اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• الإسلام وحقوق المرأة - الصفحة 2

 وجد استعمال الرقيق والموالي عند قلة من الأغنياء في يثرب من صوافي سادة البطون والقبائل، أما على صعيد ملكية الأرض، فقد انقسمت المدينة إلى مناطق زراعية (ربعيات أرض) وكانت كل منطقة منها تابعة لبطن من البطون.  يشرف على زراعتها وتسويق محصولها وتنظيم علاقات أبنائها. ولا توجد دلائل على وجود ملكية فردية خاصة. وقد شملت أشكال العمل الزراعي أنماطا انتقالية من العمل الاستعمالي المباشر، العمل المأجور والعمل العبودي.

 

أما الحرفة، فكان هناك الحرفة المنزلية الاستعمالية والحرفة المعدة للمقايضة أو السوق. فمن الحرف المنزلية عرفت يثرب طحن الحبوب والخبز (من اختصاص النساء) وكان الغزل حرفة منزلية نسائية، والنسيج حرفة مارستها نساء اليهود والعرب وصناعة الخمر حرفة منزلية وتبادلية سوقية دون تخصص. وكانت النساء المعالجات والمولدات يعملن بالمقايضة أو النقد أو العطايا.

 

أما الحرف التي خرجت من الأطر الاستعمالية إلى السوق فلعل أكثرها أهمية حرف الأحجار الثمينة والسلاح وأدوات الإنتاج الزراعي، بتعبير آخر الصياغة والحدادة، وقد احتكر الأساسي فيهما بنو قينقاع. ولم تكن بيوت الطين وآطام اليهود (53 بمجموعها) والعرب (13 بمجموعها) لتبرز حرفة البناء كحرفة متخصصة. ووجد العطارون في يثرب يعملون ويبيعون  إنتاجهم.

 

ومن المجحف أن ننسى تسعة  أعلام لصاحبات الرايات من الإماء يكرين أنفسهن في حرفة البغاء، نقدا أو عينا (ببرد أو نسجة أو طعام) مكرهات من أصحابهن أو طائعات في سوق البغاء وفق المعاملة والتراضي.

 

ويبدو جدل العلاقة بين إنتاج الإنسان وإنتاج وسائل الحياة واضحا، في ذاك التداخل في وحدة المصلحة على أساس قربى الدم في جملة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في الولاء الداخلي والتضامن والعصبية القبلية، فيما يشمل تنظيم علاقات الجوار والتحالف والتصاهر، وفي الصيغ التعاونية للعمل (السقي مثلا)، الحماية المشتركة للأرض، حماية الجماعة للفرد وتحملها مسؤولية الضمان الاجتماعي، كفالة الأطفال القائمة على القرابة عند وفاة الأب، ربط قواعد الإرث والديات بتركيب العصبات في جماعة القربى.

 

أما ما يمس علاقات الجنسين، فقد كان للمرأة وجود ومشاركة في نشاطات اجتماعية واقتصادية عامة كعملها في الزرع والبيع خارج المنزل وأيضا عدم الانفصال التام للعمل المنزلي كخدمة خاصة. ومن مظاهر هذا التواجد الاعتبارية في منظومة القيم أن أهل يثرب كانوا يقولون أبو فلانة كما يقولون أبو فلان، فكيفما كان البكر ذكرا أو أنثى نسب الأهل إليه. وفي أغلب الروايات أن المرأة كانت تنال اشتراط الطلاق على زوجها، وثمة تعدد للأزواج في حياة نساء يثرب ضمن سهولة فك عقد الزواج الأبوي وعدم صعوبة معاودة الزواج للأرامل، وليس من المألوف تعدد الزوجات في الوقت نفسه وخاصة فوق اثنتين. من جهة أخرى، اعتبرت ممارسة الجنس للرجال مع الإماء مسألة مشروعة لا تشكل أي حرج يستلزم عقوبة أو تبعات اجتماعية. أما الجنس خارج الزواج مع الحرائر (محصنات أم عازبات) فقد كان التعزيز معروفا بحقه عند اليهود خاصة والحجر في المنازل(6).

 

إن هذا الخلاف بين مدينتين في الحجاز، وبهذا الشكل الواضح، يجعل من الضروري رفض كل التصورات العامة التي تقوم على تقديم الجزيرة العربية كوحدة متجانسة ومتشابهة. وإن كان من خصائص للعرب في الإسلام فمن أهمها توحيد اللهجات بهيمنة اللهجة الشمالية والمكية، توحيد المعتقدات بأسلمة ماهو موجود وضرب كل ما يتعارض بقوة مع الدين الجديد، و"توحيد" قوانين الأسرة في الجزيرة بعد أن فشل تشابه التركيب القبلي في هذا التوحيد لتفاوت أنماط المعيشة والمعتقدات واختلاف المنظومة السياسية-الاجتماعية السائدة.

 

مقدمات التصور الإسلامي حول الجنسين

 

نشأ محمد بن عبد الله في مكة، يتيما، صادقا أمينا، يرعى للناس مواشيهم بالقراريط. ثم دخل معترك الحياة في الخامسة والعشرين، قرشيا وزوجا لتاجرة يجلها القوم وعاملا لها بتجارتها. فخديجة بنت خويلد، كما هو حال عاتكة بن مرة زوجة عبد مناف، كانت ممن استثنتهن الثروة والمنزلة القبلية بشئ من رحمتهما. وعرف عنها غنى المال والنفس والعلم، وكانت تكبر النبي بخمسة عشر عاما.

 

لعل من أكثر المراحل غموضا في حياة النبي محمد هي تلك الفاصلة بين سن الخامسة والعشرين والأربعين، حيث جموع حوادث هنا وهناك هي كل ما يذكره التاريخ الإسلامي المكتوب عن هذه السنوات، التي لم يكن فيها النبي محمد من التوحيديين (الحنفية حسب أهل الأخبار) المنادين بإله الغيب إله السماء مثل قس بن ساعدة الأيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل(7) وإن كان يشاركهم الاختلاء إلى شعاب مكة.ولم يكن من البارزين في الحياة العامة، باستثناء حوادث متناثرة هنا وهناك، تتحدث عن وصوله إلى جرش وبصرى والقدس ولقائه الراهب بحيرة. حتى لحظة "النبوة" في الأربعين:

 

اقرأ باسم ربك  الذي خلق..؟

 

محمد لا يدعو إلى الله الواحد، ككل من دعا، بل إلى كلام الله مباشرة، لا يدعو إلى الإصلاح بل إلى إعلان بشرى دين جديد. وهو يؤسس لهذا الدين عبر التأكيد على فكرة التوحيد، بغسلها من شوائب الله الذي يتعب ويأكل عند اليهود، والمتجسد بشرا في المسيحية. يؤكد على قيم عامة للعدل والإيمان عبر قصص الأنبياء والأولين.

 

هناك نقطتان مركزيتان تغيبان عن نشأة التصور الإسلامي وعلاقته بالنظرة إلى الجنسين عن كتاب "المرأة في الإسلام" بسبب هيمنة الكتب السلفية ومن ثم الأصولية على قراءاتنا: الأولى تتعلق بالمفهوم الديني القائم على خلافة الإنسان، كل إنسان، لله على الأرض وتكريمه رغم كل القسوة  في وصف الإنسان كلما تكرر في القرآن. وقد نبهت لها في دراسات نشرتها عن المرأة في 1985 و 1986. والثانية نبهتني لها قراءة كتاب منصور فهمي وقد تناولها بإسهاب حسين العودات في كتابه "المرأة العربية في الدين والمجتمع" في علاقة الخطيئة الأولى بالجنسين:

 

يعود مفهوم الإنسان في الإسلام إلى قصة خلق آدم وحواء في القرآن. القصة التي ترد في سورة البقرة الآيات 30-34 والتي تقول: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قال سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين".

 

في هذه القصة ثلاثة معطيات مركزية: الأول: القرار الإلهي باعتبار الإنسان خليفة الله في الأرض. المعطى الثاني إعطاء الإنسان المعرفة الكافية ليتفوق على الملائكة والثالث، الطلب إلى الملائكة الذين يسجدون لله وحده أن يسجدوا للإنسان تكريما وتحت طائلة الخروج من رحمة الله.

 

تشكل هذه المعطيات أساس التصور الإسلامي للإنسان وتعززها مجموعة آيات وأحاديث كثيرة يستوقفنا منها الآية 70 من سورة الإسراء : "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". وهي آية تطلق التكريم للجنس البشري دون تمييز بين مؤمن وكافر، مسلم أو غير مسلم، رجل أو امرأة، عربي أو عجمي. والآيات الأولى من سورة الرحمن التي تقول "الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان". في فضل المعرفة العقلية على الإنسان وقيمتها في تكريمه وخلافته.(8). ومن المهم استعادة هذا التصور كون المدرسة الأرثذوكسية في الإسلام قد حرصت على تأكيد صورة الإنسان المطيع الخانع الطائع. وناهضت صورة الإنسان صاحب الإرادة والمسؤولية التي أكد عليها المعتزلة وبعض الخوارج والإنسان الكامل التي بلورها ابن عربي. ضمن سيرورة  تكوين إيديولوجية الطاعة في الإسلام (التي تبدأ بالتصور الديني والسياسي وتنتهي في رق المرأة في بيت زوجها) عبر القرون الأولى التي شهدت مع التغييرات العميقة التي رافقت التوسع العسكري السريع للخلافة الإسلامية تراجعا هاما في دور المرأة وحاجة ملحة لبناء مذهب على مقاس الخلافة يشكل التعبير الرسمي للإسلام. 

 

يتوقف حسين العودات عند نقطة جوهرية في التصور الإسلامي الأول لعلاقة الجنسين. وهو ينطلق فيها مما سمي بالخطيئة الأولى التي ترد في القرآن مرات ثلاث:

 

1-  فقد جاء في سورة البقرة "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه"(البقرة 35-37).

 

2-  وجاء في سورة الأعراف "ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما من الناصحين. فدلهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" (الأعراف 19-23).

 

3-   وجاء في سورة طه " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلي. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى أدم ربه فغوى".(9)

 

ويلاحظ الكاتب أن مسؤولية "الخطيئة الأولى تقع على الذكر والأنثى معا في آيتين، على آدم وزوجه كلاهما، وأنها تقع على آدم وحده في الآية الثالثة. بمعنى أن آدم يتحمل مسؤولية هذه الخطيئة بمقدار أو أكثر من حواء. فليست المرأة غاوية ولا مخادعة ولا أخرجت أدم من الجنة كما يكرر الفقهاء معتمدين على عقائد إبراهيمية وقصص شعبية سبقت الإسلام.

 

إذن لا يساوي النبي محمد والقرآن فقط بين المرأة والرجل في الخلق والطبيعة والمسؤولية (الميثولوجية والواقعية)، وإنما أيضا في تبادل الحاجة والتساوي في صفة التفضيل الوحيدة في الإسلام: التقوى. ورغم هيمنة التصور الأبوي على مكة، وجدت النساء في الدين الجديد حليفا في وجه الصلافة الرجالية التي عاشتها مكة إبان الإسلام. فلا غرابة أن تكون خديجة أول من اعتنق الإسلام وأول من استشهد من أجل الدين الجديد كان سمية بن عمار.

 

إن ولادة الإسلام في مكة لم يكن بالإمكان أن تجعل من المسلمين الأوائل أنصارا للمساواة بين الجنسين. ولعل الاستثناء الأهم هو الحياة الشخصية للنبي محمد في مكة حيث كانت زوجته خديجة قوية الشخصية حاضرة وفاعلة في المجتمع والحياة ووفية في السراء والضراء. نصرت محمد بن عبد الله يوم كان وحده، وأغنته يوم جاع، وصدّقته عندما كذّبه القوم، وناصرته يوم لاحقه الرجال. ومن المفيد قراءة أطروحة منصور فهمي في القسم المتعلق بنساء النبي لإدراك هذا الجانب دون ضغط العرض المقدس على الحياة البسيطة للنبي كإنسان(10).

 

لو تركنا النصوص الدينية وعدنا للحياة الإسلامية الأولى، لتفاجئنا بالدور الهام للمرأة في الدعوة والنقاش الديني والسياسي والموقف الإسلامي من النساء. ولدينا الشعور أحيانا بصراع حقيقي بين امتيازات للرجال كانت قائمة وحرص المسلمون الرجال على الاحتفاظ بها وبين مقاومة نسوية تحاول أن تنتزع مكانها تحت شمس التغييرات التي رافقت نشأة الإسلام. وإن كان عهد النضال السري والمعارضة قد أعطى للمرأة اعتبارا كبيرا لمشاركتها في الدعوة وحمايتها للنبي ومشاركتها في الهجرة للحبشة ومشاركتها في بيعة النساء اليثربية، فقد تراجع دور المرأة موضوعيا مع عسكرة الحياة الاجتماعية بزيادة الحروب والغزوات في المجتمع الإسلامي الأول(27 غزوة وسرية منذ الهجرة إلى وفاة النبي محمد).  وقيام شكل للسلطة السياسية منذ معركة بدر

 

لم يهاجر المكيون بطونا ولا قبائل، بل هاجروا أفرادا مع أزواجهم وأهليهم أو عزابا، ومن هنا، فقد حمل المكيون، شاءوا أم أبوا، التفرد الذي حملته لهم "حضارة" المجتمع المكي. وبالتالي فهم في توجههم لإيجاد مصدر رزق، مثلوا بنسبة عالية منهم جملة العلاقات الأقرب إلى الرأسمال منها إلى "الاقتصاد الاكتفائي. وضمن شكل اتخذ طابع المبادرات الفردية أكثر منه طابع الاتفاق العام، حيث نجد تجار المهاجرين يتحركون فيما تختصره عبارة عبد الرحمن بن عوف "دلوني على السوق". في حين كان لآخرين أن يقطعوا من ربع الأرض أو مشاعها حيث طلب النبي من الأنصار إقطاعهم الأرض. بحيث صار الصحابة من أهل مكة بين تاجر وزارع. ولم يعدم هذا أن يطلب فقراء المهاجرين الزواج من النساء العاملات بالبغاء علهم يؤمنون وارد العيش من عملهن "إلى أن يغنيهم الله" حسب تعبير الإسلاميات، ليكون من أولى التحديدات في تحريم الزواج من زانية أو زان في عهد مبكر كما يذكر الطبري في تفسيره(11).

 

مع الهجرة إلى يثرب (المدينة) عرف مسلمو مكة تقاليد أكثر ليبرالية في علاقات الجنسين. يروي مسلم في صحيحه عن عمر " كنا معشر قريش، قوما نغلب النساء. فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم". وهناك عشرات الروايات حول عمل المرأة ومشاركتها النقاش والحياة العامة. ولنا أن نتساءل: من يستطيع أن يتصور، مع الخطاب الأصولي عن الحريم في المجتمع الإسلامي الأول أن هناك عددا من أوائل المسلمين أعرب عن رغبته في الزواج من نساء يمارسن البغاء، كما أشرنا، وتطلب وقف هذا الحدث آية قرآنية ؟

 

أقرت الآية 34 من سورة النساء مفهوم القوامة الرجالية السائد: " الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا". ولم تلبث هذه الآية أن أصبحت قاعدة بناء مفهوم الطاعة فيما يتجاوزها بكل المعاني، عوضا عن أن تبقى المعبّر عن روح حقبتها ومرحلتها. فحتى في عهد النبي، كانت هذه الآية موضوع احتجاج النساء. وقد توجهت إحدى المناضلات المسلمات إلى النبي تسأله عن قضية المساواة كموفدة عن بني جنسها: "أنا وافدة النساء إليك، إن الله  قد بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد في بيوتكم، وحاملات أولادكم، وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعة، وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله ، وإن أحدكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مجاهدا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أولادكم، أفنشارككم في الأجر والثواب؟".

 

وحول الآية القرآنية التي تسمح للنبي محمد بالزواج ممن شاء لم تمتنع عائشة عن أن تقول: "أرى ربك يسارع لك في هواك" ؟

 

ورغم تصلب العديد من الصحابة في موقفهم من المرأة، شاركت النساء في النضال اليومي للعيش والاكتشاف اليومي لطبيعة الإسلام، فزينب بنت جحش كانت تغزل وتبيع غزلها، وهذا حال عدد هام من النسوة. وبعضهن كأم سليم في القتال، وغيرهن آسيات (ممرضات) للمقاتلين. لقد كن يتابعن أحكام القرآن بل وألفاظه. وقد استجوبت أم سلمه زوجها النبي بعد آيات غاب ذكر النساء عنها: " فما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟". وتقول خولة بنت قيس في وصف روح الحقبة النبوية: " كنا نكون في عهد النبي وأبو بكر وصدر من خلافة عمر في المسجد نسوة قد تحاللن وربما غزلنا وربما عالج بعضنا فيه الخوص فقال عمر لأردتكن حرائر فأخرجنا منه إلا أنا كنا نشهد الصلوات في الوقت".

 

لم تتبلور السلطة الإسلامية كجهاز، بقدر ما تركزت السلطات في شخص النبي محمد. وهكذا نجد من جهة موقعا خاصا وأحكاما خاصة بالنبي ومن جهة أخرى، تركيز المعارضة الإسلامية على حوادث ومسائل تتعلق بشخصه؛ ففي الثالثة والخمسين من العمر تزوج النبي محمد عائشة ثم سودة ثم حفصة وكان في الخامسة والخمسين، ثم زينب بنت جحش وكان في السادسة والخمسين وله حينئذ أحفاد. وقد تعرضت الحياة الشخصية للنبي لمناقشات كثيرة يذكرها أصحاب التفاسير الإسلامية، فمن المسلمين من كان يهدد بالزواج من نسائه بعد وفاته، ومنهم من يهدد بعدم مصاهرته الخ. وقد استلزمت هذه المسائل آيات قرآنية تفوق ما جاء في الحدود الجنائية الإسلامية. وهناك حادثتان تتعلقان بزوجات النبي تركتا أثرهما دون شك على حياتهن، ثم لم تلبث هذه الآثار أن طالت باقي المسلمات لأسباب تتعلق بطبيعة التوسع الإسلامي نفسه: الأول، هو طلاق زيد بن حارثة مولى النبي من زوجته وزواج النبي منها، والثاني، الإشاعات التي أطلقت عن علاقة لعائشة بنت أبي بكر بأحد المسلمين. تم استعمال هاتين الحادثتين بشكل ردىء من قبل أعداء الدين الجديد. تبع ذلك عدة آيات من سورة الأحزاب تعطي لنساء النبي وضعا خاصا باعتبارهن لسن كغيرهن من النساء، وتفرض عليهن البقاء في البيت والحجاب العازل وتمنع الزواج منهن بعد وفاته وتعتبرهن أمهات المسلمين أي محرمات على كل مسلم.

 

إلا أن هذا الجو المتوتر لم يؤثر كثيرا على الحياة العامة للنساء ولو أن كثرة المعارك والسرايا كانت تنقص موضوعيا من قيمة قوى الإنتاج في المجتمع، والمرأة بشكل خاص. وتخلق مفهوما لا علاقة له بغض النظر وزنا العين واللسان الخ من الروايات المتأخرة التي تعطي انطباعا بالستر والإخفاء والطهرانية. نستنبط من جملة الروايات الإسلامية الأولى أن النقطة المركزية في حبكة الحجاب لم تكن رهبنة الحياة العامة  بقدر ما كانت في اعتبار اللباس أحد مقومات التمييز النسائي (التفاوت بين الحرة والأمة والمسلمة والذمية إلخ). هذا التمييز  الذي تنامى مع العملية المتدرجة لأدلجة الدين الإسلامي. الأمر الذي تصر عليه كل الروايات بشأن الإماء اللاتي كن "على عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرؤوس ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب". يروي البيهقي عن أنس "كان إماء عمر رضي الله عنه يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضطرب ثديهن". ولا يتورع الألباني عن القول "كان من شروط المسلمين الأولين على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات".. وكلها روايات تتناقض مع مفهوم الخوف من الفتنة وضرورة الستر العام(12). أليست المرأة هي المرأة والعورة هي العورة ؟ من هنا صعوبة تصور مجتمع المدينة ينسجم مع مبالغة في عزل المسلمات، وهنّ أكثر النساء طرفا في الحياة العامة والقرارات العامة، باعتبار الإسلام الأول كان يسود ويحكم المدينة منذ معركة بدر. ويتبين لكل متتبع أن المحجبات كن أقلية بين المسلمات إبان وفاة النبي.

 

يلاحظ أيضا من روايات الحقبة خلاف في موقف الصحابة بين ليّن ومتشدد. مما يدل على تعددية في الرأي والمواقف. يروى عن عمر بن الخطاب مطالبته النبي بحجب نسائه أكثر من مرة والتشديد على طاعة النساء والأطفال للرجل. وتنسب له الأدبيات الشيعية قوله "متعتان أحلتا في عهد رسول الله وأنا أحرمهما". من المعروف أنه طلب من على المنبر أحدا يشهد معه على وجود آية قرآنية تنص على رجم المحصن والمحصنة في الزنى ولم يجد.

 

اتسمت الأحكام الإسلامية الأولى بكونها شخصية (فردية) أكثر منها اجتماعية، فليس بالإمكان بعد الحديث عن التحكيم في شؤون الحياة  أو عن تركيب دولاني. هكذا نجد عقاب المرأة الزانية المحصنة (المتزوجة) بالحجر عليها في البيت (النساء 15) وبعد أن كان المال للولد والوصية للوالدين، نسخ ذلك فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين في تشريع أقرب لأعراف يثرب، وجرى تنظيم الإرث على أساس نظام العصبات (النساء 11-12-176). كذلك تحددت المحارم في الزواج وتحريم نكاح الآباء وجمع الأختين معا. كذلك أقر الإسلام  قبل الهجرة الزواج المؤقت (المتعة بأجر) والتمتع بملك اليمين من الإماء.

 

ترافق بناء السلطة الإسلامية بغزوات ومعارك متواصلة، فيما نعبر عنه بحالة الطوارئ في تعبيرنا المعاصر. وقد اتسمت التشريعات أول بأول بظروف عسكرة المجتمع وبالتالي هيمنة الأبوية فيه مع تصعيد لامتيازات و "حقوق" المقاتل الرجل. ورغم أن الإسلام قد أقر قواعد لتحديد النسب الأبوي واعتبار الزواج المنظم الرئيسي لعلاقات الجنسين بتحديد عقوبة ممارسة الجنس خارج الزواج بالجلد مائة جلدة، فقد رهن ذلك بوجود أربعة شهود وإلا تقام عقوبة القذف (أي اتهام المرأة بالزنا) وهي تعادل ثمانين جلدة. أما في خصوص الامتيازات الرجالية، فقد بقي الرجال يكرهون الإماء على العمل بغايا لبعد سنة خمس للهجرة، وكان زواج المتعة يمارس في الغزوات على نطاق واسع، ولم ينه مثلا عن ممارسة الجنس مع الحوامل من السبايا كما لم يجر الحديث في العزل تجنبا لنتائج ترخيصات عديدة حتى خيبر سنة سبع للهجرة (13).

 

إلا أن هذا العامل وإن ترك دون شك أثره، لم يكن الحاسم في قضية الحجر على النساء وتعميم الحجاب على كل المسلمات. فقد ترافق التوسع الإسلامي في المكان والزمان مع ضعضعة تركيب الأسرة العربية عبر الغزو المزدوج: حمل البشر والدين الجديد لجغرافية الآخرين، وحمل الآخرين دما ولحما وثقافات إلى صميم البيت الإسلامي. فقد صار في كل بيت عربي امرأة غير عربية من الإماء والسبايا على الأقل. وقد حاولت القبائل تدارك ما تستطيع عبر نظام الموالاة وتأميم النساء العربيات وعزلهن باسم الدين، الأمر الذي وسع نطاق منظومة العزل التي كانت في وسط بيت النبي ولم تمنع عائشة من خوض معركة الجمل مثلا. ويعبر حوار لابن عمر مع ابن له عن هذا التحول الذي تجاوز التجربة الإسلامية الأولى قبل تبلور مدارس الفقه، قال ابن عمر: قال رسول الله لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل فقال ابن لعبد الله: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا. قال فزجره ابن عمر وقال: أقول قال رسول الله وتقول لا ندعهن؟".

 

وقبل الانتقال من الحقبة النبوية من الضروري التوقف برهة عند مؤسسة الزواج في المجتمع الإسلامي الأول وتناميها اللاحق:

 

تتأثر الحقوق والواجبات الزوجية بشكل عام بعدة عوامل أهمها المؤسسة العرفية والمؤسسة الدينية وتعبيرات السلطة في الدولة والمجتمع ونمط إنتاج الحياة المادية. ويعطينا مثل تطور مؤسسة الزواج في الإسلام فكرة عن هذا التأثر والتأثير المتبادل بين منظومة القيم من جهة وشروط إنتاج الإنسان ووسائل الحياة من جهة ثانية:

 

ساد المجتمع العربي قبل الإسلامي زواجا أهليا لم ينط إبرامه بهيئة دينية أو رسمية، وباستثناء المسيحيين واليهود لم تكن تقاليد الجزيرة العربية تشترط للزواج أية قاعدة دينية، واعتبر النكاح عقد معاوضة فردي أو عائلي. وقد اختلفت العادات في أخذ رأي المرأة فمن القبائل من أقر هذا الحق لها إلا في زواج ابن العم ومنهم من لم يعطها الحق في الاعتراض على رأي الأهل. وكانت من أهم التعديلات التي أدخلها الإسلام في عهد النبي محمد اعتبار موافقة الزوجين من شروط عقد الزواج وتحريم أشكال الفرض بالمقايضة العائلية (منع نكاح الشغار)واعتبار المهر للمرأة ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة). ومن الثابت أن الزواج كان شأنا مدنيا بسيطا أهم قواعده الإعلان، وليس ثمة اتفاق على حتمية وجود الشهود في الروايات الدينية الأولى.

 

ولم يلبث المجتمع العربي الإسلامي أن شهد تراجعا في حقوق المرأة في معمعان العسكرة والتوسع برزت نتائجه في عودة مفهوم عقد المعاوضة إلى تعريف الزواج عند الفقهاء (النكاح في القاموس القرون وسطي) وقد تركت الحياة الجنسية الرجالية الهيمنة في القرون الهجرية الثلاثة الأولى بصماتها في تعريف الزواج نفسه في المدارس الفقهية فاعتبرته المالكية "عقد لمجرد متعة التلذذ بآدمية" والحنابلة "عقد بلفظ النكاح على منفعة الاستمتاع" والحنفية "عقد يفيد ملك المتعة قصدا وهو معقود للرجل دون المرأة" وتأخذ بالتعريف الأخير الشيعة الإمامية التي احتفظت بالزواج المؤقت (نكاح المتعة) كشكل مشروع من أشكال العلاقة بين الجنسين.

 

هذا بالإضافة إلى إخضاع الزواج أكثر فأكثر للتفاصيل الدينية التي لم يعرفها في حياة النبي حيث كانت القاعدة الأساسية التيسير لا التعسير. فصارت قضية الشاهدين إلزامية إضافة للعلنية وأصبح البعض يرفض شهادة غير المسلم ويخضع شهادة المرأة لمبدأ النصف الخ.

 

وعلى صعيد مؤسسة العرف، نجد أن وجود أحاديث عديدة في حق المرأة في رفض الزواج ممن لا تريد، بقي الزواج الإلزامي من ابن العم أقوى من السنة والقوانين، ومازال ابن العم كما يقول المثل "ينزل العروس من على ظهر الجمل" (أي يوقف حفلة زفافها من رجل آخر ليتزوجها بالعرف). حيث آثرت القبائل العربية تماسك العشيرة وتعاضدها الداخلي على رأي بناتها.

 

إلا أن المشكلة الأساسية كانت في أن الخلافة كانت تسعى لبلورة إيديولوجيتها وتعبيرات المعارضة المختلفة أيضا. وإن كان للحياة مسار آخر. وقبل تتبع هذا المسار، من الضروري التوقف عند بناء الإيديولوجية الإسلامية، أو بالأحرى عملية الانتقال من أسطورة بعل إلى ديكتاتورية الرجل.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.