساسية، المتمثلة بالتضامن الجماعي والتعاون والانضباط في العمل، التي تسمح بإعادة تنظيم أساسية لكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وكلما تفاقمت التناقضات الملازمة للرأسمالية كلما احتدم الصراع الطبقي، وكلما مهد تطور الرأسمالية طريق الثورة، كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية، الخ..) يمكن للبروليتاريا أن تعمل خلالها لانتزاع السلطة السياسية وإنجاز الثورة الاجتماعية.

 3- تطور الحركة العمالية الحديثة

 إلاّ أن تاريخ الرأسمالية وتاريخ الحركة العمالية لم يتبعا خطا واضحا ومستقيما بالقدر الذي كان يأمله الماركسيون حوالي عام 1880.

إن التناقضات الداخلية للاقتصاد والمجتمع في البلدان الإمبريالية لم تحتدم فورا. على العكس من ذلك، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة ما بين هزيمة كومونة باريس واندلاع الحرب العالمية الأولى مرحلة طويلة من الازدهار لقوى الإنتاج، بطيء تارة، ومتسارع طورا، غطى «النشاط التدميري» لتناقضات النظام الداخلية وطمسه.

تلك التناقضات انفجرت بعنف عام 1914، وقد كان بين علاماتها الأولى على وجه الخصوص ثورة 1905 الروسية والإضراب العام لشغيلة النمسا في العام ذاته. إلاّ أن التجربة المباشرة للشغيلة والحركة العمالية في تلك البلدان لم تكن تعكس تعمقا لتناقضات النظام، بل على العكس الاعتقاد بتطور تدريجي، سلمي إلى حد بعيد ولا رجعة فيه، للتقدم نحو الاشتراكية (لم يكن الأمر هو ذاته في أوروبا الشرقية، من هنا الوزن المحدود لتلك الأوهام في بلدانها المختلفة).

لا شك أن الأرباح الكولونيالية الفائضة التي راكمها الإمبرياليون سمحت لهم بتقديم إصلاحات لشغيلة البلدان الغربية. إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بالحسبان عوامل أخرى لفهم هذا التطور.

إن الهجرة الواسعة نحو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات الأوروبية وجهة سائر بلدان المعمور حدث على المدى الطويل من «ضخامة جيش الاحتياط الصناعي». لقد تحسنت هكذا موازين القوى بين رأس المال والعمل، في «سوق العمل»، لصالح الشغيلة، مما خلق قواعد لازدهار نقابية جماهيرية لا تقتصر على العمال المتخصصين وحدهم. لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس والإضرابات العنيفة في بلجيكا (1886-1893)، والصعود الذي لا يقاوم في الظاهر للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، كما عملت على تهدئة الجماهير المنتفضة عن طريق إصلاحات اجتماعية.

كانت النتيجة العملية للتطور المشار إليه حركة عمالية في الغرب تكتفي على الصعيد العملي بالنضال من أجل إصلاحات ممكنة التحقيق فورا: من مثل زيادة الأجور وتدعيم التشريع الاجتماعي وتوسيع الحريات الديموقراطية، الخ… كانت تلك الحركة تحول المعركة من أجل ثورة اجتماعية إلى حقل الدعاية الأدبية وتربية الكادرات. توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة الاشتراكية، معتقدة أنه تكفي تقوية المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا لكي تلعب هذه القوة العملاقة آليا، «ما أن تحل ساعة الحسم»، دورا ثوريا.

 4- الانتهازية الإصلاحية

 لم تكتف الأحزاب والنقابات الجماهيرية في أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا مؤقتا لصراعات طبقية محصورة بمعظمها في حقل الاصلاحات، لقد أصبحت بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف الحركة العمالية الجماهيرية مع الرأسمالية «المزدهرة» للبلدان الإمبريالية. أهملت الانتهازية الاشتراكية-الديموقراطية عملية إعداد الشغيلة للتغيرات المفاجئة في المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي كانت تعلن عن نفسها، وأصبحت هكذا عاملا مهما سهل استمرار الرأسمالية على قيد الحياة في خضم سنوات 1914-1923.

تجلت الانتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها رسميا إدوارد برنشتاين («الحركة كل شيء، الهدف لا شيء») الذي كان يطلب من الاشتراكية-الديموقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى إحداث إصلاحات في صلب النظام. أمّا «الحركة الماركسية الوسطية» المتمحورة حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة المراجعة، إلاّ أنها قدمت لها في الوقت ذاته العديد من التنازلات، لاسيما عن طريق تبرير ممارسة للأحزاب والنقابات كانت تقترب أكثر فأكثر من النزعة المراجعة.

لقد تجلت الانتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف الانتخابي مع أحزاب بورجوازية «ليبرالية»، وبالقبول التدريجي للمشاركة الوزارية في حكومات تحالف مع البورجوازية، وبانعدام نضال منسجم ضد الاستعمار وتجليات أخرى للإمبريالية. إذا كانت هذه الانتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة 1905 في روسيا، فقد تجلت على وجه الخصوص في ألمانيا برفض الموافقة على اقتراح روزا لوكسمبورغ تفجير إضرابات جماهيرية لأهداف سياسية. كانت تعكس في الواقع المصالح الخاصة بجهاز بيروقراطي إصلاحي (نواب اشتراكيون ديموقراطيون، وموظفون في الحزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفيرة داخل المجتمع البورجوازي).

ويدل هذا المثال على أن اكتساح الانتهازية الإصلاحية للحركة العمالية لم يكن أمرا محتوما. لقد كان بالإمكان القيام بنشاطات غير برلمانية وبإضرابات أكثر فأكثر اتساعا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكان بإمكان تلك النشاطات أن تعد الجماهير العمالية للمهام التي طرحها الصعود الثوري عند نهاية تلك الحرب.

 


 

 10/ الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية

 1- الحرية الاقتصادية والحرية السياسية

 إن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية مفهومان متساويات في نظر الكثيرين ممن لا يفكرون بهذه المسألة، وهو ما تؤكده العقيدة الليبرالية على وجه الخصوص، هذه العقيدة التي تزعم اليوم اصطفافها «بجانب الحرية» في جميع الحقول، وبالطريقة ذاتها.

إلاّ أنه إذا أمكن تحديد الحرية السياسية بسهولة، بحيث لا تستتبع حرية البعض استعباد الغير، فليس الأمر هو ذاته بالنسبة للحرية الاقتصادية. إن لحظة من التفكير تبرهن أن معظم مظاهر هذه «الحرية الاقتصادية» تستتبع اللا مساواة على وجه التحديد، وحرمان جزء كبير من المجتمع من إمكانية الاستمتاع بهذه الحرية بالذات.

إن حرية شراء عبيد وبيعهم تفترض أن يكون المجتمع منقسما إلى مجموعتين: مجموعة العبيد ومجموعة أسياد العبيد، وتفترض حرية تملك وسائل الإنتاج الكبرى تملكا شخصيا وجود طبقة اجتماعية مضطرة لبيع قوة عملها، إذ ما الذي يمكن أن يفعله مالك مصنع كبير لو لم يكن أحد مضطرا للعمل لحساب الغير؟

لقد دافع بورجوازيو عصر صعود الرأسمالية المنسجمون مع أنفسهم عن مبدأ حرية تشغيل الأطفال في سن العشر سنوات بالأعمال المنجمية، وحرية إجبار الشغيلة على الكد ما بين 12 و14 ساعة في اليوم، إلاّ أنهم حظروا بشدة حرية واحدة، هي حرية تجمع الشغيلة التي منعها في فرنسا قانون لوشابلييه الذي تم تبنيه في أوج الثورة الفرنسية، بحجة تحظير كل التكتلات من أصل حرفي [20].

تختفي هذه التناقضات الظاهرة في الأيديولوجية البورجوازية منذ يعاد تنظيم كامل تلك المواقف حول موضوعة مركزية واحدة، تتمثل بالدفاع عن الملكية والمصلحة الطبقية الرأسماليتين. تلك هي قاعدة الأيديولوجية البورجوازية بمجملها، لا مجرد دفاع حازم عن «مبدأ» الحرية.

يظهر هذا بوضوح أكبر في تاريخ حق التصويت، فالبرلمانية الحديثة نشأت كتعبير عن حق البورجوازية في فرض رقابتها على النفقات العامة التي تمولها الضرائب التي تتولى هي دفعها. لقد أعلنت إبان ثورة 1649 الإنكليزية أن «لا ضرائب دون تمثيل» (برلماني) [21]، واستتبع ذلك منطقيا إنكار حق الطبقات الشعبية، التي لا تدفع ضرائب، بأن تدلي بأصواتها. الا يجد ممثلوها «الديماغوجيون» أنفسهم مدفوعين للتصويت «باستمرار» لصالح نفقات جديدة، طالما يتولى دفعها آخرون؟

مجددا نقول أن ما يوجد في أساس الأيديولوجية البورجوازية ليس مبدأ مساواة كل المواطنين في الحقوق (إن حق التصويت الذي يتمتع به دافعو الضرائب يدوس هذا المبدأ بالكثير من الوقاحة) ولا مبدأ الحرية السياسية المضمونة للجميع، بل مبدأ الدفاع عن الخزانات المالية وكبار المتمولين!

 2- الدولة البرجوازية في خدمة مصالح رأس المال الطبقية

 هكذا لم يكن صعبا إبان القرن 19 التوجه إلى الشغيلة بشرح مفاده أن الدولة البرجوازية لم تكن يوما «حيادية» في الصراع الطبقي، ولم تكن «حكما» بين رأس المال والعمل، وهي المكلفة بالدفاع عن «المصلحة العامة»، لا بل أنها مثلت أداة للدفاع عن مصالح رأس المال في وجه مصالح العمل.

لقد كان حق التصويت موقوفا على البرجوازية وحدها، ولها وحدها الحق المطلق لرفض تشغيل الشغيلة. وما أن أضرب العمال ورفضوا بمجموعهم بيع قوة عملهم بالشروط التي يمليها رأس المال، حتى ووجهوا برجال الدرك أوالجيش الذين أطلقوا عليهم النار. لقد كانت العدالة عدالة طبقية بما لا يقبل الشك، فالبرلمانيون والقضاء وكبار الضباط وكبار الموظفين الاستعماريين والوزراء والمطارنة كانوا ينتمون جميعا إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها، وكانوا يرتبطون فيما بينهم جميعا بالروابط ذاتها، عنينا روابط المال والمصلحة، لا بل العائلة. أما الطبقة العاملة فكانت مستبعدة كليا عن هذا العالم الجميل!

تعدل هذا الوضع بدءا من اللحظة التي انطلقت فيها الحركة العمالية الحديثة، واكتسبت قوة تنظيمية مرهونة، وانتزعت حق التصويت العام عن طريق نضالات مباشرة فرضت نفسها (إضرابات سياسية في بلجيكا والنمسا والسويد وهولندا وإيطاليا، الخ.). أصبح للطبقة العاملة تمثيل واسع في البرلمان (وهي وجدت نفسها مجبرة بذلك على أن تدفع حصة أكبر من الضرائب، إلاّ أن هذه قصة أخرى). ثمة أحزاب عمالية إصلاحية تشارك في حكومات تحالف مع البرجوازية، إلاّ أنها بدأت تشكل أحيانا حكومات مؤلفة من ممثلين لأحزاب اشتراكية-ديموقراطية على وجه الحصر (بريطانيا، سكاندينافيا).

مذ ذاك أصبح وهم قيام دولة «ديموقراطية» فوق الطبقات تكون «حكما» حقيقيا و«مصالحا» للتعارضات الطبقية، أمرا مقبولا بشكل أسهل داخل الطبقة العاملة، وأنها لإحدى الوظائف الأساسية للنزعة الإصلاحية المراجعة أن تنشر تلك الأوهام بصورة واسعة. لقد كان ذلك حكرا على الاشتراكية-الديموقراطية في الماضي، إلا أنّ الأحزاب الشيوعية المنخرطة في طريق إصلاحي جديد تنشر اليوم النوع ذاته من الأوهام.

إلاّ أن الطبيعة الحقيقية للدولة البرجوازية، حتى الأكثر «ديموقراطية» تظهر للعيان حالا إذا تفحصنا في الوقت ذاته مسارها العملي والشروط المادية لهذا المسار.

إنه لنموذجي أنه كلما انتزعت الجماهير الكادحة حق الاقتراع العام ودخل الممثلون العماليون إلى البرلمان بقوة كلما انتقل مركز ثقل الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية من البرلمان إلى جهاز الدولة البرجوازي الدائم: «الوزراء يأتون ويمضون، أمّا الشرطة فتبقى».

والحال أن جهاز الدولة هذا يفرز توحدا كاملا مع البرجوازيتين الوسطى والكبرى، بالطريقة التي يتم بها اختيار قياداته، وبتلك التي ينظم تسلسله وفقا لها، وبقواعد الاختيار والمهنة التي تحكمه. ثمة وشائج أيديولوجية واجتماعية واقتصادية لا تنفصم تشد هذا الجهاز إلى الطبقة البرجوازية، فكل الموظفين الكبار يقبضون معاشات تسمح لهم بمراكمة خاصة لرأس المال لا بأس بها، ولو كانت متواضعة أحيانا، وهو ما يحفز هؤلاء الأشخاص بالذات، على الصعيد الفردي، للدفاع عن الملكية الخاصة، ويثير اهتمامهم بسير الاقتصاد الرأسمالي سيرا حسنا.

يضاف إلى ذلك أن الدولة القائمة على البرلمانية البرجوازية تنشد كليا إلى رأس المال بواسطة السلاسل الذهبية للتبعية المالية والدين العام. ولا يمكن لأي حكومة برجوازية أن تحكم دون اللجوء باستمرار إلى التسليف الذي تشرف عليه المصاريف ورأس المال المالي والبرجوازية الكبرى. إن أي سياسة معادية للرأسمالية تكتفي حكومة إصلاحية برسم خطوطها العريضة تصطدم فورا بالتخريب المالي والاقتصادي من جانب الرأسماليين. فـ«إضراب التثميرات»، وهرب الرساميل، والتضخم، والسوق السوداء، وهبوط الإنتاج، والبطالة، تنجم جميعها عن هذا الرد في مهلة زمنية قصيرة جدا.

إن تاريخ القرن العشرين بمجمله يؤكد استحالة استخدام البرلمان البرجوازي والحكومة المرتكزين إلى الملكية الرأسمالية والدولة البرجوازية استخداما منطقيا في وجه البرجوازية. فكل سياسة تود أن تتبع عمليا طريقا مناهضة للرأسمالية تصطدم سريعا بخيار مصيري: أمّا الاستسلام لقدرة رأس المال تحت تأثير الابتزاز والتهويل، أو تحطيم جهاز الدولة البرجوازية وإحلال التملك الجماعي لوسائل الإنتاج محل علاقات الملكية الرأسمالية.

 3- حدود الحريات الديموقراطية البورجوازية

 ليس صدفة أن تكون الحركة العمالية في طليعة النضال من أجل الحريات الديموقراطية في القرنين 19 و20. فالحركة العمالية إذ تدافع عن الحريات تدافع في الوقت ذاته عن أفضل شروط ارتقائها، والطبقة العاملة هي الطبقة الأكبر عددا في المجتمع المعاصر. إن اكتساب الحريات الديموقراطية يسمح لها بأن تنظم نفسها وتضمن إلى جانبها العدد الأكبر من الناس، وترجح كفتها أكثر فأكثر في موازين القوى.

زد على ذلك أن الحريات الديموقراطية التي ثم انتزاعها في ظل النظام الرأسمالي تمثل المدرسة الفضلى للديموقراطية الجوهرية التي سوف يستمتع بها الشغيلة لاحقا، بعد إطاحة مملكة رأس المال.

يتكلم تروتسكي، وهو محق، على «خلايا الديموقراطية البروليتارية داخل الديموقراطية البرجوازية» التي تمثلها التنظيمات الجماهيرية للطبقة العاملة، وقدرة الشغيلة على عقد مؤتمراتهم وتسيير مواكبهم وتنظيم إضرابات ومظاهرات جماهيرية وامتلاكهم صحافتهم ومدارسهم ومسارحهم وصالاتهم السينمائية، الخ.

ولكن تهم معرفة حدود الديموقراطية البرلمانية البرجوازية مهما تكن متقدمة، لأن الحريات الديموقراطية تكتسب بالضبط أهمية جوهرية في نظر الشغيلة.

فالديموقراطية البرلمانية البرجوازية هي ديموقراطية غير مباشرة قبل كل شيء، يعد بالآلاف من الوكلاء فقط، أو بعشرات الآلاف (نوابا وشيوخا ومختارين وعمدا وأعضاء مجالس البلديات أو مجالس عامة، الخ) من يشاركون في ظلها بإدارة الدولة، بينما تحرم من تلك المشاركة أكثرية المواطنين الساحقة، التي تكمن سلطتها الوحيدة في وضع بطاقة الاقتراع في صندوق كل أربع سنوات أو خمس.

ثم إن المساواة السياسية في ديموقراطية برلمانية برجوازية هي مساواة شكلية لا أكثر، وليست مساواة حقيقية. فمن حيث الشكل، يتمتع الغني والفقير «بالحق» ذاته، «حق» تأسيس جريدة يكلف إصدارها مئات الملايين من الفرنكات، ومن حيث الشكل يتمتع الغني والفقير بـ«الحق» ذاته، حق شراء فترة ظهور على شاشة التلفزيون، وبـ«القدرة» ذاتها في التأثير على الناخبين. إلاّ أنه لما كانت الممارسة العملية لتلك الحقوق تفترض مسبقا تحريك وسائل مادية ذات شأن فليس لغير الغني وحسب أن يتمتع بها كليا. سوف ينجح الرأسمالي في التأثير على عدد كبير من الناخبين الذين يرتبطون به ماديا، وفي شراء صحف ومحطات إذاعة أو فترات بث تلفزيوني، بفضل إمكاناته المالية. سوف «يقبض على ناصية» برلمانيين وحكومات بقوة رأسماله.

حتى لو طرحنا جانبا في نهاية المطاف كل هذه الحدود التي تقف عندها الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، ولو افترضنا خاطئين أنه لا ينقصها شيء، يبقى أنها ليست أكثر من ديموقراطية سياسية. لكن ما نفع مساواة سياسية بين الغني والفقير -وهي مساواة لا علاقة لها بالواقع- إذا كانت تتطابق في الوقت ذاته مع لامساواة اقتصادية واجتماعية عظيمة، لا تنفك تتعاظم، وذلك منذ أكثر من نصف قرن، لا بل منذ أكثر من قرن؟ حتى لو كان الأغنياء والفقراء يتمتعون بالحقوق السياسية ذاتها، فالأولون يحتفظون مع ذلك بسلطة اقتصادية واجتماعية عظيمة لا يمتلكها الأخيرون، سلطة تخضع الأخيرين للأولين حتما في الحياة اليومية.

 4- القمع والديكتاتوريات البرجوازية

 إن الطبيعة الطبقية للدولة المرتكزة إلى الديموقراطية البرلمانية البرجوازية تبدو واضحة تماما حين نتفحص دورها القمعي. فنحن نعرف ما لا يحصى من النزاعات الاجتماعية التي تدخل فيها رجال الشرطة والدرك والجيش بغية «تحطيم» فرق إضراب، وتفريق مظاهرات عمالية، وإخلاء معامل يحتلها الشغيلة وإطلاق النار على المضربين، بينما لا نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة والدرك أو جيش البرجوازية لتوقيف أرباب عمل يصرفون عمالا، أو لمساعدة شغيلة على احتلال معامل أغلقها رأس المال، أو لإطلاق النار على برجوازيين ينظمون غلاء المعيشة أو هرب الرساميل أو الغش الضريبي.

سوف يرد المدافعون عن الديموقراطية البرجوازية بأن العمال أنتهكوا حرمة «القانون» في كل الحالات آنفة الذكر، وأنهم كانوا يهددون «النظام العام» الذي يفترض بقوى القمع أن تدافع عنه. أمّا نحن فنجيب بأن ذلك يؤكد تماما أن «القانون» ليس حياديا على الإطلاق، بل هو قانون برجوازي يحمي الملكية الرأسمالية، وأن قوى القمع في خدمة تلك الملكية، لذا فهي تتصرف بصورة مختلفة جدا حسبما يكون العمال، أو الرأسماليون هم الذين يقترفون انتهاكات شكلية بحق «القانون»، وأنه لا شيء يثبت بأفضل من ذلك الطابع البرجوازي قبل كل شيء الذي تتسم به الدولة.

لا تلعب أجهزة القمع في الظروف العادية أكثر من دور هامشي في الحفاظ على النظام الرأسمالي، لا سيما أن هذا النظام يحظى باحترام فعلي، في الحياة اليومية، من جانب الغالبية العظمى للطبقات الكادحة. إلاّ أن الأمر يختلف كليا في فترات الأزمات الحادة (أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو مالية)، حين يكون النظام الرأسمالي عرضة لهزات عميقة، وحين تبدي الطبقات الكادحة إرادتها في إسقاط النظام، أو حين لا يعود هذا الأخير قادرا على العمل بشكل طبيعي.

إذ ذاك يتصدر القمع المسرح السياسي، وتظهر الطبيعة الأساسية للدولة البرجوازية فجأة بكل عريها: مجموعة من الناس المسلحين في خدمة رأس المال. هكذا تتأكد قاعدة أكثر عمومية في تاريخ المجتمعات الطبقية: فكلما كان هذا المجتمع أكثر استقرارا كلما أمكنه منح حريات شكلية متنوعة للمضطهدين، وكلما كان عديم الاستقرار تهزه أزمات عميقة كلما كان عليه أن يمارس السلطة السياسية عن طريق العنف الصريح.

هكذا نلاحظ أن تاريخ القرنين 19 و20 هو تاريخ العديد من تجارب القمع، تمارسها الديكتاتوريات البرجوازية ضد الحريات الديموقراطية للشغيلة، سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو بونابرتية أو فاشية، إلاّ أنّ الديكتاتورية الفاشية هي الشكل الأكثر شراسة وهمجية للديكتاتورية الموضوعة في خدمة رأس المال الكبير.

تتميز هذه الديكتاتورية على وجه الخصوص بكونها لا تكتفي بإلغاء الحريات المتعلقة بالمنظمات الثورية أو الراديكالية للطبقة العاملة، بل تسعى كذلك إلى تحطيم كل شكل من أشكال التنظيم الجماعي لدى الشغيلة، ومن أشكال مقاومتهم، بما فيها النقابات وأشكال الإضرابات الأكثر بدائية. إنها تتميز كذلك بواقع أن محاولة تذرير الطبقة العاملة لا يمكن أن تحضى بالفعالية عن طريق الاستناد فقط إلى جهاز القمع التقليدي (الجيش والدرك والشرطة والقضاة)، بل هي تحتاج إلى عصابات مسلحة خاصة تنبثق هي الأخرى عن حركة جماهيرية، هي حركة البرجوازية الصغيرة المفقرة، التي أيأستها الأزمة والتضخم، والتي لم تفلح الحركة العمالية في جرها إلى خندقها عبر سياسة هجوم جريئة في مواجهة رأس المال.

ولا يمكن للطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تكونا حياديتين إزاء صعود الفاشية، بل عليهما أن تستميتا في الدفاع عن حرياتهما الديموقراطية. لذا عليهما أن تشكلا جبهة موحدة تضم كل المنظمات العمالية، بما فيها أكثرها إصلاحية واعتدالا، من أجل مواجهة صعود الفاشية وسحق الوحش الشرير وهو ما يزال في البيضة. عليهما أن يخلقا وحداتهما للدفاع الذاتي في وجه عصابات رأس المال المسلحة، وإلاّ يثقا بحماية الدولة البرجوازية. إن الطريق من أجل الحؤول دون الهمجية الفاشية المؤدية إلى معسكرات الاعتقال والمذابح وعمليات التعديب، من بوشنفالد إلى أوشويتز، إنما تكمن في بناء المليشيات العمالية المستندة إلى جماهير الشغيلة، بحيث تضم كل المنظمات العمالية وتمنع أي محاولة فاشية لإرهاب قطاع من القطاعات الجماهيرية أو لكسر إضراب واحد، أو لـ«تخريب» ندوة واحدة لمنظمة عمالية. إن أي نجاح على هذا الطريق يسمح للجماهير الكادحة بالانتقال بجزم إلى الهجوم المضاد وإلى الإجهاز على الخطر الفاشي، وفي الوقت ذاته على النظام الرأسمالي الذي أطلقه وغذاه.

 5- الديموقراطية البروليتارية

 إن الدولة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية البروليتارية التي يريد الماركسيون أن يحلوها محل الدولة البرجوازية التي تظل في المحصلة النهائية ديكتاتورية البرجوازية حتى وهي تتلبس الشكل الأكثر ديموقراطية، إنما تتميز بتوسيع الحريات الديموقراطية الفعلية لجمهور المواطنين الكادحين لا بالحد منها. لا بد من التذكير بشدة بهذا المبدأ الأساسي، لاسيما بعد التجربة المريعة للستالينية التي دمرت مصداقية الإيمان الديموقراطية التي أقسمتها الأحزاب الشيوعية الرسمية.

سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدول المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما سوف توسع من مساحة الديموقراطية المباشرة. سوف تكون دولة تشرع بالزوال منذ ولادتها، عن طريق تسليم ميادين كاملة من النشاط الاجتماعي إلى التسيير الذاتي والإدارة الذاتية للمواطنين المعنيين (البريد والمواصلات السلكية والصحة والتعليم والثقافة، الخ)، وتشرك جمهور الشغيلة المنظمين في مجالس عمالية في ممارسة السلطة مباشرة، عن طريق إلغاء الحدود الوهمية بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. كما سوف تلغي الاحتراف من الحياة العامة عبر الحد من أجور الموظفين، بمن فيهم من هم في أعلى المناصب، حيث لا تزيد عن أجرة العامل المتخصص المتوسط، وتعيق تشكيل فئة مغلقة جديدة من المدراء -مدى- الحياة عبر إدخال مبدأ التناوب الإلزامي إلى كل انتداب للسلطة.

سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما ستخلق القواعد المادية لممارسة الجميع للحريات الديموقراطية. تصبح المطابع ومحطات الإذاعة والتلفزيون وقاعات الاجتماع ملكية جماعية وتوضع تحت التصرف الفعلي لكل مجموعة من الشغيلة تطلبها. إن حق خلق العديد من المنظمات السياسية، بما فيها المنظمات المعارضة، وخلق صحافة معارضة، والسماح للأقليات السياسية بالتعبير عن آرائها عبر الصحافة والاداعة والتلفزيون، هذا الحق سوف تدافع عنه المجالس العمالية دفاع المستميت. أمّا التسليح العام للجماهير الكادحة وإلغاء الجيش الدائم وأجهزة القمع، وانتخاب القضاة، والعلنية التامة لكل المحاكمات، فسوف تكون الضمانة الأقوى للحيلولة دون تمكن أي أقلية من ادعاء حق استبعاد أي مجموعة من المواطنين الكادحين من ممارسة الحريات الديموقراطية.

*******

 

 

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.