اخر الاخبار:
واشنطن تعلن قتل قيادات حوثية كبيرة - الأحد, 23 آذار/مارس 2025 18:45
غبطة البطريرك ساكو يجتمع بكهنة بغداد - الأحد, 23 آذار/مارس 2025 18:30
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

من خدمة الاحتياط في الجيش العراقي إلى الجبل الصعب// توفيق ختاري

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

توفيق ختاري

 

من خدمة الاحتياط في الجيش العراقي إلى الجبل الصعب

توفيق ختاري

 

مذكرات أنصارية

في أيار من عام 1978، خلال الحملة العنيفة التي شنها نظام البعث الفاشي ضد تنظيمات حزبنا الشيوعي العراقي في وسط وجنوب العراق، وبدء الاعتقالات الفردية في محافظة نينوى، وبشكل خاص في سنجار، تم استدعائي لخدمة الاحتياط في الجيش. كنت في حينها امارس عملي الحزبي ضمن تنظيم قرية ختارة الكبيرة بشكل علني، وبحكم قرار الحزب، جرى تجميد نشاطي الحزبي، والجدير بالذكر كان هذا القرار يسري على كل شيوعي يلتحق بالخدمة العسكرية، فيصبح اتصاله فرديا ولا يسمح له بممارسة العمل الحزبي التزاما بقرار الحظر الذي أصدره نظام البعث الذي كان ينص على منع أي نشاط حزبي وسياسي للاحزاب ما عدا حزب البعث.

 

 بعد التحاقي مباشرة، تم نقلي الى معسكر قاطع أربيل، ثم إلى مقر لواء شقلاوة  مع صديق الطفولة الفقيد جوقي نزام ومجموعة من الجنود الآخرين، الذين تم استدعاؤهم أيضا لخدمة الاحتياط وهم من مواليد عام 1952. كانت مهمة اللواء حماية المنطقة ضمنها مدينة شقلاوة ودشت حرير ونازلين وجبل سفين، وكان مقر اللواء يقع في بداية مدينة شقلاوة، في اليوم الثاني من وصولنا الى معسكر اللواء تم تجميعنا في ساحة عرضات المعسكر لغرض توزيعنا على المواقع والربايا العسكرية في المنطقة، بدأ آمر اللواء يتحدث عن مهمات وواجبات الجيش والدفاع عن الوطن وغيرها من الامور التي تتعلق بواجبات الجنود، وخاطبنا بكوننا جنود سابقين ومدربين يمتلكون الخبرة القتالية والتجربة، قائلا لذلك سنعتمد على خبراتكم في تلك المهام. بعدما أنهى الآمر خطابه، جاء دور ضابط التوجيه السياسي، وطلب من الجنود الحاضرين والغير منتمين إلى حزب البعث ان يرفعوا ايديهم، فرفع 15 جنديا ايديهم، وأنا كنت من بينهم، حذرني صديقي الفقيد جوقي، الذي كان جالسا بجانبي معنفا ومتسائلا بتهكم لماذا ترفع يدك..؟ إذ كان جوقي نصيرا في حزب البعث انذاك، ويدرك خطورة الوضع وخفايا الامور، فقال قد يخلقون لك المشاكل وأنت في غنى عنها. ثم قال ضابط التوجيه السياسي، من غير المعقول ان يكون هذا العدد غير منتميا لحزب البعث لحد هذا اليوم، قائلا أين كنتم، ولماذا لم تصبحوا بعثيين، كان مستغربا من الأمر، تساءل عن أسباب ذلك، ثم قال مع من تعملون إذن..؟ أجبنا، نحن مستقلون، فقال (انجبوا ماكو مستقلين). ثم طلب عناويننا لغرض الاستفسار عنا في مناطقنا، واجبرونا على كتابتها، مرة أخرى جائني صديقي، معاتبا ها ألم اقل لك..؟ الم أنبهك بأن لاتقل انا مستقل...؟ اثر ذلك قال الضابط كل المستقلين سيرسلون ويتوزعون على ربايا قمة جبل سفين، قائلا هذا مكانكم ويمنع ابقاءكم في المعسكر الى حين التاكد من انتمائاتكم الحزبية، فعلا تم توزيعنا على ربايا جبل سفين البعيد من المعسكر، وجرى تسفيرنا إلى مقر السرية الذي كان يقع في بداية السلسلة الجبلية بواسطة السيارات، ومن هناك مشينا ساعتين على الاقدام إلى أن وصلنا إلى آخر ربيئة في جبل سفين، وكان الطريق إلى هناك عبارة عن ممر وعر جدا، فالوسيلتين الوحيدتين للوصول إليها هي البغال أو السير على الاقدام.

ومما يذكر، فقد كانت هذه الربايا خطرة جدا، إذ كان البيشمه ركه التابعين إلى القائد العسكري عولله سور والسيد رسول مامند من الحزب الاشتراكي الكوردستاني يصطادون الجنود أو يقعون قتلى عند التصدى لكمائنهم التي ينصبونها في الممرات المحيطة بالربيئة، إذ كانوا ينشطون هناك في ذلك الوقت للحصول على السلاح ويتحينون الفرص من أجل ذلك، وكانوا يلحقون المزيد من الخسائر في صفوف الجيش.

 

 وقبل التحرك من مقر السرية، ولحسن الحظ تم إعادة صديقي الفقيد جوقي نزام، والذي كان يعاني من مرض الكلية الى قلم سرية الفوج، وقبل الافتراق اتفقنا على أهمية اشعاري في حالة وجود أي خطر يهدد حياتي أو ما شاكل ذلك، وعدني بذلك واتلاف كل  التقارير التي تصل إلى وحدتي تحمل في طياتها خطرا معينا. وبعد ذلك جرى توزيعنا على الربايا، وكان موقعي في اخر ربيئة من تلك السلسلة الجبلية التي بقيت فيها الى حين تسريحي من خدمة الاحتياط مع 12 جنديا ورئيس عرفاء من أهالي الناصرية والعمارة كانوا من المستقلين أيضا أو أدعوا مثلي بأنهم كذلك.

 

كان موقع هذه النقطة العسكرية، يقع في أعلى قمة من جبل سفين وتشرف على مدينة شقلاوة، كان رئيس العرفاء وبقية الجنود يخافون النزول والتردد على المدينة بشكل مباشر بدون الذهاب عن طريق مقر السرية بشكل رسمي، خوفا من كمائن البيشمه ركة، لذلك كنت الوحيد الكردي الذي ينزل لتبضع احتياجات الجنود من دكاكين المدينة، إذ كنت انحدر نزولا بدون سلاح من الجبل مباشرة، دون المرور على مقر السرية الذي يمنع النزول اليها الا عن طريقه. تكرر نزولي إلى المدينة بهذه الطريقة لاكثر من عشر مرات، وقد كان الوصول اليها يستغرق ساعة واحدة نزولا والعودة إلى الربيئة ساعتين صعودا، وتحسبا لاحتمال وقوعي أو محاولة قتلي في كمين للبيشمه ركه، كنت أطلق العنان لصوتي وأغني في الطريق ذهابا وإيابا باللغة الكردية، رغم نشازه علاوة على عدم إيجاد الغناء، المهم كنت أمارس ذلك باعتباره وسيلة أمان وهوية عبور في هذه الممرات الجبلية الوعرة والخطرة.

 

 ذات مرة قبل التسريح، شعرنا بتسلل البيشمه ركة إلى محيط الربيئة، إذ كانوا ينوون اقتحامها، لكن الحرس كان يقظا وشعر باصوات تأتي من حولها، ولذلك هرع لإيقاظ بقية الجنود النائميين، فبادرنا بإطلاق النار على اطراف الربيئة،  وعلى أثر ذلك انسحب البشمركة دون الاشتباك معنا، في اليوم الثاني بعد التحري وجدنا أثرا لمجموعة الاستطلاع، إذ تركوا أعقاب سكائرهم بالقرب من هناك. قبل هذه الحادثة كانت اضبارتي قد وصلت إلى قلم الفوج بعد الاستفسار عني في المنطقة، وفيها معلومات من منظمة القوش لحزب البعث تؤكد علاقتي بالحزب الشيوعي، ونشاطي السياسي والتنظيمي ضمن صفوفه، هذا ما نقله لي صديقي الفقيد جوقي نزام ضمن لقاء نظمه بعدما أتصل بي تلفونيا، أدعى فيه بأنه مريض، وأنا بدوري طلبت من رئيس العرفاء إجازة مؤقتة، وأكد جوقي بأنه قام بتمزيق التقرير دون تسليمه إلى الجهات المعنية. ما قام به الفقيد جوقي وحجبه للمعلومات الواردة في الأضبارة واتلافها، كان سببا لعدم كشف علاقتي بالحزب.

 

 ومن الأحداث ألأخرى هناك في هذه النقطة العسكرية المعرضة للمخاطر دائما وقبل انتهاء خدمتي بشهر واحد، نصب البيشمه ركة كمينا بين مقر السرية وربيئتنا، قتل فيه جنديين وانتشال أسلتحهما، واستطاع البيشمه ركة الانسحاب بأمان، بالرغم من تقدم الجيش وتحليق الطيران السمتي وتمشيط المنطقة.

 

 في هذه الأجواء التي كانت وتيرة حملة نظام البعث القمعية ضد أعضاء ومنظات الحزب تشتد يوما بعد آخر، حتى شملت قرانا مثل ختارة ودوغات وسريجكا وغيرها من القرى التي كانت تنشط فيها منظماتنا، وقبل إنتهاء خدمتي بفترة قصيرة، كنت في إجازة لدى عائلتي في ختارة، وكانت صلتي الحزبية في وقتها بالرفيق خديدة حسين (أبو داود) مباشرة، إذ كان سكرتيرا للجنة قضاء تلكيف، ففي أول لقاء معه، طرحت عليه فكرة تسليم الربيئة التي أخدم فيها بكامل معداتها من السلاح والعتاد والمدفع إلى الرفاق في مدينة شقلاوة بعد التنسيق معهم، وبهذا أختتم عسكريتي في خدمة الاحتياط، لكن أبو داود أبدى اعتراضه على ذلك، بسبب عدم وجود موقف واضح للحزب بصدد الحملة البربرية ضده ومنظماته وانهيار الجبهة بين حزبنا وحزب البعث.

 

في نهاية تشرين الثاني من عام 1978 أنهيت خدمة الاحتياط، وكانت حملة الاعتقالات على قدم وساق وفي ذروتها من قبل النظام، فبعد عودتي إلى القرية بيومين، استلمت توجيها حزبيا بضرورة التخفي عن الأنظار، في الوقت الذي كنت أنوي الذهاب الى دائرة تجنيد تلكيف لاثبات تسريحي واستلام أوراق التسريح ودفتر الخدمة العسكرية. وكان هناك من يروج ويدعو الشيوعيين للاستسلام وتقديم البراءة من الحزب في دوائر الامن، وفي نفس ذلك الوقت بدأت الجهات المعنية بربط شبكة كهرباء قرية ختارة ولأول مرة في تاريخها. في تلك الأجواء المشحونة، بدأنا انا وأبو داود بربط شبكة كهرباء دارنا، بالرغم من عملية الاختفاء، بعد الانتهاء من ذلك في نفس اليوم، توجهنا ليلا لحضور اجتماع مخطط له مع الرفاق، في هذا الاجتماع جرى اتخاذ قرار الاختفاء في هضبة (كند) قرى ختارة ودوغات وسريشكه إلى حين معرفة وجهة الحزب.

 

مع نهاية عام 1978 أصبح عددنا يكبر يوما بعد آخر، بعد أن كان في البداية محدودا يشمل كوادر ختارة، وهم كل من ابو داود واشقاء ناظم الفقداء درويش وألياس وعلي وعمه الفقيد شيخ شمدين وأنا توفيق ختاري وسلو جندي والد ابو حربي ومجموعة من قرية دوغات وهم ابو ماجد (علي خليل) وابو فؤاد (جوقي سعدون) وابو عادل وأبو ليلى وخديدة أسمر وكورو عرب وعبدال مراد وعدد اخر لا اتذكر اسمائهم، ومن قرية سريجكا كانت مجموعة اخرى بقيادة خلف عساف وخدر شيبو وآخرين ومجموعة من الطلبة والشباب النشطين من ختارة ودوغات وهم ناظم ختاري وسعيد دوغاتي وهادي دوغاتي كانت مهمتهم رفد المجموعة المختفية في الكند بالمعلومات والاكل والماء حتى اصبح عدد المختفين على شكل مجاميع صغيرة يقترب من الثلاثين شيوعيا.

 

 في الايام الاولى من الاختفاء انسحب والد ابو حربي (سلو جندي) بسبب ضغط العائلة عليه وبشكل خاص شقيقه واقناعه بتسليم نفسه الى اجهزة النظام وتقديم البراءة من الحزب. وفي نفس الفترة ألتحق بنا رفاق آخرين وكذلك خليل جندي وبير الياس من مدينة الشيخان وأصبح عددنا بحدود 40 فردا، وكان معنا قطعتي سلاح فقط نحمي بها أنفسنا مؤقتا مع عدد من المسدسات. انتشر خبر اختفائنا وعدم التواجد العلني في المنطقة بين الناس دون أن يعرفوا الكثير عنا. كانت في الكند مخابيء طبيعية عديدة غير مكشوفة أو غير مكتشفة من الأخرين أصلا، تتحمل إخفاء اكثر من 200 شخص في مواقع تحت الارض كانت عبارة عن أنفاق حفرتها مياه الأمطار على مر الزمن، يتعذر على السلطات الأمنية أكتشافها، استفدنا منها كثيرا في فترة عملنا الانصاري والتنظيمي، إذ أصبحت العديد منها منطلقا للتواصل مع منظمات الحزب في مختلف مدن العراق عبر تسلل الكوادر الحزبية إلى الداخل من هناك، علاوة على الاستفادة القصوى منها أثناء عمليات الانفال عام 1988 والانتقال منها إلى سوريا عبر منطقة سنجار.

 

 كان عددا كبيرا منا يختفي في نفق تحت الأرض في (كندى ختارى) ويسمى محليا (خفس النيسو) وأصبحت معاناتنا وصعوباتنا متعددة، وبدأنا نشعر بالمخاطر بسبب طول فترة الاختفاء، فقد كان من الممكن أن تخطط قوى الأمن لاقتحام مخابئنا، عند المساء وقبل غروب الشمس أختفي خليل جندي من بيننا، ما دفع ذلك أبو ماجد لاتخاذ قرار الانتقال إلى كند دوغات لتجنب أية مخاطر تنجم عن أختفاءه، وفي الطريق إلى هناك تعرض عدد من الرفاق إلى الإرهاق والأعياء الشديدين، المهم بعد الوصول إلى مخبأ آخر في هضبة دوغات، جرى تكليفي أنا وألياس لمتابعة أخبار شيخ خليل في ختارة، ومن هناك عرفنا بأنه ذهب لتسليم نفسه إلى السلطات. 

    

رغم كل شي استمر ازدياد عددنا، ولكن بدأ الجو يميل إلى البرودة وأصبح يداهمنا وخاصة في الليل، كون هذه الآنفاق كانت تحتفظ بالرطوبة التي تتحول إلى بردوة شديدة في الليل، علاوة على ذلك أصبحنا نعاني من صعوبات حقيقية بشأن تدبير المأكل ومياه الشرب لهذا العدد الكبير، فلذلك كنا نضغط على الرفاق أبو ماجد وأبو فؤاد وأبو داود بأهمية اللقاء بالرفيق أبو جوزيف (توما توماس) لإيجاد مخرج لموضوع تجمعنا وضرورة اتخاذ قرار للتوجه الى جبال كردستان في أسرع وقت ممكن.

 

 استمر تنقلنا بين كند ختارة ودوغات في الوقت الذي كان التنسيق بين مجاميع قرى الدشت على مدار اليوم، وتقرر أخيرا أن يتم اللقاء بالرفيق أبو جوزيف من قبل الرفاق، وذلك في القوش ليلا، ولكن بعد وصولهم إليها تبين عدم وجود ابو جوزيف هناك، وعليه تم اللقاء مع سالم اسطيفان، إذ كان في ذلك الوقت عضوا في مكتب محلية نينوى ونائب سكرتيرها، ومن الجدير قوله وقبل الذهاب الى موعد اللقاء، اجتمعنا في أحد تلك الأنفاق وهناك تلقينا توجيها بالعودة إلى بيوتنا لغرض توديع عوائلنا وتكملة استعدادتنا وتوفير بقية مستلزمات الالتحاق بالجبل. كان هذا القرار محسوما بالنسبة إلى المجموعة المختفية بشأن الالتحاق بالجبل، ولكن كنا ننتظر قرارا حزبيا يشرعن توجهنا، والتحرك الفعلي نحو الجبل، وحددنا الساعة الـ 12 ليلا موعدا للتجمع من جديد في قرية مكنان المهدمة التي لاتبعد عن جبل القوش سوى 5 كيلو مترات.

 

 في ختارة وقبل خروجي من البيت التقيت صدفة بملحم معجون وهو رفيق كبير بالسن وبسيط، فاخذ يستفسر عن وجهتنا، قلت له نحن ذاهبون الى الجبل، وسوف نبدأ من هناك اعلان الكفاح المسلح ضد نظام البعث، فقال إذن سأنضم إليكم  وفي الحال، حاولت اقناعه بالعدول عن رأيه، كونه المعيل الوحيد لعائلته، لكنه أصر على موقفه بحزم شديد، فاستدعى زوجته الحديثة الولادة وأستشارها في قراره، بالرغم من وضعها الصعب فإنها لم تمنعه بل شجعته على قراره، عند ذهابه لجلب حاجياته مصطحبا زوجته وأطفاله قبل مغادرتنا أخذ يوجهها بضرورة الاهتمام بالبقرة وابنه، ضحكت أنا، وقلت له ابنك وافتهمنا لكن البقرة لماذا.؟ قال زوجتي بلا حليب، واعتماد ابني في التغذية سيكون على البقرة، وان ماتت البقرة سوف يموت ابني، قلت له انت محق بهذا، خرجنا نحن الثلاثة ليلا أنا والفقيد الياس وملحم معجون، وانطلقنا نحو المكان المتفق عليه مع بقية المجموعات وذلك في قرية مكنان وأصبح  ملحم يقودنا، في الطريق بين التلال والوديان مرورا بمنطقة (كه ر كاميش) التي تكثر فيها برك المياه وتنبت على جوانبها الاعشاب مثل البردي والقصب، ملحم لم ينتبه اثناء سيره لهذه البرك المائية، فسقط في واحدة منها، قمنا بسحبه منها، وفي الحال بدأ بنزع ملابسه وعصرها، أخذ يسير معنا من غير ملابس، لحين وصولنا الى موقع تجمع الرفاق، وكان يتحرك مسرعا كي لا يشعر بالبرد، وهناك أخذ يرتدي ملابسه التي لم تجف تماما، أسنانه كانت تصطك من شدة البرد. بقينا هناك الى ما بعد الواحدة ليلا ننتظر عودة الرفاق الذين ذهبوا للقاء أبو جوزيف، وكان عددنا يبلغ بحدود 40 رفيقا.

 

  وعندما عاد الرفاق الثلاثة من القوش كانوا في مزاج سيء، ولما استفسرنا عن السبب، قالوا لم نستطع اللقاء مع أبو جوزيف لعدم تواجده هناك، ولكن استطعنا اللقاء بسالم اسطيفان الذي كان يشغل نائب سكرتير المحلية، وتحدثنا معه عن وجهتنا ومقترحاتنا بخصوص الالتحاق بالجبل. فعبر عن رفضه القاطع لذلك، وكان يحمل رسالة من أبو جوزيف يؤكد فيها على ضرورة التفرق والاختفاء كل حسب امكانياته أو التوجه الى بغداد لمن يستطيع لحين معرفة وجهة الحزب، لم يستوعب الرفاق هذا الموقف الغير محسوم والرد الغير مقنع ولم يتقبلوه واخذوا ينتقدون موقف الحزب، مؤكدين العودة إلى بيوت الأقرباء والمعارف بأنه ليس حلا صحيحا لوضعهم، وهناك من لايستطيع ان يذهب الى بغداد. قال ابو ماجد هذا هو توجيه الحزب، وينبغي الالتزام به.

 

 لم يعد أمامنا خيار آخر بعد سماع هذا القرار، فتفرقنا في اليوم التالي، وعاد البعض لبيوتهم وسلموا أنفسهم الى السطات الامنية في القوش وبصموا على أوراق البراءة من الحزب، وقسم اخر توجه الى بغداد للاختفاء فيها، وبقى عدد آخر منهم ممن ليس لديهم نشاط سياسي واضح يعيش وضعه الطبيعي في المنطقة.

 

كان في حوزة المجموعة قطعتين من السلاح، أخفيناها بتوجيه من أبو ماجد الذي أكد على سرية مكان الإخفاء وعدم إخبار ملحم الذي طلب العودة إلى البيت بوجود السلاح معنا، وأراد أن يرافقني في العودة، فأكدت له بعدم عودتي إلى البيت وعليه أن يتدبر أمره  لوحده أو مرافقة جماعة دوغات ومن هناك المواصلة الى ختارة، وافق ملحم على المقترح، أما أنا وألياس فذهبنا لوحدنا مصطحبين السلاح لاخفائه في بيتنا. في الصباح عند الفجر سمعنا طرقات قوية على باب بيتنا، فوجدنا ملحم  يقف أمامه واخذ يعاتبنا على تعاملنا معه، ولكننا خففنا من غضبه بحجج معينة.

 

 في اليوم التالي فكرت بالذهاب الى قضاء تلكيف لمراجعة التجنيد لتثبيت تسريحي من خدمة الاحتياط وأستلام وثائقي بذلك، ولكن كنت أخشى من متابعة الجهات الأمنية لتحركنا، فقررت الانتظار لعدة أيام أخرى، وفي هذه الأثناء غادر كل من ابو داود وابو ماجد وابو فؤاد أي في يوم 28-12-1978 المنطقة متوجهين إلى بغداد. وهكذا تسربت مجموعات أخرى إلى هناك مثل الرفاق عادل عيسى (سعيد آلآطوشي) وناظم ختاري واشقائه الفقيدين درويش وعلي وعمه الفقيد شمدين والفقيد كامل شقيق أبو داود ورفاق اخرين لا أتذكر أسمائهم، وانا أنتظرت مع الفقيد ألياس عسى أن أستطيع الوصول إلى تجنيد تلكيف ومعالجة مشكلة تسريحي.

 

 في صباح يوم 7-1-1979 توجهت ملثما الى تللسقف، وكان لعمي أبو حلمي فرن صمون هناك، فذهبت إليه كي أعلمه بذهابي للتجنيد لمتابعة وضعي في حالة اعتقالي أو ما شابه ذلك، ثم توجهت إلى تلكيف وهناك دخلت بناية التجنيد وذهبت إلى غرفة القلم وقدمت كتاب التسريح للجندي الموظف، فعاتبني بغضب على التاخير، لكنه رغم ذلك انجز مهمة تسريحي بشكل سريع، وبذلك أصبحت حرا في التنقل بعد إستلامي دفتر الخدمة.

 

يوم 10- 1- 1979 غادرنا انا والفقيد الياس المنطقة متوجهين الى بغداد. في اليوم الثاني من وصولنا إلى هناك التقينا مع الرفاق الذين وصلوا قبلنا، منهم أبو داود واستفسرنا مباشرة عن الوجهة التالية وهل استطاعوا اللقاء مع قيادة الحزب، فأجاب بالنفي، قائلا لحد الان لم نفلح بذلك، وعليه قررنا الاختفاء لحين وضوح الرؤية بشأن مصيرنا، وفي هذه الأثناء واجهتنا الكثير من المتاعب والصعوبات في انتظار قرار حزبي  يحدد توجهنا اللاحق. في بغداد عملنا كثيرا حتى استطاع أبو داود اللقاء بقيادة الحزب ممثلة بالرفيق الفقيد أبو مخلص الذي لم يوجهنا إلى شيء ولكنه لمح إلى إمكانية الاتصال بأربيل حول رغبتنا في الالتحاق بالجبل بعد إلحاح أبو داود بوجوب إيجاد حل لمجموعة سهل الموصل المتواجدة في بغداد، وعليه بذلنا جهودا من أجل ذلك، وحققنا اتصالا بأربيل، ونجحت مساعينا فعليا بعد الاتفاق مع لجنة إقليم كوردستان للحزب حول توجه مجموعتنا إلى أربيل ومن هناك سيتدبر أمر إرسالها والألتحاق بالجبل، وعليه قررنا في 28-2-1979 أنا والفقيد الياس مع الفقيدة اختي وأطفالها العودة الى قرية ختارة بعدما جرى تبليغنا بقرار التوجه الى أربيل وذلك مباشرة من هناك، بعد وصولنا الى ختارة ومكوثنا ليومين في البيت تركنا انا والياس عوائلنا وقريتنا وراءنا في يوم 28-2-1979 متوجهين الى اربيل حيث مقر المحلية هناك.

 

وصلنا بواسطة سيارة تاكسي إلى المقر ودخلناه بحذر شديد، كان الرفيق أبو أسمر يقف عند بابه حارسا وهو كبير في السن وقضى عمرا طويلا في مقرات الحزب في الجبل وفي الداخل، استقبلنا بحرارة وأدخلنا الى قاعة الضيوف وهناك فوجئنا بوجود عدد  كبير من الرفاق الذين سبقونا، إذ كان يتجاوز الـ 15 رفيقا. أغلب هؤلاء الرفاق كانوا عمالا يعملون في بغداد، يرتدون ملابس واحذية مدنية لا تناسب أبدا طبيعة الطرق الجبلية. لم ينبهنا أحد من المسؤولين بان الطريق التي سنسلكها طويلة وصعبة، ولم يتم تجهيزنا بالملابس والاحذية المناسبة لهذه الرحلة الشاقة، بقينا في داخل المقر حتى يوم 21. 03. 1978 ولم يسمح لنا بالخروج حتى الى الباب الخارجي للمقر. عندها غادرنا المقر بسيارتين بحجة الاحتفال بعيد نوروز في منطقة دشت كويسنجق، هناك التقينا بمجموعة من الرفاق من تلك القرى بقيادة مام كاويس، بقينا ليلة في قرية ايلنجاغ وليلة ثانية في قرية داربه سه ر، وفي يوم 22.3.1978 مساء بدأنا بالرحلة الشاقة نحو هدفنا وهي منطقة ناوزنك الحدودية بين العراق وايران.

 

 كان عددنا أكثر من 20 رفيقا، وهم 1- علي خليل 2- جوقي سعدون 3- توفيق ختاري كاتب هذه السطور 4- ناظم ختاري  5- خديدة طيبان 6 - الياس عبدي شقيق ناظم 7- علي عبدي شقيق ناظم 8- عيدو برهيم 9- علي برهيم 10- شاكر سليمان 11 آودي حسن 12- كريم درويش 13- كامل حسين 14 صباح كنجي 15- خالد بحزاني 16- عيدو مراد 17- حيدر سليمان زراق 18- ماموستا رزكار 19- أبو اسمر 20- الدليل رفيق خدر 12- الدليل رفيق محمود 22- مام قادر.

 

 خلال هذه الرحلة واجهتنا الكثير من المتاعب بسبب وعورة الطرق الجبلية والاحذية الرديئة التي لاتصلح للمشي اطلاقا بالاضافة الى الملابس التي لاتناسب الظروف الجوية في المناطق الجبلية وكذلك عدم قدرة أغلب الرفاق على المشي لمسافات طويلة تتجاوز الـ 5 ساعات أو أكثر وفي ليالي مظلمة. في الساعات الاولى من المسيرة فقد أبو أسمر قدرته على المواصلة وأفترش الأرض طالبا تركه هناك، وكنا لازلنا في بداية الطريق وفي المناطق القريبة من المواقع العسكرية والشارع العام الذي يربط كويسنجق باربيل، مما اضطرنا ذلك إلى تركه قريبا من الشارع وبادر صباح كنجي باعطاءه معطفا كان يلبسه، ليتدفأ به لحين شروق الشمس، ثم العودة الى مقر محلية اربيل. أما نحن فواصلنا مسيرتنا نحو جبل سفين عبر جبل باواجي، وصلنا الى منطقة سماقولي ومكثنا هناك الى وقت غروب الشمس، فتحركنا للصعود الى جبل سفين باتجاه قرية نازلين مسيرة ثلاثة ساعات صعودا ونزولا،  تمزقت احذيتنا في الطريق قبل الوصول الى قرية نازلين التي تناولنا فيها طعام العشاء، ولحسن حظنا كان في القرية دكان يبيع أحذية جبلية فاشترى كل من تمزق حذاءه زوجا من تلك الأحذية، ثم واصلنا مسيرتنا عبر عدد من القرى، ومما يؤسف له فأنا لا اتذكر اسماءها، وكنا نعبر في بعض الاحيان بالقرب من المواقع والثكنات العسكرية، في اليوم الخامس من المسيرة تسلقنا جبل شاور وبعد ساعتين من الصعود وصلنا الى قرية شاور المعروفة بتبوغها، مكثنا هناك ليلة واحده، كانت شاور بعيدة شيئا ما عن المواقع العسكرية، أتذكر بأنني أشتريت ربع كيلو تبغ منها، وهناك تم اللقاء مع مفرزة الحزب الاشتراكي الكردستاني، إذ رافقنا عنصر منهم كدليل ليساعدنا على العبور من منطقة قلعة دزي التي تكثر فيها المواقع العسكرية، استطعنا تجاوز هذه المنطقة الخطرة بسلام. وبهذا يكون قد دخلنا الى المناطق والقرى الحدودية الفارغة من السكان حيث تم ترحيلهم من قبل نظام البعثي الفاشي واسكانهم في المجمعات.

 

 هنا واجهتنا المتاعب والصعوبات الكبيرة بسبب نفاذ الطعام لدى الرفاق وأغلبهم أصبح يعاني من التعب الشديد ومن البرد والجوع وآلام في الارجل، وأنهكتهم تلك الأيام الماضية فلم يستطيعوا مواصلة المسيرة، عليه قررنا البقاء في هذه المنطقة بالرغم من خطورتها بسبب المواقع العسكرية المشرفة على المنطقة، ولأن البرد كان شديدا قامت مجموعة من الرفاق باشعال النار، فتلقوا قذائف المدفعية على محيط نقطة تواجدهم قادمة من تلك الربايا العسكرية، ولكن لحسن الحظ وقعت على مدى غير قاتل.

 

أما انا ومعي مجموعة من الرفاق الذين لايزال لديهم القدرة على المشي واصلنا الطريق، لانه لم يبق للوصول الى موقع ناوزنك اكثر من ثلاثة ساعات، وبعد ساعة من السير، صادفتنا بيوت رعاة الغنم وهي تسمى باللغة الكردية (رش مال) فرحنا كثيرا لأنهم ساعدونا واستطعت ان اخذ منهم بغلا وكمية من الخبز وعدت الى المجموعة المتبقية، أما الرفاق الآخرين فواصلوا طريقهم الى مقر ناوزنك إذ وصلوا إلى هناك عند الظهيرة، ونحن أيضا وصلنا إلى هناك بشكل متأخر وكان هذا في 31-3- 1979 يوم ميلاد الحزب الذي أحتفلنا به رغم التعب والأرهاق الذي أصابنا.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.