اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

الإسلام / الماركسية: علاقة الالتقاء والاختلاف// محمد الحنفي - 5

 

تحويل الإسلام إلى أيديولوجية ممارسة تحريفية :

إن الشروط التي ظهر فيها الإسلام تقتضي تصحيح المعتقدات الخاطئة التي كانت سائدة بين الناس من قبل و خاصة بين العرب و التي أدت إلى حدوث تمزق في المجتمع يقود إلى حروب طاحنة بين البشر و الغاية من تصحيح المعتقدات الخاطئة هي توحيد العقيدة التي لا تكون إلا صحيحة كمدخل لتوحيد الناس. فتصيبهم الحروب المختلفة و المدمرة و لجعلهم يتفرغون لعملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.

فتوحيد عبادة الله بظهور الإسلام يعتبر تحولا عظيما في تاريخ البشرية، لأنه ككل نقلة نوعية في اتجاه إخضاع الأمور إلى التحكيم العقلي  الذي دعا إليه القرآن الكريم في غير ما آية بما في ذلك العبادات التي جاء فيها قوله تعالى  حكاية عن إبراهيم عليه السلام "فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لا احب الآفلين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء بما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين" فإبراهيم عليه السلام أدرك وحدانية الله و تجرده " لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار" باستخدام عقله في هذا الكون، و انطلاقا من الشروط التي أحاطت به و وصولا إلى النتيجة المتوخاة.

و في آية أخرى نجد قوله تعالى "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" في إشارة إلى تعدد آلهة المشركين قبل الإسلام مما افسد المجتمع العربي في ذلك الوقت و ادخله في حروب مدمرة.

و قد أدى هذا التحول إلى توحيد العرب في نظام عربي واحد و الشروع في توحيد الأقوام المختلفة في ظل الدولة الواحدة التي أنشأها المسلمون و التي حكمت من المحيط الأطلسي إلى حدود الصين، و هو ما ترتب عنه تطور نوعي في الحياة البشرية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و انتج تراكما معرفيا و علميا و حضاريا لازال يعتبر مرجعا إلى يومنا هذا.

و لذلك فتوحيد عبادة  الله لا يكون إلا بغاية تمرس البش على التوحد لا على التنمذج و التقولب.فالتوحد يعني مد الجسور بين البشر على اختلاف ألسنتهم و ألوانهم. فقد جاء في القرآن الكريم " إنا خلقناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا" و التعارف لا يكون إلا بإجراء الحوار  بين طرفين مختلفين حول قضية من القضايا وصولا إلى ما يوحد لتجنب الحروب المدمرة.

غير أن ما نراه اليوم تبعا لما حدث في تاريخ الإسلام الذي يسجل تفرق المسلمين إلى فرق متعددة تدعي كل واحدة منها تمثيلها للإسلام و المسلمين. و ما ذلك إلا لاعتبار الإسلام و تأويل نصوصه تعبيرا عن مصلحة كل فرقة تتحول إلى حزب سياسي. فشيعة بني أمية و شيعة علي، و شيعة آل الزبير، و الخوارج كلها فرق/أحزاب يسعى كل منها إلى ربط الإسلام بالسياسة و جعله تعبيرا عن الموقف السياسي لحزب من الأحزاب. لتستمر الفرق/الأحزاب بعد ذلك موظفة الإسلام في مجال السياسة، و هو توظيف يهدف إلى النمذجة و القولبة كما يجري الآن في العديد من البلدان الإسلامية حيث يمكننا بكل سهولة التمييز بين المنتمين إلى الأحزاب المؤدلجة للإسلام من خلال طريقة تعامل الناس و شكل اللحية و نوع ما يوضع على الرأس تماما كما يتميز المنتمون إلى التيارات و الأحزاب الدينية الصهيونية و هذه النمذجة و القولبة لا علاقة لها بما جاء به الإسلام الذي يرى " أن الله لا ينظر إلى صوركم بقدر ما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم".

و لذلك فتحويل الإسلام إلى ممارسة أيديولوجية ينفي عنه كونه صالحا لكل زمان و مكان، كما ينفي عنه كونه دين الحرية على مستوى المعتقدات المختلفة "لا إكراه في الدين" و دين المساواة " لا فرق بين عربي و لا عجمي و لا بين ابيض و اسود إلا بالتقوى" و دين الإخاء و التسامح و المحبة " المومنون و المومنات بعضهم أولياء بعض" –قرآن كريم- و "المومن للمومن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا" –حديث شريف- و دين الحوار " و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن" – قرآن كريم- لأن الأيديولوجيا تقتضي رفع شعارات نقيضة لما أوردناه من آيات و أحاديث مثل شعار "الإسلام دين و دولة" و شعار "الجهاد" و شعار "الدولة الإسلامية". لأن هذه الشعارات تقتضي الإقصاء و نفي الآخر، و السعي إلى السيطرة على جهاز الدولة باسم الإسلام، و إدخال الناس في قالب مسلكي معين ينفي التفاعل و التطور و يحرص على النمذجة في المظهر و في المصطلحات المستعملة و في الفكر و في المعاملة و يحول المسلمين إلى جواسيس على بعضهم البعض.

و هذه الممارسة الأيديولوجية التي أنبتتها الفرق الإسلامية منذ مقتل عثمان بن عفان، و لازالت تنبتها إلى يومنا هذا هي ممارسة تحريفية لا علاقة لها بالإسلام و لا بفهمه الصحيح الذي لا يلغي الاختلاف و حق الاختيار و التفاعل مع المستجدات التي تحدث و التي يجب استيعابها من قبل المسلمين.

فماذا نفعل من اجل إسلام غير مؤدلج ؟ إن الجواب على هذا السؤال يقتضي :

1) تكريس الفهم الصحيح للإسلام باعتماد المرجعية الصحيحة : الكتاب و السنة، وكل الكتب التي تثبت نزاهتها العلمية و المعرفية، و تجنبها لادلجة الدين الإسلامي.

2) تصنيف الكتب المؤدلجة للدين الإسلامي ضمن الكتب المحرفة له، العاملة على استغلالها للدين الإسلامي لصالح السياسة أو لصالح ممارسة تحريفية محددة، و التشهير بها، و إنجاز دراسات نقدية لمضامينها من اجل الكشف عن التأويلات التي تروج لها.

3) الحفاظ على المساجد من استغلال مؤدلجي الدين الإسلامي، و الحرص على أن يكون أئمة المساجد على بينة من حقيقة الإسلام، و الحصول على الحد الأدنى من المعرفة الدينية الصحيحة. و العمل على إخضاعهم للمحاسبة القانونية في حالة توظيف المساجد لأغراض مشبوهة.

4) أن تكون مصادر المعرفة الدينية خاضعة لمراقبة هيأة علمية متخصصة ذات وجود مركزي، و جهوي و محلي تراقب ما يمارس في المساجد و المدارس و المعاهد و الكليات التابعة للدولة. و ما يدرس في المدارس المختلفة مما يمس تحريف جوهر الإسلام.

5) منع تكوين جمعيات و أحزاب و نقابات على أساس الانتماء الديني حتى لا تتخذ تلك الإطارات وسيلة لتضليل الناس و استقطابهم لجعلهم يعتقدون  بادلجة الدين الإسلامي.

6) منع التمظهر اللصيق بالترهبن المخالف للعادات و التقاليد و الأعراف، و الهادف إلى التأثير على سلوك الناس، و الساعي إلى تكريس شكل معين من ادلجة الدين الإسلامي.

و بذلك نحافظ على العقيدة الإسلامية من التحريف، و نحصنها من الادلجة، و نمكنها من إنجاز دورها في التربية الروحية، و بث القيم النبيلة في صفوف المسلمين.

و للوصول إلى ذلك لابد من تنوير عقول المسلمين و بث أشكال الوعي الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي. لأن إرجاع الأمور إلى أصولها يعتبر وسيلة لتصحيح العقيدة.

فإرجاع حدوث الأفعال إلى الإحساس المادي و إلى العلاقات الاجتماعية بين الناس يزيل التفسير المثالي من أذهان الناس، و يجنبها القول بمرجعية الأحداث و الأقوال إلى قوى غيبية لا نعلمها. و بالتالي تزول الحاجة إلى مدعي معرفة الغيب بإثبات أن التفاعلات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية المصحوبة بتردي أشكال الوعي التي يحل محلها الوعي الزائف.

و لذلك فممارسة ادلجة الدين الإسلامي تعتبر ظاهرة مرضية ترتبط بتعميق الاستغلال الرأسمالي العالمي لأوضاع الكادحين في العالم الذي جاء مصحوبا بمناهضة و محاربة المد الاشتراكي على المستوى العالمي، و توظيف كل الإمكانيات من اجل ذلك، بما فيها توظيف الدين الإسلامي من قبل الذين قدمت لهم الرأسمالية العالمية كل الإمكانيات المادية لأداء دورهم المرحلي لمساعدة الرأسمالية العالمية على محاصرة الاشتراكية على المستوى العالمي حتى لا يتغلغل في صفوف الكادحين بدعوى مواجهة "الإلحاد".

و لتجاوز هذه الظاهرة المرضية يجب إعادة الاعتبار لدمقرطة المجتمع اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا و مدنيا و سياسيا لأنه بدون الدمقرطة لا يمكن القضاء على الأمراض الناتجة عن الاستغلال الرأسمالي التبعي للشعوب الإسلامية. فدمقرطة المجتمع تمكن الفعاليات الاجتماعية من التمتع بحقوقها و التعبير عن رأيها في كل القضايا التي تهمها و اختيار من يمثلها في كل المؤسسات التمثيلية، وفق برنامج محدد و هادف يسعى إلى وضع حد لمختلف الظواهر المرضية و بدون تلك الدمقرطة يحضر التعلق و التراجع و التدهور المنتج لظاهرة ادلجة الدين الإسلامي، و إقناع الناس بتلك الادلجة و تعبئتهم وراء مؤدلجيهم لتحقيق أهداف طبقية محددة، و ليس نشر الإسلام أو المحافظة عليه أو الدفاع عنه كما يدعي  ذلك المتنبئون الجدد.

فما مصير مؤدلجي الدين الإسلامي ؟ من المعلوم أن من وقف وراء ازدهار هؤلاء، و اكتساحهم للشعوب الإسلامية في جميع أرجاء الأرض، و قيادة المسلمين و تعبئتهم لمحاربة المد الاشتراكي، و العمل على نقض الفكر الاشتراكي العلمي، و إتاحة الفرصة أمام التغلغل الرأسمالي التبعي هم الرأسماليون و الرجعيون. و مادام هؤلاء قد حققوا أهداف الرجعية، و الرأسمالية الهمجية العالمية، فإن الرجعية و الرأسمالية العالمية لم تعودا في حاجة إلى مثل هذا التوظيف الإيديولوجي  للدين الإسلامي و لا لمؤدلجيه. و بالموازاة مع ذلك أخذت تنكشف معالم الإيديولوجية في فكر و ممارسة المتنبئين الجدد و دورهم في تكريس التخلف الاجتماعي الذي اصبح يتعمق اكثر من أي وقت مضى. و لذلك فمؤدلجو الدين الإسلامي اصبحوا يشكلون عائقا كبيرا أمام التطور الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي بسبب تمسكهم بالشعارات الأيديولوجية التي صاغوها بدعم من الإمبريالية و الرجعية التي لم تعد تطمئن على نفسها من خطر المتنبئين الجدد، و جحافل اتباعهم. و لذلك فإن الرجعية الرأسمالية التابعة و الرأسمالية ستعمل على التخلص منها، و الجماهير الشعبية الكادحة ستتخلص من هيمنة الفكر الإسلامي المؤدلج على عقولها، و سينحصر فقهاء الظلام الذين سيراوحون مكانهم، و لا يجدون سبيلا إلى الامتداد كما كانوا، و سيصبح خطابهم منبوذا لانكشاف ادلجته و لتمسك المسلمين في معظم بقاع الأرض باعتبار الإسلام دين السلام، لا دين الإرهاب. لأن ما يدفع إلى اعتبار الإسلام دين الإرهاب هو تحويله إلى أيديولوجية. و هكذا نجد أن إعادة النظر و كيفية التعامل مع مؤدلجي الدين الإسلامي سيغطي مرحلة بكاملها ليعود الاعتبار إلى دور التنوير الذي يجعل المسلمين بالخصوص يسعون إلى البحث عن السبل التي تقود إلى اندماجهم في المحيط العالمي المتقدم و المنفتح على كل أشكال التطور التي سيلعب الإسلام دورا أساسيا فيها  باعتباره صالحا لكل زمان و مكان.

 

تحويل الماركسية إلى عقيدة ممارسة تحريفية :

و ما قلناه عن تحويل الإسلام إلى أيديولوجية أدى إلى تحريف العقيدة عن أهدافها الحقيقية، يمكن قوله كذلك في الماركسية التي يجب اعتبار تحويلها إلى عقيدة ممارسة تحريفية.

فالأصل في الماركسية أن تكون منهجا للتحليل الملموس للواقع الملموس وصولا إلى معرفته، و استشراف ما يجب عمله لتغييره إلى الأحسن. و هذا المنهج له منطلقات، و قوانين و أهداف يسعى إلى تحقيقها سعيا إلى تغيير الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي بما يخدم مصلحة الكادحين بقيادة الطبقة العاملة، و التغيير لا يكون إلا بإذكاء حدة الصراع الطبقي و العمل على إدارته بما يخدم الطبقة العاملة و حلفائها.

و قد لعب المنهج الماركسي منذ ظهور الماركسية و إلى اليوم دورا كبيرا في جعل الوعي الطبقي يعم الكادحين في هذا العالم و خاصة الطبقة العاملة. فقد اصبح الكادحون بقيادة الطبقة العاملة يدركون عمق الاستغلال الذي يمارس عليهم، و من يستغلهم، و نسبة ما يذهب إلى جيوبهم من فائض قيمة الإنتاج و دور الدولة كأداة للسيطرة الطبقية في قمع الكادحين و إخضاعهم للاستغلال البورجوازي الذي لا يرحم. كما لعب دوره في جعل هؤلاء الكادحين يدركون ما يجب عمله لخوض الصراع ضد المستغلين، و خاصة عندما يتعلق الأمر بتأسيس تنظيمات جماهيرية و حزبية لقيادة خوض الصراع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي من اجل الحد من شراسة الاستغلال على المدى المتوسط، و من اجل وضع حد للاستغلال على المدى البعيد. و هذا ما دعا إلى تأسيس النقابات و الجمعيات، و الأحزاب كأدوات لخوض ذلك الصراع و قيادته.

إلا أن ابتلاء الماركسية و المنهج الماركسي بالوثوقية على يد البيروقراطيين قاد إلى تحويل الماركسية إلى عقيدة تنتج عبادة البيروقراطيين بدل عبادة الله كما يحصل في الديانات السماوية. فالعقيدة الماركسية تقود إلى تقديس النموذج في الفكر، و في الممارسة و في الأشخاص، و هو تقديس لا علاقة له بحقيقة الماركسية بقدر ما له علاقة بالأشخاص الذين تمكنوا من الوصول إلى المراكز العليا للسلطة التي استغلوها لفرض عقيدتهم المنسوبة إلى الماركسية، و فرض كيفية الممارسة السياسية و النقابية و الحزبية و المنظماتية المختلفة و الإيقاع بكل من خالف رأي القيادة الحزبية و السياسية المحلية و المركزية و تصفية كل المخالفين الماركسيين عبر العالم.

فالدوغمائية أو الوثوقية ممارسة قمعية تهدف إلى التخلص من المعارضين الذين يرفضون عبادة الأشخاص، و عبادة النموذج الفكري و الحزبي و النقابي و المنظماتي الذي يعزف على نفس أوتار القائد، و معلوم ما جرته الدوغمائية على الماركسية من خراب، و خاصة عندما حولتها إلى مجرد مقولات لا علاقة لها بالماركسية و بالمنهج الماركسي العلمي.

و قد أدى تحويل الماركسية إلى عقيدة إلى الدخول في عملية ممارسة حق القائد في مصادرة حق الرأي الآخر في التواجد عن طريق توظيف الماركسية نفسها، و أجهزة الدولة القمعية و أجهزة الحزب و النقابة و المنظمات الحزبية في عملية المصادرة من اجل القضاء على كل العقائد الأخرى حتى تبقى العقيدة الماركسية وحدها السائدة بقوة الواقع الناتج عن قوة القمع. و كنتيجة لذلك، و بسبب تعدد الأنظمة الماركسية فقد تعددت العقائد  الماركسية التي تختلف منطلقاتها و آفاق عملها لتجد نفسها متصارعة فيما بينها، بل و متناحرة و كل واحدة من تلك العقائد الماركسية تتهم الأخرى بالتحريف الذي لا يمكن تبريره إلا بنفي كون الماركسية عقيدة ، و التعامل معها كمنهج للتحليل العلمي، و السعي إلى تحويل الواقع في اتجاه تحقيق كرامة الإنسان التي لا تتحقق إلا بالقضاء على أشكال الاستغلال المادي و المعنوي، ذلك القضاء الذي لا ينفي حق الإنسان في اختيار العقيدة التي يراها مناسبة له دون أن يرغمه أحد على ذلك.

و كما اعتبرنا تحويل العقيدة الإسلامية إلى أيديولوجية ممارسة تحريفية. نعتبر كذلك تحويل الماركسية إلى عقيدة ممارسة تحريفية أيضا، و هو ما يدعو إلى إعادة قراءة الماركسية و التاريخ الماركسي من اجل الوقوف على أشكال التحريف التي لحقت الماركسية و التي حالت دون استفادتها من التطور العلمي و التكنولوجي و العمل على إزالة تلك الأشكال التحريفية من الفكر الماركسي و إعادة الماركسية إلى اصلها القائم على الانفتاح على العلوم المختلفة، و السعي إلى تطوير مناهجها و الاستفادة من النتائج التي تتوصل إليها، و العمل على تطوير المنهج الماركسي الذي يجب أن يستوعب مختلف المستجدات المنهجية العلمية التي يجب توظيفها و التعامل مع مستجدات الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي من اجل ضبط وتيرة العمل على تغيير الواقع بما يخدم مصلحة الكادحين.

و قد أدى تحويل الماركسية إلى عقيدة : انحسار الاشتراكية و الاشتراكيين، و انهيار الاشتراكية في اعتى معاقلها الاتحاد السوفياتي – و تراجع العديد من الأحزاب عن تبني الاشتراكية العلمية بعد انهيار النموذج المثال/النموذج المقدس و انحسار ما بقي منها على قناعته بالاشتراكية العلمية في تطورها، و تعاطيها مع المستجدات المختلفة، و محاصرتها من قبل الرجعية المتخلفة، و الأجهزة القمعية، و من قبل الأحزاب التي تدعي الديمقراطية و التقدمية المستعدة دائما لارتداء اللباس المناسب في الوقت المناسب للمقام المناسب حتى و إن أدى ذلك إلى التنكر للمبادئ و للتاريخ النضالي لحركة التحرر الوطني و حركة التحرير الشعبية.

و للانفلات من الجمود العقائدي الذي أصيبت به الماركسية لابد من إعادة الاعتبار إلى الديمقراطية بمفهومها العلمي الماركسي التي تعتبر وسيلة وحيدة للكشف عن التناقض القائم في تحويل الماركسية إلى عقيدة، و الخلفية الطبقية التي تحكم ذلك. و سبل تجاوز هذه الظاهرة المرضية التي ابتليت بها الماركسية على يد من يمكن اعتبارهم من كبار الماركسيين و قادتهم كما هو الشأن بالنسبة لجوزيف ستالين.

و تبعا لذلك فقد تحول قادة اعتى دولة اشتراكية في العالم إلى بورجوازيين استغلوا الجمود العقائدي الذي دعوا إلى تجاوزه بما صار يعرف ب"البيروكسترويكا" أو إعادة البناء، و "الغلانزوست" أو الشفافية التي كانت في ظاهرها دعوة إلى دمقرطة المجتمع، و إشراك الناس في كل ذلك و دعوتهم إلى المساهمة في إعادة البناء الاشتراكي، و في باطنها السعي إلى تقويض الدولة الاشتراكية العظمى ليقوم على أنقاضها ما اصبح يعرف بالدول المستقلة التي اتجهت جميعها لتخطب ود الرأسمالية، و تدخل شعوبها في جحيم الفقر و القهر و الجوع و المرض، إلى جانب الاحتفاظ بالرؤوس النووية. جزاءا على هذا العمل نال المحرف غورباتشوف جائزة نوبل للسلام، فاحتفت به وسائل الدعاية الرأسمالية.

و لعل ما يلفت انتباهنا في هذه النازلة هو أن وضع حد لاعتبار الماركسية عقيدة لم يحصل بالطرق العلمية التي يقتضيها  البحث الاشتراكي العلمي الذي كان من المفروض أن تشكل له هيئات مختصة لدراسة مرحلة بكاملها، و ما شابهها من تجربة الماركسية في استغلال الدولة التي كانت محسوبة على الاشتراكية لخدمة المصلحة الطبقية لبيروقراطية الدولة و الحزب على السواء من اجل الخروج بخلاصات تترجم إلى إجراءات عملية تساهم في تطوير النظرية الماركسية و الفكر الماركسي و الماركسيين على مستوى الممارسة السياسية. و هو ما لم يتم اللجوء إليه فكانت معالجة ممارسة تحريفية بممارسة قادت إلى التحول في اتجاه الرأسمالية و هو ما يمكن اعتباره اكبر خدمة قدمها التحريفيون إلى الرأسمالية هي نهاية التاريخ.

و لذلك فتجاوز تحويل الماركسية إلى عقيدة يفرض على الاشتراكيين العلميين :

1) تطوير المجتمع الاشتراكي بما يتناسب مع ما وصل إليه العلم الحديث و التكنولوجية الدقيقة و المتطورة التي أصبحت في خدمة العلوم و الآداب و الفنون، حتى يصير المنهج متطورا فعلا في تفاعل مع المناهج العلمية الدقيقة.مما يساعد على تطوير التحليل العلمي للواقع، و الوصول إلى خلاصات تساعد على التغيير الحقيقي للواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي أو على وضع برنامج رائد للنضال من اجل التغيير المنشود.

2) و بما أن بناء الأداة النضالية بناءا سليما يعتمد مبادئ المركزية الديمقراطية، و التنظيم الخلوي، و النقد و النقد الذاتي، كما يعتمد أسس بناء الحزب الاشتراكي العلمي المتمثلة في الأساس الأيديولوجي الاشتراكي العلمي، و الأساس التنظيمي الذي يتناسب مع هذه الأيديولوجية و الأساس السياسي المعبر عن القناعة الإيديولوجية الاشتراكية العلمية، لأنه بدون بناء الأداة النضالية الصحيحة نبقى عاجزين عن قيادة النضال من اجل التغيير.

3) قيادة النضال الديمقراطي في إطار جبهة للنضال من اجل الديمقراطية تساهم كل المنظمات التي تسعى إلى تحقيق الديمقراطية في مجتمعاتها وفق برنامج محدد لاستنهاض قطاعات المجتمعات المتخلفة، و إعدادها لامتلاك الوعي المتطور و المتحرك لفرض انتزاع الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و فرض احترامها عبر القوانين المتبعة في جميع المجالات.

4) العمل على اجراء انتخابات حرة و نزيهة بإشراف هيئة محايدة تفرض احترام إرادة الشعوب المقهورة، و تشكيل حكومة من الأغلبية تقوم بتنفيذ البرنامج الذي صوتت الجماهير لصالحه.

5) قيام الهيئات المنتخبة بمراقبة الحكومة، و محاسبتها بالإضافة إلى تشريع القوانين الضرورية لعملية التغيير المنشود و اجرأة المواثيق الدولية من خلال ملاءمة القوانين المحلية معها.

6) قيام الحكومة بإنشاء هيئات مختصة بدراسة القوانين و الوقوف على جوانب القصور فيها، و العمل على تطويرها بملاءمتها مع المواثيق الدولية قبل فرضها على المؤسسة التشريعية. و أخرى مختصة بدراسة الوضعية الاقتصادية، و تحديدها إذا كانت وطنية أو غير وطنية، و هل تستجيب لمتطلبات الشعوب أم لا؟ و هل يصمد الاقتصاد الوطني أمام التقلبات العالمية ؟ و هل هو مؤهل لمنافسة اقتصاديات الدول المتقدمة ؟  و ماذا يجب عمله للوصول إلى بناء اقتصاد وطني متطور و مستفيد مما تحققه اقتصاديات الدول المتقدمة و متحول إلى اقتصاد اشتراكي تكون فيه ملكية وسائل الإنتاج للشعوب ؟ و يتم توزيع الدخل بين الفقراء توزيعا عادلا ؟ و أخرى لدراسة الوضعية الاجتماعية قصد الوقوف على جوانب القصور في التعليم و الصحة. و ماذا يجب عمله لجعل الخدمات الاجتماعية في خدمة الجميع ؟ و أخرى لدراسة الوضعية الثقافية، و ما العمل لإنجاز ثورة ثقافية حقيقية لجعل الناس يمتلكون وعيا ثقافيا متقدما تتم في إطاره إعادة النظر في الهياكل السياسية القائمة في كل بلد على حدة من اجل إزالة مظاهر الاستبداد التي تحول دون ديمقراطية المجتمع، و استبدالها بهياكل ديمقراطية تؤهل الشعوب للقيام بالممارسة الديمقراطية الحقيقية التي تعتبر ضرورية لممارسة الشعوب لسيادتها.

و بذلك تكون الماركسية وسيلة لتثوير المجتمع من اجل أن يختار ما يناسبه على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، بعد أن يمتلك وعيه الحقيقي الذي يقوم الحزب الاشتراكي العلمي بإشاعته بين الناس بواسطة المثقفين الثوريين الذين يتحملون هذه المسؤولية بإخلاص و تفان لا مثيل لهما. و بتحول الماركسية إلى وسيلة لتثوير المجتمعات البشرية يزول عنها كونها عقيدة كما يسعى إلى ذلك بيروقراطيو الأحزاب الماركسية التقليدية.

و بناء على هذا التجاوز، هل تعود الماركسية إلى الواجهة كمنهج و كهدف ؟

إن منظري البورجوازية و البورجوازية الصغرى و المتوسطة يرون أن مجال عودة المنهج الاشتراكي العلمي باعتباره منهجا ماركسيا إلى الواجهة لم يعد واردا لأنه اصبح متجاوزا بحصول القناعة بأن النظام الرأسمالي في ظل العولمة هو آخر ما وصلت إليه البشرية و دليلهم على ذلك هو فشل التجارب الاشتراكية أو شبه الاشتراكية التي كانت حتى الآن، و أن العديد من الأحزاب الاشتراكية تخلت عن ماركسيتها و تحولت إلى أحزاب بورجوازية صغيرة، أو أحزاب بورجوازية، إن لم تعمل على حل نفسها و تراجع كبار الماركسيين في العديد من الدول، و خاصة الدول القائدة في بلاد المسلمين، و إعلان ثوريتهم. و هو دليل لا يرقى أبدا إلى مستوى قول الحقيقة لأن الذي انهار هو التجارب التي تسمي نفسها "اشتراكية"، و الأحزاب التي تخلت عن المنهج الاشتراكي العلمي هي أحزاب البورجوازية الصغرى، و من طبيعة أحزاب من هذا النوع أن تكون تجريبية تستبدل أيديولوجية بأخرى لتحقيق تطلعاتها حتى لا نقول مصلحتها الطبقية. لأن البورجوازية الصغرى تتلون كالحرباء و تتنقل في مواقع مختلفة. و لذلك لا نستغرب إذا وجدناها تتنقل بين الأحزاب، و تغير إيديولوجيتها كما تغير ملابسها. أما الماركسية فتبقى صامدة بالماركسيين الحقيقيين، و متطورة بمساهمتهم المستفيدة مما تبدعه العلوم من مناهج في مختلف المجالات العلمية. و المنهج الماركسي سيعرف تطورا بإبداعات الماركسيين النظرية و العلمية و سيلعب دوره في التحليل الملموس للواقع الملموس انطلاقا مما تقتضيه الرغبة في مقاومة نتائج عولمة اقتصاد السوق، و همجية الرأسمالية، و رغبة الشعوب في التخلص من تلك الهمجية، و النضال من اجل تحقيق الاشتراكية التي ستبقى أمل الشعوب المقهورة كيفما كان التضليل الذي يمارس عليها من قبل الأنظمة الرأسمالية و الأنظمة التابعة شبه الرأسمالية، و شبه الإقطاعية. و ما دام الأمر كذلك فإن عودة المنهج الاشتراكي العلمي إلى الواجهة سيبقى واردا لأن ما يجري الآن في العالم يحتاج إلى فهم علمي دقيق. و ذلك الفهم العلمي لا يتم إلا بالمنهج الاشتراكي العلمي لا بمنهج آخر و لا ينجزه بمناضليه الماركسيين إلا حزب اشتراكي يناضل من اجل الحرية و الديمقراطية و الاشتراكية.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.