مقالات وآراء
من كتابي "ومرت السنوات على عجالة"" (٦)// نبيل يونس دمان
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 10 كانون2/يناير 2025 19:45
- كتب بواسطة: نبيل يونس دمان
- الزيارات: 574
نبيل يونس دمان
من كتابي "ومرت السنوات على عجالة"" (٦)
نبيل يونس دمان
في بداية الصيف ومع بدء العطلة الصيفية حاولنا الهروب من مشاكل القوش، حيث كانت تحرشات الحكومة واعتقالاتها كيفية، فأجرنا سيارة حمل لتنقل بيتنا وبيت عمي حبيب الى الدير العلوي، حيث اقمنا فيه لمدة اسبوع او اسبوعين، كان كامل عمي يجلب لنا المسواق، وكانت عائلتين تجاورنا في البيوت التي في حوش الكنيسة، والعائلتين هما: عائلة رحيم بتي القس يونان، وعائلة صادق ممو رئيس، كانت جانيت ابنة رحيم في نفس عمري تقريبا، فكانت تعلمني الكثير من الاغاني والاناشيد الثورية، فيما نسعى انا ومخلص ونائل صادق الرئيس في البحث عن اعشاش الطيور. في أحد الايام مر مأمور المركز المدعو ابو خالد قرب بيتنا، وسأل جدتي عنا" وينم الويلاد" فقالت: في بغداد، فقال: لا، هم في دير الربان هرمزد، اقلقها ذلك، فأرسلت لنا خبراً، بمعرفة الحكومة مكان تواجدنا، إثر ذلك وخوفا من العقبات، رجعنا الى القوش وصرنا نفكر بالهجرة.
لأول مرة في حياتي ارى بغداد عاصمة بلادي وذلك في صيف 1963، آنذاك كان النزول الى بغداد يحتاج الى ورقة عدم التعرض من مدير الناحية، كان الغرض من سفرتنا هو الهروب من الظروف الصعبة التي مرت بها المنطقة، من حملات الجيش والجحوش والحرس القومي، وقد كانت البلدة محاطة بالربايا اضافة لدوريات الشرطة، خرجنا بعد انتصاف الليل، عائلتنا وعائلة عمي حبيب وكانت القافلة تضم رجلين كبيرين في السن وهم كل من ايليا ساكا دمان وعيسى توما قاقا اضافة الى والدي ووالدتي واخواني وزوجة عمي وبناتها الصغيرات، حملنا الاغراض وبعض الاطفال الصغار على حمارين وتركنا القوش عابرين بيادر محلة التحتاني ونحن على اشد ما نكون خوفاً من هجمات متوقعة، ولكن الله كان في عوننا فاجتزنا محيط القوش الخطر وسلكنا طريق الوادي( خو رؤوله) قاصدين قرية حتارة كبير الأيزيدية. وصلنا الى حتارة وقصدنا بيت المضمد شابا سعدو قيا فاستضافتنا زوجته( حسينة طعان) الى فطور فاخر، ثم ساعدونا في ايجار سيارة شوفرليت برتقالية بيك اب لصاحبها درويش( اذا لم تخونني الذاكرة)، ودعنا والدي يونس والعم عيسى ليعودا الى القوش، فيما نحن اخذنا السائق عبر الكنود ، في طريق ترابي وعر الى الشارع الرئيسي الذي اوصلنا في اخر المطاف الى محطة قطار الموصل، فحجزنا في قطار النهار وما كان المساء الا ونحن في بيت عمي ايليا دمان في البتاوين( الأورفلية) نمنا ليلتنا فوق السطوح العالية، وفي الصباح خرجت امام الدار الكبيرة من ثلاث طوابق، وكل غرفها مؤجرة للعوائل من مختلف بلدات وقرى شمالنا الحبيب، لفتت انظاري قطعة معدنية امام باب دارنا الجديدة( القابلة نجيبة حنا)، بعد قليل وقف اعرابي بدراجته النارية امام البيت وهو يروم بيع الحليب الطازج.
عشنا ظروف صعبة من لغة لا نألفها الى غرفة ليس فيها اسرّة ولا مقاعد فافترشنا ارضيتها، قضينا نهارات غير مألوفة من حر بغداد، الى ان ترحم في حالنا خالي بولص عندما كان يسكن منطقة السنك بجلب مروحة متهرئة، تخرج ضوضاء في حركتها، اكل عليها الدهر وشرب، لكننا عشقناها فاقتربنا منها جميعا للتمتع بالهواء الذي تحركه، قبل ذلك لم ارى مروحة كهربائية في حياتي لان القوش ببساطة لم تكن وصلتها الكهرباء حتى سنة 1968، وكم من مرة مدّيت اصابعي الى مروحتها فكانت تحدث جلبة فتأتي امي لتعاقبني ضربا. اما مشكلة الماء البارد فكان بيت داود سليمان بلو وزوجته الراحلة نعمي يزوداننا بالثلج من قوالب مربعة في ثلاجتهم المهيبة. وفي العصر صرنا نتابع التلفزيون الذي وضعه اقربائنا في حوش البيت لتسليتنا، لأول مرة في حياتي رأيت الشاشة الصغيرة، ولا زلت اتذكر افتتاح المحطة والبرنامج المسائي وافلام كارتون ثم نشرة الاخبار التي رأيت فيها لأول مرة رئيس العراق عبد السلام عارف.
كنت فوق سطح البيت الذي انا نازل فيه اتمعن في نجوم السماء الجميلة في رصفها، في توهجها، في نظامها الدقيق، اضافة الى المناظر والاعلانات الضوئية في كل اتجاه وعلى الاسطح والعمارات العالية كم كانت الالوان المختلفة للأضوية والنيونات تبهرني انا القادم من بلدة الفوانيس والسُرُج والشموع، واعجبت ايضا بالباص( الأمانة) خصوصا رقم( 4) الذي كان ينطلق من ساحة الاندلس الى ساحة الميدان، عبر شارع النضال وتونس والسعدون والرشيد، في شارع الرشيد كانت المخازن الراقية على طول الخط، وعلى الارصفة باعة المفرد من السكائر، والعلك، والحلويات، وحاجات رخيصة، وكتب قديمة، واغاني، وصور، ومغامرات بوليسية، وكنا نصادف ماء سبيل بارد، فنطفأ عطشنا من التجوال الطويل.
في الايام التالية صرت اكتشف تدريجيا العالم المحيط، فامشي مسافة ثم اعود واوسعها، لتشمل حديقة الاطفال التي تتجمع فيها عوائل المهاجرين من الشمال، كان بائعي المرطبات والباقلاء في مقدمة من نتقرب منهم، في تلك الحديقة المحاطة، بالياس والمياه الدائرة حولها بانتظام، وساحة النصر التي جلبت انتباهي فيها صيدلية الكندي وصيدلية قندلا، وكنيسة الارمن البيضاء الجميلة وامامها الممر ومن جانبيه الازهار والاشجار، حديقة الامة التي فيها بحيرة صغيرة يعوم فيها البط، وجسر صغير يعبره بخاصة الاطفال، ويرمون الشامية ليلتقطها البط، شارع السعدون والعبور الى الجانب الاخر حيث سينما السندباد، ومطعم نزار، واكسبريس فلسطين، ومحل عبد الكريم قنبر أغا للساعات، ومكتبة. في ساحة التحرير رأيت تمثال السعدون، والمنصة التي كان الزعيم عبدالكريم قاسم يخطب من فوقها، في شارع الرشيد شاهدت معرض شركة فتاح باشا، وسينما الشعب، وروكسي، وسينما الخيام، كم كانت السينما تستهويني وقد اخذني خالي الى سينما الشعب يوما في المربعة، حيث شاهدت فلم عنترة بن شداد الذي بقيت سنوات اروي لأقراني مغامراته، وفي عام 1966 اقتنيت نسخة من كتاب عنترة الذي لازالت بلاغته واشعاره ترن في اذني. مرة تمشينا انا وصديقين ولأول مرة من البتاوين عبر جسر الجمهورية الى الصالحية، حيث شاهدت مبنى اذاعة الجمهورية العراقية، ثم وصلنا حتى مستشفى السكك. مرة اخرى، بل قل مرات قطعنا شارع السعدون، عبر فندق بغداد، وسينما النصر، الى ساحة الجندي المجهول، فرأيت النار المتوهجة والجندي الذي يقطع مسافة قصيرة تحت النصب، وهو يحمل بندقية او رشاش مركب عليها الحربة. لم تنته جولاتي الا بعد رجوعي من بغداد مع بدء العام الدراسي في القوش.