اخر الاخبار:
واشنطن تعلن قتل قيادات حوثية كبيرة - الأحد, 23 آذار/مارس 2025 18:45
غبطة البطريرك ساكو يجتمع بكهنة بغداد - الأحد, 23 آذار/مارس 2025 18:30
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

الزمن!// د. ادم عربي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

د. ادم عربي

 

عرض صفحة الكاتب 

الزمن!

د. ادم عربي

 

لا يوجد شيء أوْ ظاهرة أكثر تعقيداً وإثارة للحيرة من "الزمن". فعلى الرغم من كلِّ الجهود التي بذلها العلماء العباقرة مثل آينشتاين وهوكينغ وغيرهم لتفسيره وتبسيطه، يبقى الزمن لغزاً غامضاً يصعب على العقل البشري فهمه بشكل كامل. بلْ يمكن القول إنه اللغز الأكبر الذي يواجه البشرية، حيث يتحدى كل محاولات الفهم والتفسير، ويظل سراً محيراً للأفكار والعقول.

 

في هذه المقالة، لن أخوض في الحديث عن "الزمن" من منظوريه الفلسفي والفيزيائي، ولن أتطرق إلى تفسيراته كما قدمها آينشتاين في نظريتي "النسبية الخاصة" و"النسبية العامة"، أو كما أوضحته النظرية الكونية الكزمولوجية الأبرز في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وهي نظرية "الانفجار الكبير". فالمجال هنا لا يتسع لمثل هذه التفاصيل العميقة.

 

بدلاً من ذلك، سأركز على كيف يؤثر فهمنا "العام" أوْ "الشعبي" للزمن على طرق عيشنا وتفكيرنا، وكيف يشكل نظرتنا إلى الحياة والأشياء من حولنا.

لطالما أثار إعجابي ذلك الفلاح المتواضع الذي ورد في قصة قرأتها في طفولتي، حيث تحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل بحكمة تفوقت حتى على حكمة بعض الفلاسفة. كان يرى أن الحياة التي يعيشها، كما يفهمها، هي مجرد "اللحظة الحالية"، أي "الآن" فقط. فالماضي بالنسبة له قد مضى وانتهى، ولن يعود أبداً، فلماذا نستمر في العيش والتفكير وكأننا ما زلنا مرتبطين به، أو كأنه لم يتركنا بعد؟!

 

أما بالنسبة للمستقبل، فهو لم يأتِ بعد، ولا نملكه ولا يملكنا، وعلمه يعود إلى الله وحده، علام الغيوب. فلماذا نعيش وكأننا قد وصلنا إليه بالفعل، أو كأننا جزء منه؟!

 

اللحظة الوحيدة التي نمتلكها في هذا الزمن هي "الحاضر"، أو ما نسميه "الآن". علينا أنْ نعيش هذه اللحظة بكلِّ طاقتنا وقدرتنا على الحياة، وأنْ نتفاعل معها بشكل كامل، لأنَّ هذا التفاعل هو الصلة الوحيدة بيننا وبين "الواقع". النتائج التي تترتب على هذا التفاعل تعمل كممحاة تمكننا من مسح الكثير من إرث الماضي الذي لا نرغب فيه، كما أنها تشكل "البذور" التي تحتضن بداخلها "المستقبل"، والذي سيأتي من نموها وتطورها.

 

قليلون هم من يعيشون ويفكرون بطريقة تعكس فهمهم العميق لحكمة ذلك الفلاح البسيط، الذي أظن أنَّ الشاعر إيليا أبو ماضي كان يشير إليه عندما قال في إحدى قصائده: "أحكم الناس في الحياة أناسٌ علَّلوها فأحسنوا التعليل".

معظمنا يعيش تلك "اللحظة"، أي "الحاضر" أوْ "الآن"، في حالة من الانفصال التام عنها، وكأنها لا تحمل أي قيمة في مقياسنا، فلا نؤثر فيها ولا نتأثر بها. تفكيرنا منشغل إما بما مضى أو بما لم يحدث بعد، مما يجعلنا أسرى لزمنين غير واقعيين، غير حقيقيين، هما "الماضي" و"المستقبل". هذا الانفصال الفكري والنفسي والعملي يحكم علينا بالبقاء عالقين في هذين الزمنين الوهميين.

 

"الشخص الذي يعيش خارج نطاق "اللحظة الراهنة"، أي بعيداً عن "الحاضر" أوْ "الآن"، يمتلك حالة نفسية تؤدي إلى الأذى أكثر من الفائدة. هناك شعوران يسيطران عليه دائماً: الشعور بالندم والحسرة على ما مضى وانتهى، وكذلك، الشعور بالخوف والقلق من المستقبل والآتي.

 

تخيلوا تبعات الفعل والعمل الناتجة عن نفسية شخص يعيش الحاضر وهو مغرق في مشاعر سلبية تضر أكثر مما تنفع، وتعبر عن علاقة غير سوية بالماضي والمستقبل.

 

يكفي أنْ يسيطر الندم والحسرة على الماضي على الشخص حتى تتلاشى الحكمة من تفكيره ورؤيته للأمور وما مضى من حياته، فالماضي في جوهره أمر غير قابل للتغيير أو الإلغاء.

كثيراً ما نسمع شخصاً يقول: لو أتيح لي العودة بالزمن إلى الوراء، لكنت قد فعلت هذا الأمر، أو تجنبت فعل ذاك!

 

إنها حكمة تفتقر إلى جوهر الحكمة، لأن التوصل إلى قرار بفعل شيء ما أوْ الامتناع عنه إذا عادت عقارب الساعة إلى الوراء، لم يكن ممكناً لو لمْ يمر الشخص بتجربة القيام به ومعاناة تبعاتها. كيف يمكن لشخص أنْ يقول: "لن أفعل هذا الذي فعلته" إذا لم يخض تجربة الفعل وتحمل عواقبها؟"

 

ظهرت الحكمة الزمنية للفلاح البسيط في إدراك اللحظة المناسبة بوضوح في قرار لينين بتحديد موعد الثورة البلشفية في 24 أكتوبر 1917 حسب التقويم الروسي القديم. فقد أوضح لينين لرفاقه أنَّ التوقيت الأمثل هو الرابع والعشرين من أكتوبر، لأنَّ البدء في الخامس والعشرين سيكون متأخراً جداً، بينما في الثالث والعشرين سيكون مبكراً أكثر من اللازم. هذه الرؤية الدقيقة للزمن تعكس فهماً عميقاً لأهمية التوقيت في تحقيق الأهداف الكبرى.

إنَّ استخدامنا "ميزان الزمن" في تقييم أقوالنا وأفعالنا يجعلنا ندرك "الأضداد" في حياتنا ومواقفنا وأفكارنا على أنَّها "نسبية الحقيقة" ، فالقرار الذي يبدو خاطئاً قد يكون صحيحاً إذا اُتخذ في غير وقته المناسب، سواء كان قبله أو بعده. وبالمثل، فإن القرار الصحيح يمكن أنْ يكون ما اعتقدناه خطأ سابقاَ، لكنه أصبح عين الصواب عندما اُتخذ في الوقت الملائم، سواء اليوم أوْ في المستقبل.

 

لا قيمة تُذكر لـلتجارب إنْ لمْ نستخلص منها الدروس والعِبر التي تُثري حياتنا، فـالماضي يُعد مرجعاً للعِظة والتعلم فقط. أما المستقبل، فهو مصدر الأمل الذي يمنحنا الطاقة لمواصلة العيش في الحاضر. في المقابل، يظلّ الحاضر هو اللحظة الحقيقية التي نعيشها، وهو مجال التفاعل مع الواقع بكل تفاصيله. ومن يفقد ارتباطه بـ "الآن"، سواء في أفكاره أوْ مشاعره أو أفعاله، يفقد بذلك جوهر الحياة ذاتها!

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.